الأب يونان عبيد م. ل.
ان الحياة الروحيّة، ليست حكرًا على المكرّسين والمكرّسات، بل واجبا مُلحًّا لكلّ انسان اقتبل سرّ المعموديّة وصار بذات الفعل من نسل المسيح. من هنا نؤكّد على ان الحياة الروحيّة هي “النصيب الأفضل” لكلّ مؤمن.
استجابة لطلب القيّمين على مجلّة المنارة، التي ستُصدر عددًا خاصًا، في مناسبة مرور مائة وخمسين سنة على تأسيس جمعيّة المرسلين اللبنانية الموارنة، سأعالج الموضوع الذي أُعطي لي بعنوان “الروحانيّة الكريميّة”، في نقطتين: الأولى، مَن هو المؤمن الروحي عامةً، والثانية، مقوّمات “الروحانيّة الكريميّة” في واقعنا الحالي.
- المؤمن الروحي عامةً:
يكثر في أيّامنا عدد الذين لا يهتمّون بالأمور الروحيّة، اذ تسيطر الأمور الدنيويّة اليوميّة على الحياة. كما يكثر عدد الذين يعبّـرون عن انهم لا يعرفون الروحيّات، حتى إن معرفتهم محصورة بالقشور والأمور الثانوية. ويُضاف الى هذا الأمر، تفاخر عند البعض بالجهل واللامبالاة. على كلّ إنّنا نعيش جميعًا في عالمين: العالم المادي والعالم الروحي. والى هذين العالمين ينتمي الانسان. فعندما نقول عن إنسان روحيّ او روحانيّ، يجب ان ننظر الى دور الروح القدس. فمن اختبر سكنى الروح القدس بحياته، يعرف ما معنى أن يكون مؤمنًا روحيًّا اذ يختبر عند دخول الروح القدس الى قلبه، الامتلأ بالروح مع كلّ النعم والبركات المرافقة. على المؤمن اذًا أن يفتح أبواب قلبه ليملأه روح الله. يقول بولس في وصيّته الرسوليّة: “امتلأوا من الروح القدس” (اف 5/18). ومن امتلأ منه تناغم معه. ومن علامات الأمتلاء نذكر: الاهتمام بأمور الرّوح، والابتعاد عن الدنيويّات والخطايا (رو 8/4-5)، ويصير اهتمامه بأمور الروح يُشغل عقله ووقته باستمرار. عندها يمتلك المؤمن الروحي بفضل عمل روح الله في داخله، ذهنًا روحيًّا يجعله يفهم ويتذوّق الأمور الروحيّة. ويصير لهذا المؤمن الروحي “فكر المسيح” الذي يساعده على فهم أمور الحياة بذهن روحي. أمّا المؤمن الجسدي فيفهم أمور الروحيّات بذهن جسدي. من سماته: الجهل الروحي، عدم القدرة على طاعة وصايا الربّ، الانغماس في الشهوات الجسديّة والاستسلام الى الطباع السيئة كالحسد والخصام والانشقاق وغيرها (1 قو 14/37). والمستغرب هو أن المؤمن الجسدي يحسب نفسه روحيًّا (1قو 14/37)، وهي ليست الحالة الروحيّة للمؤمنين بالمسيح.
باختصار، المؤمن الروحيّ يُسَيطر عليه الروح القدس، ويحكم سلوكه. لا يقبل أن يتحكّم به الجسد. ينتبه كيلا تأتي أعماله وردود فعله على غير انسجام مع حياته الروحيّة. يفهم ما هي الأمور المقدّسة ليلتزم بها ويعيشها. يعرف ماذا يريد الربّ منه. لا يضع قضيّة أعلى من قضيّة المسيح ولا يسمح لقضايا أرضيّة أن تضعفه روحيًّا أو أن تجعله يعادي أخوته والناس لأنّهم يخالفونه الرأي. بكلمة، المؤمن الروحي يحرص على أن يأتي كلامه متوافقًا مع ما “يعلّمه الروح القدس”. (1 قور 2 /13).
