Almanara Magazine

الرحمة والدينونة

الخوري خليل شلفون

هل هناك خلاص للغني ولكل غني؟ وهل الفقير وكل فقير هو مُخلَّص؟ ما هي علاقة الرحمة الإلهية بالموت والحياة الأبديّة؟ وما هي أقصى حدود الرحمة الإلهيّة؟ إنطلاقًا من مثل “الغني ولعازر” في إنجيل لوقا 16 : 19-31، سوف نحاول أن نتعمّق مع لجنة يوبيل الرحمة الإلهية[1] في هذا النص عن معنى الرحمة وعلاقتها بالموت. وبخاصة في الليتورجيا المارونيّة وفي أحد تذكار الموتى المؤمنين يُقرأ هذا الإنجيل. وطوال كل الأسبوع الذي يلي هذا الأحد، تذكر الكنيسة الموتى المؤمنين وتصلي من أجل هؤلاء الذين عاشوا مخافة الله وتشاركوا مع إخوتهم في خيرات الدنيا، وتصلي أيضًا من أجل الموتى المعذبين وتطلب شفاعة الذين ينعمون في السماء، وتُقدِّم ذبيحة القداس من أجلهم قبل بدء زمن الصوم المبارك.

1. لم يَرحم فلن يُرحم

هناك تناقض ظاهري في الأمثلة التي تتكلّم على الرحمة الإلهيّة. مثل الخروف الضائع يحدّثنا عن فرح التوبة : “هكذا يكون الفرح في السماء بخاطئ واحد يتوب…” (لوقا 15 : 7). ويكرّر لوقا هذا القول في مثل الدرهم المفقود: “هكذا تفرح الملائكة بخاطئ واحد يتوب” (لوقا 15 : 10). وخاتمة مثل الابن الشاطر أو الضال هي إيجابية جدًّا: “كان علينا أن نفرح ونمرح، لأن أخاك هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالاًّ فوُجد” (لوقا 15 : 32). ويرحم المسيح في مثله الوكيل الأمين (لوقا 16 : 1-13) لأنه رحم الآخرين وهو ينصف ويرحم الأرملة (لوقا 18 : 1-8) ويرحم جابي الضرائب الذي أصبح مقبولاً بتواضعه عند الله (لوقا 18 : 9-14). أمّا صوت الغني “إرحمني يا أبي إبراهيم” (لوقا 16 : 24) فهي المرة الوحيدة التي يسمعه الرب في إنجيل لوقا ولا يتجاوب معه في هذا المثل. ومن هنا يطرح السؤال: هل هناك “شيء” خارج الرحمة الإلهية؟ “تذكر أنّك نلت خيراتك في حياتك ولعازر بلاياه. والآن هو يتعزى هنا، وأنت تتعذّب” (لوقا 16 : 25). وبرغم إدراكه لخطإه بعد مماته لم يرحمه الله بحسب هذا المثل. فكيف تكون هذه الرحمة الإلهيّة؟ قبل أن نحاول الإجابة على هذا التساؤل، علينا العودة إلى نص المثل في لوقا 16 : 19-31.

يضع المثل أمام أعيننا شخصين نموذجيين يبدوان صورة حيّة عن دينونة الله للبشر. فالغني يعيش عيدًا متواصلاً في الرفاهية، “ولقد نال نصيبه من خيرات هذه الدنيا” (آ 25). ليس غنى الغني سبب هلاكه. فخيرات الدنيا مشروعة، وهي هبة ودليل لبركة من الله في العهد القديم. أما يسوع فهو يذكِّرنا بأنه لا يستطيع الإنسان أن يخدم سيدين: “الله والمال”، لأنّه إمّا أن يبغض أحدهما ويحبّ الآخر، وإمّا أن يوالي أحدهما وينبذ الآخر (لوقا 16 : 13). فعلى الأرجح هلاك الغني يكمن في طَمَعِه، واستعباده لصنم ماله ومقتناه واستغنائه عن الله وتاليًا عن المحبة التي أغلقت قلبه عن لعازر الفقير المطروح على باب داره. فإذا فسرنا مشكلته بحسب الآية 13 من لوقا 16، نرى أنّه عبد المال لا الله، فكانت دينونته عقابًا في عذابات الجحيم “مات الغني وقبر فكان في الجحيم يقاسي العذاب” (آ 23). ما العبرة التي نستطيع أن نستنتجها من هذا المثل ؟

