العميد الركن المتقاعد عبد الله واكيم
المقدّمة
الرحمة هي العالم الأَعْظم والنهائي، هي طريق تجمع الله والإنسان. وهي دئماً أَكبر من الخطيئة.
كلمة رحمة معناها: الذي ينحني على شفاء وبؤس البشر. رَحَمني: هي الأحشاء، رحم الأم، والحنان، والرأفة والطيبة والحنو وليست علامة ضعف بل حقيقة ملموسة يكشف الله من خلالها عن وجهه كأمّ وأب «من رآني رأى الآب». يسوع الناصري جَسَّد الرحمة لأنّه هو وجهُ الآب فقمَّةُ أعماله الخلاصيّة: العشاء السرّي عملٌ بإيطار رحمة الله «فإنّ إلى الأبد رحمته». والرحمة هي دَليل على مصداقيّة الكنيسة، رحماء كالآب هو عنوان هذه السنة.
والرحمة ليست خاصّة فقط بالآب، نحن رُحمنا، فعلينا أن نعيش الرحمة مع الآخر لأنّ الغفران مبدأ إلزامي.
لم يكن الحبّ ابداً كلمة مُبهَمة، الحبُّ هو طريقة حياة مَحْسوسة وملموسة، الحبّ ينكشف بالنوايا بالمواقف بالتصرّفات، الحبّ حالة تُعاش كذلك الرحمة. الله يُريدنا أن نكون على ذات المَوْجة مع المسيح. الرحمة هي الرابط بين المسيحيّة وباقي الأديان وما من أحد يمكنه أن يحدّ من رحمة الله. أن ترحمُ أي أن تشعر بأحشاءك بحاجة الآخر بشعور عميق يدفعك لعمل ما.
يقول البابا فرنسيس: «أتمنى أن تكونَ هذه السنة مطبوعة بالرحمة» كما يدعو إلى المصالحة مع الربّ في سرّ الاعتراف، وإلى التمييز والسهر، الإخلاص والشفافيّة. فيسوع يقول: «أريد رحمة لا ذبيحة». الني «هوشع» في الفصل السادس، الآية السادسة يؤكّد أنّ الأولويّة هي للرحمة.
عالم اليوم بعيدٌ عن عيش الرحمة، فكأنّه رافض إله الرحمة. هدفه أن ينزع هذه الكلمة من فكر الإنسان. حضارتنا هي حضارة اللامبالاة الله قريبٌ وقريبٌ جدًّا، إذا سمحنا له أن يلمُسنا، عندها نتغيّر ونشبهه.
عمل الرحمة ليس شفقة، هو يتطلّب منّا التطوّع والالتزام. يَعيش الرحمةُ الجسديّة والروحيّة. «يوحنا الصليب» هذا القديس العظيم يقول: «سَوف نُحاسَب ونُحاكم على الحبّ»، هذه الدعوة موجّهة لكلّ واحدٍ منّا. إنّ إحترام القانون مهمّ، لكن ليس حاجزاً بيني وبين الآخر.
في مكانٍ آخر يقول البابا «لنوجّه أفكارنا نحو أمّ الرحمة مريم»، حُضورها معنا يقوّينا حتى نتذوَّق ثمار الرحمة الإلهيّة؛ مريم تَشْهَد أنّ الغفران الذي نلناه من يسوع، وهي عند أقدام الصليب، أنّ رحمته لَيْس لها حدود.