يمكننا القول أيضًا بأنّ الحياة الروحيّة هي قوّة في المؤمن الروحي، ومن سمات الانسان الحيّ. فحيث هناك حياة، هناك قوّة، وحيث هناك موت، هناك ضعف. الخطيئة تقتل قوّة الانسان. وحيث هناك خطيئة هناك موت روحي. وبسبب الخطيئة يفتقر الانسان ويفقد قوّته الروحيّة والمعنويّة والذهنيّة والماديّة والاجتماعيّة وغيرها. ولندرك ان ليس هناك انسان قويّ من دون قداسة الله والقوّة النازلة من عَلُ.
أخيرًا، الحياة الروحيّة نستطيع أن نعرّف بها، أنها “الحياة في المسيح”، أو “حياة المسيح هي حياتي”. وهذا ما معناه أن نكون في المسيح و”نلبس المسيح” (غلا 3 /27) كيف؟ أوّلا بالمعموديّة بحيث أُصبح من نسل المسيح، وثانيًا بالتكرّس الرهباني فأُصبح حصّة المسيح وخاصته وخبيرًا به. وثالثًا بعيش “ما يأمرني به” (يو 2 /5): فأسمع كلمته (متى 13 /23)، أقبلها (مر 4/ 20)، احفظها في قلبي فتُثمر بالصبر والثّبات (لو 8 /15). يقول ارميا: “أعطيهم قلبًا ليعرفوني أنّي أنا الربّ، فيكونون لي شعبًا وأنا أكون لهم إلهًا لأنّهم يرجعون اليّ بكلّ قلوبهم” (24 /7).
- مقوّمات “الروحانيّة الكريميّة” في واقعنا الحالي:
لا يُعقل الكاهن ولا يُقبل في شخصه ودوره وعمله الاّ اذا تحرّك بهدي الروح وظلّ دائمًا في مهبّ الروح. كما انه من البديهي ان تكون للكاهن، روحيّة الدعوة والرسالة اللتين دُعي أصلا اليهما. لذا ما يعيشه بصدق وجديّة كخادم للمسيح، هو روحيّة الوَحدة الوثيقة مع شخص يسوع والتناغم المتواصل مع مَثَله وفكره ومشيئته ومشروعه الخلاصي. ممّا يتطلّب عمليًّا:
- توطيد العلاقة الشخصيّة مع شخص المسيح يسوع:
ولأنّ الكاهن يعتبر المسيح إلهه، وربّه، ومعلّمه، وراعيه، ومرشده، ومثاله، وصديقه، وأليفه، وسبب وجوده، وموضوع رجائه، وغاية سعيه، وذروة أمانيه، فعليه أن يدور في فلكه، ويستمدّ منه كلّ شيء لحياته ولرسالته: النعمة والقوّة، الحكمة والثبات، الجرأة والعزاء، الرجاء والفرح. وحذار للكاهن الذي لا يتقدّس بعمله وخدمته، اذ فيه عندئذ، تُطبّق كلمة يسوع لليهود: “أنتم لا تريدون أن تقبلوا اليّ، فتكون لكم الحياة” (يو 5/ 40). فيا ليتنا نحن الكهنة رسل يسوع وحاملو بشارته، نسعى بكل جوارحنا الى الاتّحاد بشخصه والتمسّك به لإدخاله في تفاصيل خدمتنا الكهنوتيّة، وجعل خدمتنا تنطلق منه، فنُعلن بصدق وهناء خبرتنا المفرحة والمنعشة معه، قائلين مع المرتّل: “ما أطيب الربّ”.
- حياة من المسيح:
من المعروف ان العهد الجديد يزيد على مفهوم العهد القديم عن الحياة الجسديّة مفهومًا آخر، وهو مفهوم الحياة الروحيّة. فإن كان الآب يُعطي الحياة للأجساد، فالمسيح يعطي الحياة للأرواح، “لأنّه كما ان الآب له حياة في ذاته، كذلك اعطى الابن أيضًا ان تكون له حياة في ذاته” (يو 5/26). أمّا المسيح فيعطينا حياته لتحيينا. وهكذا نكتشف ان للحياة معنى اسمى مع المسيح. فالحياة الحقيقة هي في المسيح ومنه، ولا يمكننا أن نحيا من دونه. فهو الإله الذي كانت فيه الحياة (يو 1 /4)، وهو خبز الحياة (6/35) وكلماته روح وحياة (يو 6/63) وهو الواهب الحياة للعالم (يو 6/33). إذًا إنّ الكاهن المُرسل، يأخذ الحياة من يسوع بواسطة الروح القدس. ومن تلك اللحظة تظهر حياة يسوع فيه، وهي حياة جديدة. ومن يؤمن بالمسيح يحصل بذات الفعل على الحياة الروحيّة، كما حصل مع الابن الضالّ عندما رجع الى أبيه (لو 15/24). ان الحياة التي يعيشها التائب هي الحياة الفيّاضة التي وعد بها يسوع “وأمّا أنا فقد أتيت لتكون لهم الحياة، بل ملء الحياة” (يو 10/10).