مأساته في عبادة صنم نفسه ووثن خيراته، إذا “فكان يتنعم كل يوم بأفخر الولائم” (لو 16 : 19). وهو لا يعمل أي شيء من أجل الفقير ولا يشاركه بشيء. أما لعازر فكان فقيرًا، تُغطّي جسمه القروح، وكانت الكلاب تجيء فتلحس قروحه، وكان يشتهي أن يشبع من فضلات مائدة الغني. يحوِّل الموت فجأة وضع الغني ووضع الفقير. فاحترق الغني باللهيب وتوسل إلى إبراهيم ليرسل إليه بواسطة لعازر (الله يعين) قليلاً من الماء يُبرّد به عطشه، أمّا لعازر فأصبح مكرّمًا في وليمة بجانب إبراهيم.

فالحياة في الآخرة هي عكس الأوضاع الأرضية. هذا ما نجده في نشيد مريم “أنزل الأعزّاء عن الكراسي ورفع المتواضعين” (لوقا 1 : 52-55). ولقد تحدّد مصيرهما تحديدًا نهائيًّا لا رجوع عنه. هذا هو معنى صورة الهوة العظيمة التي تفصل بينهما. كما نجد عند لوقا في البركات واللعنات (لوقا 6 : 2-26) هذا التنبيه لأغنياء هذا العالم : “الويل لكم أيّها الأغنياء لأنكم نلتم عزاءكم. الويل لكم أيّها الذين يشبعون الآن لأنّكم ستجوعون. وهنيئًا أيّها المساكين، لأنّ لكم ملكوت الله… افرحوا وابتهجوا، لأنّ أجركم عظيم في السماء….”.

ظهرت رحمة الله عندما حملت الملائكة لعازر إلى جوار أو إلى أحضان إبراهيم. أمّا الغني فلم يشفق على لعازر ولم يرحمه كما فعل السامري الصالح في لوقا 10 : 33 أو حتى الأب الحنون في مثل الابن الضال: “رآه أبوه قادمًا من بعيد، فأشفق عليه وأسرع إليه يعانقه ويقبّله” (لوقا 15 : 20). إنّه لم يعرف الشفقة والرحمة.

فالدينونة، إذا تحدّثنا عن “دينونة”، تكمن في رؤية الغني للعازر بجوار إبراهيم. هذا ما استطاع أن يراه في الماضي، قبل مماته. وهذه الرؤية لا تنتهي إنّها لحظة الأبدية التي تدين الغني وتجعله يرى الآن ما لم يره في الماضي. لماذا نعمل الان من أجل الرحمة تجاه الآخر المحتاج ؟

الرحمة هي أن يرى الإنسان في الآونة التي يعيشها “الفقير” الذي هو في حاجة إلى مساعدة وعناية ورحمة. أمّا بعد ذلك فلا جدوى لهذه الرؤية لأنّها تبقى على مستوى “معرفة” ما كان يجب أن يُعمل ولم يُعمل به. فالرحمة لا جدوى لها بعد ذلك تجاه الفقير. هكذا نفسّر أيضًا قول لوقا: “ولو قام واحد من الأموات فلا يقنعون ولا يتوبون” (لوقا 16 : 31). العدالة تمّت.

هكذا تُترجم رحمة الله، برحمة تجاه القريب المحتاج. فماذا يجب أن نعمل الآن؟  سماع كلمة الله. ودينونة هذا العالم هي في عدم الاستماع إلى صوت موسى والأنبياء الذي يصعد من خلال أصوات المتألمين وفقرهم وجوعهم وعريهم وحرمانهم، ومن خلال حضور المستضعفين والمهمّشين على أبواب الأغنياء… فهم صوت الرحمة الإلهيّة ودينونة هذا العالم. فالله يكرم في الأبدية الفقير الذي نسيه الزمن وبقي على هامش الحياة. رحمة الله تنتظر فعلةً له في هذا العالم وليس بعد الموت. يحثّنا المثل على العمل بهذا الاتّجاه وحتى لم لم ننل المكافأة في هذا العالم فأجركم عظيم في السماء. فهكذا فعل آباؤكم بالأنبياء” (لو 6 : 23). هذا هو الفرح الحقيقي النابع من اعمال الرحمة الإلهية.