صلب الموضوع
بَعْد هذه المقدّمة المُسْهبة، لا بدّ من التطرُّق إلى حالات عِشْتها في الجيش وقد تجلَّتْ فيها الرحمة، بأشكال متعدّدة…
أنا ابنُ عائلةٍ متواضعةٍ مؤمنةٍ تمارس شعائرها الدينيّة ورغم ضعفنا وأخطائنا، فقد تربَّيْنا تربيةً مسيحيّة صالحة تَسْتندُ على محبّة الآخرين، واحترام الناس، وإمكانيّة مساعدتهم قدر المستطاع، وقد قدّر لي أو ربّما أن أكون رَحُوماً في مناسبات كثيرة بالصّلاة والكلام والعَمَل وإنّ شهادتي مَجْروحة في هذا المجال. جميلٌ أن تصلّي وتتذكر الآخرين في صلاتك مِن شهداء وأحياءَ طالباً الرحمةَ لهم، والديانة المسيحيّة هي ديانة الرَحْمة: «طوبى للرحماء، فإنّهم يُرحمون». وقد بانت الرحمة جليّة في مثل عَوْدة الإِبن الضال الذي فَرح والده بعودته. وذبح له العجل المثمَّن، وأعمى أريحا الذي صَرَخ: «يا إبن داوود إرحمني» والسامري الذي ساعد الجريح…فهذه الأمثال وغيرها ما هي سوى دليل على أهميّة الرحمة في حياة الإنسان…
دَخلت المدرسة الحربيّة في 1/10/1973 وخدمت في الجيش مدّة ثلاثين سنة، ثمّ تقاعَدْتُ برتبة عميد ركن، وكان لي شرف الخدمة في الألويّة المقاتلة ومديريّة التوجيه. وكما نعلم جميعنا المؤسّسة العسكريّة عائلة كبيرة تجمع أبناءَ الوطن على إختلافهم في بَوتقة واحدة شعارها: الشرف، التضحية والوفاء، ولعلّ كلمة تضحية فيها من الرَحْمة ما في الشرف والوفاء من عزّة نفس وكبر أخلاق. وعلى الرغم من قساوة الحياة العسكريّة ودقَّة الأنظمة والقوانين، لا يمكن التنكّر للناحية الإنسانيّة حَيث في حالات كثيرة، حسّاسة وحرجة، تراني أمارسُ الرحمة بكلّ محبّة وإخلاص. فكثيرٌ من العسكريّين يمرّون بحالات مختلفة تسْتدعي تدخّل الرئيس لحلِّها. أن تقودَ الرجال إلى المَوْت ليس بالأمر السهل. فكيف إذا كانوا هؤلاء الرجال يمثّلون شريحة من الأبْطال الذين تهتمّ لأمْرهم، وتحاول أن تيسِّر أمورهم قدر المستطاع:
- في الألوية المقاتلة:
1- أثناء القتال:
غالباً ما كنتُ ألجأ إلى حماية جنودي، وأنا وإيّاهم مشروع شهادة في المعركة. فأبقى إلى جانبهم أحثُّهم على البَذْل والعطاء، وكنّا نتعرّض لحالات استشهاد أو إصابات بليغة، وهنا يَبَان التعاطف، والنخوة، والحنان والأبوّة، وهذا يقتضي ملاحقة دقيقة لتفاصيل الأمور، ومقدرة على التصدّي للمواقف الحرجة. فهذه الأرواح عزيزة عليّ، وعندما كنت أفتقد أحد المرؤوسين كنت أشعر أنّ أخاً لي فارق الحياة، وأنّ نفسه تطْلب الرحمة وأنّه سيبقى مخلداً أبداً في ذاكرة الوطن والتاريخ.
2- أثناء الخدمة:
هناك الكثير من الأوضاع الخاصّة التي تواجه الجندي: احتضار أحد أفراد عائلته أو أقربائه، ولادة، مرض، حادث سير… كلّ ذلك كان يتطلّب منّي مراعاة هذه الأوضاع بمحبةٍ ورحمةٍ وتسهيل الأمور على هؤلاء الجنود والذين ينظرون إلى رئيسهم ليس فقط كقائد يقودهم إلى القتال، بقدر ما هو أبٌ عادل يساوي بين الجميع ويتحسّس أوضاعهم؛ يتفهّم، يُصغي، يَعي، يُدرك، يعالج، يقرّر… وهذا الموقف كان يُشعرني بأنّ الرحمة كانت عندي موقف قوّة وليست موقف ضعف. فالقائد هو بخدمة الجماعة، وبما أنّي كنتُ متخصّصًا بسلاح المدرعات، والمعروف عن المدرعات أنّها سلاح بحاجة لتكاتف الطواقم. من هنا أهميّة الاتّحاد، فالجنود هنا يعملون كفريق واحدٍ.
3- خصام العسكريّين:
نَادراً ما كان يتخاصم العسكريّون، كنت عندها أتدخّل لفكّ النزاع، وكنت أضطرّ إلى تنظيم بيانات عقوبة بحقّ المخالفين. هذا، وبحكم مسؤوليّتي عنهم، ما كان يدفعني رغم تطبيق القانون إلى حثّهم على أن يكونوا إخوة رحماء، ويبتعدوا عن كلّ ما يسيئ إلى سمعتهم ومناقبيتهم العسكريّة.