3- خبز مكسور ودم مهدود:
انه قربان الذات للرب. هذا القربان المميّـز لا يوجد تلقائيًّا وصدفة، ولا يُستورد ولا يباع أو يُشترى. إنّما يزرع في داخل الذات بفضل القرار الحرّ بالتخلّي عن العالم وأباطيله والمراهنة على الملكوت وربّ الملكوت. وبنعمة هذا الزرع ينفتح النظر الروحي على حقل الوزنات: فتقدّر بشكر، وتستثمر بحكمة، وتُذرى على بيدر مراجعة الضمير المتواترة، وتملّح بطيب الفضائل والأعمال الصالحة، وتُخبز في فرن الصلاة الدائمة والتأمّل اليوميّ بكلمة الله وتقدّم على مذبح الربّ، حيث الخبز يُكسر والدّم يُهدر. ممّا يعني ان المذبح هو تجسيد لتعليم الانجيل، والانجيل إعلان لحقيقة المذبح.
4- العيش بروح التوبة:
إذا كان الكاهن هو المنادي والمبشِّر بالتوبة شرطًا وسبيلاً للدّخول في الملكوت، فمن المنطقي أن يكون هو أوّل التائبين، لا سيّما وان التوبة هي العودة الى الموقع الحق، للتنقية من الأوحال الملوّثة بالشهوات والمصالح الأنانيّة. لكن هذا الموقع الحقّ هو فقط في متناول المتواضعين الصادقين. أجل التواضع هو أساس التوبة، وهو وحده يضع الكاهن أمام ربّه ونفسه وأمام الناس. يقول توما الأكويني: “الخير الأكبر هو العودة الصادقة الى الله”.
5- عيش الرسالة مع المؤمنين
من طبيعة المرسل الكريمي وواجبه، أن يحمل رسالة المسيح على أرض البشر. هذه الحقيقة يعيشها المرسل مع أخوته الكهنة أوّلاً ثم مع المؤمنين، ليرعاعم بالمحبّة والحكمة والرّجاء. وهو بإصغائه لهم، وبحمله جراحهم، فإنّه يُظهر وجه “الراعي الصالح”، الذي لكونه صالحًا، يعرف خرافه ويبذل حياته لأجل اخوته (يو 10 /14) ويسير أمامهم (يو 10 / 3 -4) ويوفّر لهم القوت الضروري والمناسب. وبفضل قيادة الروح القدس، فهو يستمدّ منه في الإصغاء والطاعة الأمينة، فنّ قيادة القطيع. وعليه أن يحبّ المؤمنين محبّة صادقة، اذ بالمحبّة تنزل السماء على الأرض. كما أن ما يقوم به ككاهن مرسل هو جزء لا يتجزّأ البتّة من حياته الروحيّة، يبنيها ويدعمها ويعزّز قداستها. أجل بعيشه خدمته تمامًا، بملء المحبّة، يحقّق المرسل ذاته ككائن روحاني، ويتقدّس لصالح الكنيسة جمعاء. لذا فمن العبث إضافة روحيّات أخرى على حساب روحيّة الخدمة الرسوليّة. ذلك لأنّ عالم الكاهن كلّه قداسة ورسالة. مهمّته أن يساعد الناس على وضع الله في حياتهم، وأن يستنتجوامتطلّبات الحياة الإلهيّة في حياتهم ومنها. كل ذلك لأنّ الكاهن المرسل هو تلميذ الكلمة ومعلنها، “ليس بالخبز وحده يحيا الانسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله” (متى 4 /4). أجل نحن الكهنة المرسلون، علينا اليوم وكل يوم، أن نعي أنّنا خدّام الكلمة، وان لن نكون حقًّا وفعلاً كذلك، إلاّ بمثابرتنا على سماعها وتقبّلها، فتثبت فينا (يو 5/ 38). ان الواعظ بالكلمة هو أوّل مُبشَّر بها، لكونه تلميذها الأوّل والدائم، فيتجدّد إيمانه ويثبت إرتباطه بالربّ. لذا عليه ألاّ يكتفي بالعيش في إلفة مع الكلمة فحسب، بل أن يدرك أن أمنه هو في عُهدة كلمة الله والإستنارة بروحه القدّوس، لتتحقّق كلمة يسوع: “أعرف الأب وأحفظ كلمته” (يو 8 /55).