2. الدينونة العظمى في ضوء مثل لعازر والغني

ما يهمّ الرب في مثل لوقا هو التشديد على التوبة والارتداد في الحاضر، وهو لم يرد أن يعطينا درسًا عن سعادة الفقراء وتعاسة الأغنياء. فالإنسان يجد في الشريعة والأنبياء كل النور الضروري للخلاص، ولكن هناك امتياز خاص للفقراء والمتواضعين وخطر كبير للغني.  وإذا قرأنا هذا المثل في ضوء الدينونة العظمة في متى 21 : 31-46 نرى أن ابن الإنسان يبارك هؤلاء الذي يطعمون الجياع ويسقون العطاش ويأوون الغرباء ويكسون العراة ويزورون المرضى والسجناء. أما أولئك الذين لا يطعمون الجياع، ولا يسقون العطاش، ولا يأوون الغرباء، ولا يكسون العراة، ولا يزورون المرضى والمساجين، فمصيرهم هو النار الأبدية، لأن “كل مرّة ما عمِلتم هذا لواحد من إخوتي الصغار، فلي ما عملتموه” (متى 25 : 45). فيذهب هؤلاء إلى العذاب الأبدي والصالحون إلى الحياة الأبدية”. وكل ذلك ينطبق على لعازر بكونه الفقير والمريض والمهمّش… فما نعمله تجاه كل لعازر نلتقي به على طريقنا اليومي هو ما نعمله تجاه الرب أيضًا.

المهم في هذا المثل ليس فقط التوبة والارتداد، وعدم جدوى إثبات القيامة أو الإيمان بالقيامة للحصول على التوبة والارتداد. ولا أن نتأمل في مصير الأغنياء والفقراء، كما فعل لوقا الإنجيلي في التطويبات، ولا أن نتأمل في رفض شعب إسرائيل أن يؤمن بقيامة المسيح، بل أن نقرأ مثل يسوع في ضوء حياتنا الحاضرة. وقبل أن يصبح هذا المثل مثلاً اسكاتولوجيًّا يتحدّث عن الدينونة والمصير فهو يريد أوّلاً، بحسب كتاب اليوبيل، “أن نتساءل عن قدرة الإنسان اليومية على أن “يشفق ويرحم” الآخرين”. والدينونة تقع الآن على كل أولئك الذين لا يستطيعون أن يروا المحتاج أمامهم وأن يرحموه. أمّا دينونة الآخرة فتقع على الغني الذي “لم يرحم في حياته الفقير، لأنّه لم يره منطرحًا عند بابه. ومدلول هذا المثل هو شمولي، إذ ينطبق على كل الأحوال الاجتماعية وفي كل الأزمنة والأوقات والأماكن، لأنّه يتخطّى المكان والزمان والبيئة الاجتماعية. هذا هو مصير من لا يرحم ولا يحب. “فمن أحبّ أخاه ثبت في النور، فلا يعثر في الظلمة، ومن يكره أخاه فهو في الظلام، ومن يعمل بمشيئة الله ومشيئته هي الرحمة، فيثبت إلى الأبد” (رسالة يوحنا الأولى 2 : 9-17).