4- حالات التأخير:
إحترام نظام الجيش ليس بالأمر السهل، والتقيّد به يتطلّب قناعة راسخة. في حالات كثيرة كان بعض الجنود يتأخّرون في الالتحاق بقطعهم، وكنت أنظر إلى هذه الأوضاع برويّة، وكنت أعالجها بحكمة آخذاً بعين الاعتبار مدى صدق المرؤوس، طالباً منه أن يرحم نفسه في المستقبل لكي لا يتعرّض لعقوبات تأديبيّة.
5- مشاكل خارج نطاق العمل:
قد يتعرّض بعض العسكريّين لمشاكل خارج نطاق العمل، وكنت عندما أعلم بذلك، أجري الاتصالات اللازمة لمعالجة المشكلة بطريقة صحيحة وقانونيّة. عندها تزْداد ثقة المرؤوس بي، ويجد نفسه مُحاطاً برئيس يقف إلى جانبه ويرحمه عند الشدّة.
6- الصداقة بعد التقاعد:
المدّة التي كنّا نقضيها بالجيش كانت كافية لخلق لحمة قويّة بين العسكريّين من هنا أهميّة ذلك في شدّ أواصر الصداقة وتمتين العلاقة خاصّة بعد التقاعد ومن القيام بزيارات تفقّدية أو إجراء إتصال هاتفي للإطمئنان.
7- حالات إستثنائيّة:
كنت في أحد الأيّام متوجّهاً بسيارتي العَسْكريّة من مَكان عملي إلى منزلي في روميه، وعند وصولي إلى وسط الضيعة علا الصراخ، وإذا بسقف من «الأنترنيت» ينهار بأحد المواطنين من جرّاء الدَوْس عليه، فأمرت السائق بالتوقّف حالاً، وأَسرعنا إلى نجدته ونقله إلى سيّارتي وطلبت من سائقي أخذه بسرعة إلى «مستشفى الأرز» بالزلقا، بعد أن إتصلت بقسم الطوارئ طالباً منهم إستقباله، وقد لاقى هذا العمل إستحساناً عند الأهالي بعد أن قلت لهم، هذا واجبنا عسى أن تكون حالته سهلةً ويُشفى في القريب العاجل، وإنهالت عليّ الدعوات والصلوات… وكان الله بعونه، ورَحَمهُ من هذا القطوع المميت.
عند عودتي إلى مَنْزلي من أحد المهمّات، وكنت برتبة نقيب، إستقبلتني المرحومة والدتي بالترحاب، وأردفت: يا بني لقد قَدِمَ منذ قليل رقيبان من سريّتك وطلبا منّ أن أتوسّط لهما عندك، لكي يبقيان في مركزهما لأنّهما سمعا بمشروع تشكيلات يَطالهما على صعيد الكتيبة، «بالله عليك كن رحيماً وترأّف بهما». فنزلت عند طلب الوالدة، خاصّة وأنهما كانا من العناصر المميّزة. وعملت جَاهداً مع قائد الكتيبة في إبقائهما في سريّتي وهذا ما حصل.
8- معاملة الأسرى:
يُحكى عن الفيلد مارشال «رومل» أنّه اكتسب شهرته في وسط جند الأصدقاء والأعداء على السواء بفضل تواضعه ومؤاساته لجنده وبساطة عيشه وعطفه على الأسرى من جند الحلفاء. وهذا دليل على كبر هذا القائد الفذ.
إنّ معاملة الأسرى بالحسنى واجب تفرضه القوانين الدوليّة وشرعة حقوق الإنسان. من هنا كنت أسهر على معاملة الأسرى بما يستلزم من إحترام وتقدير ورحمة.
9- الكوارث الطبيعيّة:
شاركت مرّات عديدة في مهمّات إنقاذيه خاصّة إخماد حريق، فيضانات، تلوج… وكنت دائماً أعمل جاهداً في مثل هذه الحالات على إنقاذ المواطنين من كارثة محتملة، فأجد نفسي أشارك في أعمال الرحمة في زمن السلم والحرب. جميل أن تنقذ مواطن من الهلاك والأجمل أن تعمل بمحبّة، فهذه مكافأة لك.
- في مديريّة التوجيه:
1- قصائد متنوّعة:
من أنا كي أعطى نعمة الكلمة لأتحدّث عن القدّيسين والشهداء. خدمت فترة لا بأس بها في مديريّة التوجيه، وبما أنّي كنت مولعاً باللغة العربية والله سبحانه منحني هذه الموهبة وأناشيد عسكريّة، وتراتيل دينيّة، وملاحم رثاء في أحبّة غادروا هذه الدنيا وتركوا أثراً مهمًّا في حياتي…
ومما قِلته في القدّيسة «رفقا»؛
لمّا كنتِي زغيري
ودعاكي الله
تركتي كلّ الجيري
والدني كلا
وعشتي الفقر الطاعة
وما تراجعتي ساعه
عن حبّ الرحمان
نيّالك يا رفقا
ونيّالو لبنان.