6- الصلاة:
لا يقدر أن يكون الكاهن خادم الكلمة، الاّ اذا عاش بها ومعها ولأجلها. وهل يمكن أن يتحقّق ذلك، ان لم يكن هو أوّلاً رجل الصلاة؟ على كل حال، لا يحقّ للمصلّي أن يفكّر بالله، أو يتحدّث عنه، أو يصدر أي نظريّة بشأنه أو بشأن أسراره الخلاصيّة، قبل الاستماع اليه بانتباه وجديّة وحبّ. فالإصغاء هو الأساس الجوهري للصلاة المسيحيّة، والمظهر الفاعل لشكلها الحقّ. هذا الأمر يُطلب توفّره عند الكاهن المرسل، كونه، مبدئيًّا، المخوّل لينقل الى سواه، ما سمعه من الآب. لذا يتوجّب على الكاهن أن يطلب لنفسه قلبًا مصغيًا كي يظلّ على اتّصال دائم ووثيق بالله، ومتنصتًا متنبّهًا لإلهاماته وأوامره وللكلمة الخارجة من فمه، فينقلها بأمانة وصفاء الى جماعته. فإن كان الكاهن مواظبًا على سماع الله وخادمًا أمينًا له، فإنّه ولا شكّ يفتح أذنَيه ليصغي اليه. أجل من المؤكّد أن من له قلب لسماع الله يكون قلبه مستعدًّا لسماع البشر والصلاة معهم ولأجلهم. ما أجمل ما تهبه الصلاة للكاهن، فهي توصّله الى العيش الدائم في حضرة الله، فيعي حضوره بوعي كامل، ويذكره بشغف، ويتذكّره بحبّ، ويهتدي بهديه في كل شيء. حينئذ فقط يصير الكاهن “صلاة دائمة” فتتحقّق كلمة الرسول بولس بشأنه: “لست أنا الحيّ وإنّما المسيح هو الحيّ فيّ” (غلا 2 /20).
7- الليتورجيا والأقداس:
ان الليتورجيا في نظر الكنيسة هي الخدمة الأولى التي على الكاهن ان يربط ذاته بها. “كل احتفال ليتورجي، حسب المجمع الفاتيكاني الثاني، هو عمل مقدّس، لا يوازي فاعليته قيمة ودرجة أي عمل آخر من أعمال الكنيسة”. لكن للأسف وتحت تأثير الروتين والانهماك المفرط في المهام الرسوليّة والاجتماعيّة وغيرها، نلاحظ ان الاحتفال بالليتورجيا والتعاطي مع الأقداس يفتقران الى حرارة واشعاع وديناميّة وحياة. لذا لا بدّ للكاهن المرسل من الابقاء على مركزيّة الليتورجيا، يستعد لها بالقراءَة المقدّسة والتأمّل بالكلمة التي عليه أن يوصلها الى مؤمنيه، وبخاصة أثناء الذبيحة الإلهيّة، واضعًا أمامه المبدأ اللاهوتي الكنسيّ القائل: “من الافخارستيّا نشأت الكنيسة، وبها تثبت وتتقوّى وتتقدّس”. بحيث ان الكنيسة، اذا ما ربحت كل شيء وخسرت الافخارستيّا فإنّها تخسر كلّ شيء. ولكن إن خسرت كلّ شيء وحافظت على الافخارستيّا،فإنّها لا تخسر شيئًا، لأن الافخارستيّا هي كل شيء، ولكل شيء، اذ كل الأشياء قد أٌبدِعت لها: “برهانها الأوّل والأخير أنّها تغذّي” (بول كلوديل). فمن صارت له نعمة الاغتذاء منها، فإنّه يصير من أهل السماء، بل يصبح السماء بالذات، كونه يحتوي ربّ السماء، الذي قال: “خذوا كلوا هذا هو جسدي” …الذي هو بالطبع من مريم.