3. موسى والأنبياء وقلب الإنسان

ما هو دور موسى والأنبياء في هذا المثل وما علاقتهم بقلب الإنسان؟ “وقال له إبراهيم: عندهم موسى والأنبياء فليستمعوا إليهم”. وأضاف في خاتمة المثل: “فإن كانوا لا يسمعون إلى موسى والأنبياء فهم لا يقتنعون ولو قام واحد من الأموات” (لوقا 16 : 29-31). إذًا، الاستماع إلى كلام موسى والأنبياء يمكن أن يقنع (اليهود) أكثر من آية قيامة للأموات أو قيامة واحد من بين الأموات (حتى لو كان المسيح المنتظر)؟ لماذا كلمة الله وحدها قادرة أن تغيّر قلب الإنسان وهي التي تستطيع أن تقوده إلى الرحمة المرجوة تجاه الآخرين؟ ظن بعض الشراح أن إبراهيم يريد أن يعيدنا هنا إلى كل تعاليم التوراة والأنبياء عن الفقر والرحمة تجاه الفقراء والتنديد بالأغنياء. ولكن، على الأرجح، تدل العبارة المستعملة على كل التعاليم الموحى بها في العهد القديم. وهذه التعاليم هي طرق الحياة (لوقا 10 : 25-28؛ 18: 18-20؛ وأعمال 7 : 38). فإذا كانت الرحمة نابعة من قلب الإنسان، فإن كلمة الله وحدها قادرة على أن تحيي قلب الإنسان وتنعشه.

طلب اليهود آية مدهشة من يسوع في لوقا 11 : 16-29. أمّا جوابه فجاء على لسان إبراهيم. إن مجيء مائت وظهور لعازر لإخوة الغني لا يكفي لنيل ارتداد إخوته لينجيهم من مصير العذاب والهلاك الذي لاقاه أخوهم الغني بعد مماته. فهناك علامات كثيرة قدّمت في الكتاب المقدس لشعب الله المختار لكي يتوب، ولم يتب هذا الشعب. أمّا التعاليم الموحى بها فهي أكثر إقناعًا من قيامة الميت أو ظهوره البسيط. ومن الأرجح أن لوقا الإنجيلي أراد أن يدلّنا على تحفّظ يسوع على الآيات التي كان اليهود يطلبونها. لذا كان متواضعًا في معجزاته (مر 8 : 11-12). أمّا لوقا الإنجيلي فكان يريد الإشارة إلى أن قيامة لعازر كان لها الأثر الضعيف لدى اليهود، كما أن قيامة يسوع لم يكن لها الأثر الكبير عليهم. إذًا ما المهم؟ أن نفهم الكتب المقدسة وأن نعيشها من خلال الرحمة وأن تثبت كلمة الله فينا.

وإذا عدنا إلى تلميذي عماوس فهما لم يكونا مقتنعين بقيامة يسوع. فأخذ يسوع (القائم من الموت والحاضر) يشرح لهما ما جاء عنه في جميع الكتب المقدسة، من موسى إلى سائر الأنبياء (آ 27). فعرفاه عند كسر الخبز وعندما توارى عن أنظارهما، قال أحدهما للآخر: “كان قلبنا يحترق في صدرنا حين حدثنا في الطريق وشرح لنا الكتب المقدسة” (آ 32). فكلمة الرب هي التي تدخل القلوب وهي التي تجعل “المرتد” يسمع ما لم يكن في مقدوره سماعه من قبل وان يرى ما لم يكن في مقدوره رؤيته من قبل وتجعله يعترف بأن الرب حقًّا قام وكيف نعرفه عند كسر الخبز (لوقا 24 : 34-35).

فعند الغني في مثل لوقا 16 فكرة غير صحيحة عن التوبة الحقيقية والرحمة الحقيقية. وهو يعتقد بأن الرحمة هي رهن بآية ما، أي آية القيامة؛ وينسى أن التوبة الحقيقية هي التي تبعث الرحمة في قلوبنا وهي نابعة من سماع كلمة الرب. وهي تحثّنا على تطبيقها من خلال الرحمة تجاه الآخرين. هذه هي آية القيامة الحقيقية. أو المعنى الحقيقي للرحمة التي أصبحت هنا أبدية. ويدل اعتراف الغني بأبوّة إبراهيم وبطلبه الرحمة في مثوى الأموات (لوقا 16 : 24-30) على معرفته الكاملة بالكتب المقدسة. ولكن هذا لم يفتح قلبه لكلمة الله التي تستطيع وحدها أن تغيّر قلب الإنسان وتحثّه على الإيمان بالرحمة الإلهية الحقيقية والحب الحقيقي والعمل بهما.