وفي الشهداء قلت:
لُبّوا الرساله
قلوبنا إحتلّو
ومع كلّ ليلة مجد
عارفاقن يطلّو،
يضجّو بهالساحات
وسيوفن يسلّو
وتهدر دقيقة صمت
وعاضريحن شعب
ينحني كلّو.
لعلّ نهاية المقطعين: «وما تراجعتي ساعة عن حبّ الرحمان» و«عاضريحن شعب ينحني كلّو» يبيّنان أهميّة الرحمة في حياتنا.
2- التعزية والمؤاساة وزيارة المرضى.
واجب التعزية هو مشاركة الأهل في الترحّم على الشهيد أو الفقيد بترداد كلمة «الله يرحمو». كم مهمّة رحمة الربّ، وكم مهمّ أن تلقي قصيدة في شهيد، تبلسم قدر المستطاع جراح أهله وتزرع في نفوسهم الرَحْمة والصبر. وقد كنت أشارك في وفود لزيارة المرضى والوقوف على أحوالهم، كذلك القيام بزيارات سنويّة لعائلات الشهداء، وتطييب خواطرهم والترحّم على أولادهم الميامين.
3- المحاضرات والنشاطات العسكريّة:
كنت في العديد من المناسبات أكلّف بمهمّات توجيهيّة سواء لمدنيّين أو عسكريّين بهدف خلق التقارب وزرع الإلفة والتآخي، عاملاً على إبراز دور الجيش، هذه المؤسّسة العريقة، مدرسة الرجولة، وحامية الوطن من كلّ شرّ.
فالتواصل مع الآخر هو حبّ، هو رحمة، هو وفاء… ولا تنهض الإنسانيّة إلاّ إذا كان قلبها مُفعماً بالرحمة. كذلك كنت ألقي محاضرات توجيهيّة خاصّة في التنشئة الوطنيّة لحثّ العسكريّين على أن يكونوا قدوةً للجميع. رحماء يفاخر الوطن بهم.
الخاتمة
الرحمة عطيّة لا بل نعمة تتحوّل إلى عمل في سبيل خدمة الآخر، تُعطى لنا لنتقدّس من خلال خدمة الآخر. وهي حقيقة أعيشها مع الله، والرحمة ليست كلاماً بل هي أسلوب حياة Style de vie ومفتاح الأخوة الحقيقيّة والجماعة، هي مكان للشفاء، للتعافي لا بل هي خطوة نحو السماء، هي التسامح وعمل الخير الذي يتحدّى كلّ القوانين الإنسانيّة، فالقلب الحيّ المحبّ هو الذي لا يرشق أحداً بحجر.
عندما أرْحم، أعي كم أنا مرحوم من الله، وكم أكون في فرح وسلام وأتحرّر من كلّ حقد. عندما أرحم أكون وجه الله الحقيقي بين الناس. بالرحمة ندخل السماء، حيث عائلة الرحمة موجودة هناك من يرحم لا يتعلّق بالأمور الأرضيّة، لا بل يتّحد بالقدّيسين، ويتعلّم منهم كيف يرحم. أن ترحم معناه أن تحسّ بوجع الآخر، تتحرّك أحشاؤك تجاهه.
نظام الرحمة غير موجود بأي نظام سياسي وإقتصادي، هل الدول الكبيرة ترحم الدول الصغيرة؟! على الرحمة أن تدخل سياساتنا الله رحَمَنا أول مرّة بالتجسّد، ورحمته هي العدل. حيث كنزك يكون قلبك». كثيرة الأقوال عن الرحمة:
النبي داوود: «إرحمني يا اله كعظيم رحمتك وكمثل كثرة رأفتك أمحو مآثمي»
«إرحمه يا رجل» أي أشفق عليه سامحه.
«لا وجود للرحمة في قلبك!»
السيد المسيح: «أحبّوا أعداءكم» أي إرحموا أعداءكم.
عند الضيق: «رحمتك يا ربّ».
يعيش العالم اليوم محنة فكر قاتلة ومأساة إرهاب مخيفة وهو مطالب بالتوبة والتعويض والتكفير، مطالب بالحوار حتى تتبدّل كلّ أشكال العنف.
أعطنا يا ربّ أن نكون رحماء محبّين مثلك.