لو أردنا توصيف عصرنا اليوم، نعطيه صفة السرعة، ميزة التواصل، وخاصة التغيّرات؛ ولو أردنا تقييم عصرنا اليوم، نسميه «الزمن الصعب»، لأنّه يحمل المفاجئات، يقلب المقاييس، ويبدّل الأولويّات، حتى أنّه أنزل الإنسان عن قمّة المخلوقات، هو من كان قبلة الخلق في قلب الخالق.
يتساءل ابن القرن الحادي والعشرين، وتتكاثر في ذهنه التساؤلات: بالأمس، أين كنّا؟ اليوم، ماذا بعد؟ وغداً إلى أين؟ تساؤلات كلّها وليدة الذهول أمام تكدّس الأحداث وجسامتها وأحياناً كثيرة أمام ضراوتها. كلّ مرّة يجد جواباً تتولّد عنده أسئلة أكثر. ما أن يطال حقيقة حتى يواريها سيل من الوقائع وفيض من الاكتشافات، فيعود من جديد غرًّا باحثاً يلتزم الجهد أكثر والسعي أكبر، ويشعر أنّ الزمن يسبقه، فيتصارع مع قواه ليدفع بها حتى تلبّي رغباته؛ ويسمي حياته مغامرة.
إنّه حقًّا «زمن صعب». إذا أمعنّا النظر ووسّعنا الرؤيا نجد أنّ صعوبة زمننا لا تأتي من التطوّر ومقتضياته، فهذه طبيعة جديدة متى اعتدنا دورتها نقبل تسلسلها ومفاعيلها ونكتسب ثمارها؛ ولا تأتي أيضاً من تبدّل عوايدنا، فهذه تنمو تبعاً لحاجاتنا ونوعية مسلكيّتنا المجدّدة. تولد الصعوبة فعلاً من تحوّل في القيم يؤثّر في العلاقات الإنسانيّة وفي سلوكيات الإنسان حتى فقدان الضمانات؛ تأتي الصعوبة حقًّا من ضياع في التوجّه الذي يطمئن ومن خوف على المستقبل، وعندها يرافق التهديد مسار البشريّة، لأنّ التحدِّيات قوية، وأبواب المجهول مشرعة.
إنّه زمن صعب لمن يقرأ تسارع أحداثه وتراكم مخلّفاته.
إنّه زمن حزين لمن يرى في حاضره نسياناً لماضيه.
إنّه زمن غريب لمن ينتظر فرجاً في مستقبله، ولا يرى ضمانات في حاضره.
لكنه زمن «الخيارات الحازمة» لمن يؤمنون، ولمن تكون «كلمة الله مصباحاً لخطاهم». حالة عصرنا اليوم تشكّل بالنسبة إلينا، نحن أبناء الإيمان، دعوة إلى الأصالة وعودة إلى الجوهر لمواكبة التطوّر، «منتهزين الوقت الحاضر، لأنّ هذه الأيام سيئة» (أفس 5/16)؛ إنّها دعوتنا الخاصة إلى «افتداء الوقت»، منتهزين الفرصة (راجع قول 4/5). لقد جاء زمن «الرحمة»، وهي خيارنا الحازم، حتى نخرج عالمنا من «برودته» ونكسبه «حرارة أكثر»، حرارة تهزّ اللامبالاة لتحوّلها إلى نهضة حياة؛ حرارة تشعل الجهل لتغلبه بالمعرفة حتى الحب؛ حرارة تحرّك الاستسلام حتى توقظ الضمائر إلى القِيَم… زمن الرحمة زمننا، حتى نعود نعتلي «قمة الخليقة»، نحن قبلة قلب الخالق، ونحتضن الزمن في صعوبته، فيصير «زمن رجاء».