تتجلّى الدينونة في مثل الرجل الغني في لوقا 18 : 18-23 الذي يعرف الوصايا ويعمل بها منذ صباه، لكنّه حزن لأنّ يسوع قال له “اتبعني”. ولم يستطع لأنّه كان غنيًّا جدًّا. فلا نكتفي أن نعرف كلمة الله، وأن نتعمّق بها، بل يجب أن نفتح قلوبنا لها لكي تقودنا إلى المسيح. الكتاب المقدس هو كتاب حيّ، وقوّة الروح القدس وحدها تستطيع أن تفتح قلوبنا وأذهاننا، كما في طريق عماوس، لكي نفهم كلمة الله. أمّا كيف يجب أن نفهم هذه الكلمة؟ فالروح القدس يقودنا إلى الرحمة تجاه الفقراء كما قاد يسوع في لوقا 4 : 18-19 إلى الناصرة حيث نشأ وأن نقرأ معه بقوة الروح : “روح الرب عليّ لأنّه مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني لأنادي للأسرى بالحرية، وللعميان بعودة البصر إليهم، وأعلن الوقت الذي فيه يقبل الرب شعبه” (أشعيا 61 : 1-2).

“طريق الرحمة هو الخلاص الذي يمرّ دائمًا بخدمة الفقراء” كما يردّد كثيرًا قداسة البابا فرنسيس. فإذا كانت الرحمة الإلهية اللامتناهية تضمّ كلّ البشر على ممر الأزمنة والعصور وهي حقّ مكتسب لجميع شعوب الأرض. فالرحمة تجاه الغريب تبقى ناقصة لأنها واجب على كل فرد منا، إنّما لكلّ إنسان الحرية الكاملة في تحقيقها أو عدم تحقيقها، فهي رهن حرية الإنسان. وعند عدم وجود هذه الحرية للرحمة لدى الغني مثلاً يظهر لنا عذاب جهنم (لوقا 16 : 24) كعذاب عدم القدرة على الرحمة بعد الموت أي بعد فوات الأوان. إذًا جهنم هو عذاب عدم القدرة على الرحمة وعلى المحبة. وكل لحظة من حياتنا على الأرض لا نعيش فيها الرحمة تجاه القريب المحتاج هي استباق لجهنم، وكل لحظة نعيش فيها الرحمة الإلهية تجاه الآخرين هي استباق للسماء والنعيم. وهذه هي التعزية الكبرى على الأرض لمن يحبون الله من كل قلبهم وقوتهم وعقلهم ويحبون القريب مثل أنفسهم. هذه هي القاعدة الذهبية في العهد القديم، وكل من يخالفها يدين نفسه ويذهب حزينًا ولا يدخل حقًّا في فرح الإنجيل والبشارة السارة للجميع.

4. الحالة الوسطية

يمكننا أن نقرأ ثانية هذا المثل الوارد في إنجيل لوقا من منظار لاهوتي اسكاتولوجي وأن نتساءل مع النص : كيف نفهم عدم إمكان الحب الذي يتحوّل إذاك إلى عطش مُحرِق وغير قابل للشفاء من الآن فصاعدًا؟ يقول لنا البابا بندكتوس السادس عشر في رسالته العامة “خُلِّصنا في الرجاء” إن إنجيل لوقا لا يتكلّم على المصير الأخير بعد الدينونة العامّة، لكنّه يردّد نظرة موجودة في اليهودية القديمة، أي الحالة الوسطية بين الموت والقيامة، حيث لم يُلفظ فيها بعد الحكم النهائي[2].

هذه قراءة لاهوتية اسكاتولوجية. فالقصاص الذي يناله الغني المستنعم هو مرحلي، كما أن السعادة هي مرحلية بانتظار السعادة المطلقة في حضرة الله. فمن الممكن أن تكون هناك تطهيرات وشفاءات مرحليّة تُنضج النفس للاتحاد بالله. من هنا تطورت تدريجيًّا عقيدة المطهر في منظار اللاهوت الكاثوليكي التقليدي. ومن المعلوم أنه مع الموت يصبح اختيار الحياة، الذي أقرّه الإنسان، وفي مثل لوقا 16، الغني، نهائيًّا. حياته أمام الديّان هي خالية كلّيًّا من الرحمة. هدم في حياته كلّ رغبة وكلّ استعداد للمحبة الشفوقة. ويؤكّد التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية أنّ كلّ إنسان “ينال في نفسه الخالدة ثوابه أو عقابه الأبدي، منذ لحظة موته، بدينونة خاصة تكشف حياته أمام نور المسيح” (عدد 1022). نستنتج إذًا أن مصير الغني بالخفية الاسكاتولوجية للنص هو غير قابل للشفاء. وهدم الخير أصبح متعذّرًا تغييره. فمصيره هو الجحيم[3].

اللقاء بالمسيح عند الموت هو العمل الحاسم للدينونة. فهذا اللقاء يحوّلنا ويحرّرنا ليجعلنا حقًّا ما يجب أن نكون. نظرات المسيح ونبضات قلبه تشفينا بتحويل مؤلم حقًّا وقدرة حبه القدوس تلج كياننا كشعلة نار وتسمح لنا في النهاية بأن نصير ما نحن عليه بكليتنا وكذلك الله بكليتنا.

عند الدينونة نختبر ونقبل سلطة الحب والرحمة الإلهية علينا فتظهر ما كان غير رحمة وغير حب في حياتنا. ألم الحب وألم الرحمة يصبحان خلاصنا وفرحنا وزمن هذا التحول لا نستطيع أن نكيله بموازين هذا العالم الزمنية. إنّها “البرهة” المحولة في هذا اللقاء. إنّه زمن القلب، وزمن العبور إلى الاتّحاد بالله في جسد المسيح. دينونة الله رجاء ورحمة إن من حيث هي عدالة وإن من حيث هي أيضًا نعمة. فعدالة الله تبقى ثابتة وتقودنا إلى ما هو عكس الرحمة في حياتنا، ورحمة الله تسمح لنا بأن نرجو وأن نذهب ملأى ثقة إلى لقاء الديّان الذي نعرفه كمحامينا. هذا ما يستنتجه اللاهوت الكاثوليكي تقليديًّا من هذا النص وهذا ما حاول أن يلخّصه لنا قداسة البابا بندكتوس السادس عشر[4].

وبفضل الافخارستيا والصلاة والإحسان، وأعمال الرحمة تجاه الآخرين، يمكن منح الراحة والعذوبة للموتى. “الراحة الدائمة أعطهم يا رب ونورك الأزلي فليضئ لهم”. هذا ما تحثّنا الليتورجيا المارونية عليه. فرجاؤنا هو رجاء للآخرين، كما أن الرحمة الإلهية هي رحمة لنا جميعًا. هكذا يصبح كلّ واحد منا إناءً حاملاً الفرح الأبدي.

ممارسة الرحمة ضرورة ملحّة للخلاص والمطلوب تحقيقها في الآونة المعيشة والمبنية على الإيمان. علّ هذه السنة اليوبيليّة تحثّنا على المزيد من أعمال الرحمة لكي تتجلّى من خلالنا هذه الرحمة الإلهيّة.

5. أعمال الرحمة أو الصلاة من أجل الموتى

في الكتيّب المخصّص لأعمال الرحمة[5]، نجد ذكرًا للصلاة من أجل الموتى كعمل مهم من الأعمال الروحية بمناسبة سنة الرحمة الإلهية وتأنّي في ختام الأعمال الروحية. فالصلاة هي موهبة من الله في علاقته بالإنسان. وهنا يعود النص في التعليم المسيحي الكاثوليكي في عدده 2560 والذي يحدّدها “كلقاء بين عطش الله عند الإنسان والله. فالله يتعطش لأن يكون الإنسان عطشان إليه”. لأن الصلاة المسيحيّة هي علاقة عهد بين الله والإنسان في المسيح[6]. فهي في أصل كل أعمال الرحمة. والصلاة تدخلنا في “شركة القديسين”، هؤلاء الذين هم في مسيرة حج على الأرض والطوباويين في السماء، وكلّهم مدعوون “قديسين بنعمة العماد”. وانطلاقًا من 1 قورنتس 12: 26، فنحن كلّنا أعضاء في جسد المسيح الواحد، الأحياء منا والأموات أيضًا. تستند الصلاة من أجل الموتى على حدث موت المسيح وقيامته من بين الأموات. فهي تنطلق من القيامة وترجو لهم الحياة الأبدية. وهي تترجم قولنا إن الحب هو أقوى من الموت. فأين شوكتك يا موت؟

يعود نص اليوبيل[7] إلى المجمع الفاتيكاني الثاني، وإلى دستوره العقائدي في الكنيسة (Lumen Gentium) وبشكل خاص إلى الفصل السابع منه الذي يطرح مسألة “الطابع الاسكاتولوجي لكنيسة الأرض واتّحادها بكنيسة السماء”[8]. فكل تلاميذ المسيح، الأحياء الذين يواصلون رحلتهم على الأرض، والذين  أدركهم الموت، يتطهّرون، وكلّهم يشتركون “على درجات وأنماط مختلفة، في المحبة الواحدة لله والقريب”، مرنمين لإلهنا بنشيد المجد الواحد. ذلك أنّ جميع الذين هم للمسيح واستولى عليهم روحه، يؤلفون كنيسة واحدة، ويتماسكون بعضهم مع بعض ككل في المسيح (اف 4 : 16). ومن ثم فالاتحاد بين الذين لا ينفكون على الأرض وإخوتهم الذين رقدوا في سلام المسيح لا يغشاه أي انفصام، وإنّما الأمر على خلاف ذلك، فإنّهم بهذا الاتّحاد، يرتبطون بالمسيح ارتباطًا في الصميم يوثّقه تبادل الخيرات الروحية” (العدد 49). ويستند النص إلى مار بولس في 1 كورنتس 12 : 26 عندما يتكلّم على وحدة جسد المسيح عندما يشبه الجسد البشري الوحدة مع وحدة أعضاء الجسد الواحد، كذلك المؤمنون بالمسيح (1 كو 12 : 12). والروح يولد هذا الترابط بين الأعضاء، ويولّد هذا الترابط بين الأعضاء، ويولّد المحبة بين المؤمنين وينمّيها. “لذلك إذا تألم عضو تألمّت الأعضاء كلّها معه، وإذا أكرم عضو فرحت الأعضاء كلّها معه” (1 كو 12 : 26؛ وعدد 7).

وعندما نصلي من أجل الآخرين، نجعلهم تحت أنظار المسيح وبركته لكي يفتدي الله خاصته للتسبيح بمجده” (أفسس 1 : 14). فصلاة كل مسيحي تتلخص عندما نقول في الصلاة الربية “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض” (متى 6 : 10). هكذا صلى يسوع في جتسمانية حين قال “فلتكن مشيئتك” (متى 26 : 42). هكذا تؤكّد صلاتنا الاعتراف بكنيسة واحدة وبشركة القديسين: فإنّا شركة مع الله الثالوث الاعتراف بمشيئته كما هي شركة مع الآخرين في التعزية وفي المجد الآتي وهي شركة بين الذين هم على الأرض والطوباويين الذين هم في السماء والراقدين الذين هم في حاجة إلى صلواتنا. كلّهم معًا يشكّلون جسد المسيح الواحد ويرتبط جميع أعضاء جسد المسيح الواحد متضامنين بعضهم مع بعض. وهم يستطيعون أن يقفوا بعضهم من أجل بعض في الصلاة والتوبة وأن يعبّروا عن رجائهم بالقيامة والحياة الأبدية.

هكذا وفي عودتنا إلى الليتورجيا المارونية وأحد الموتى المؤمنين، نصلي من “أجل الموتى الراقدين على رجائك لكي يهبهم الله الدخول إلى سعادة قديسيك فيفرحوا معهم برؤيتك الأبدية”[9]. فطلب الكنيسة أن يرضى الرب برحمته ما تقدمه البيعة إليه عنهم من الصدقات والصلوات والقرابين، لكي ينقذهم من الهلاك الأبدي بشفاعة والدة الله مريم وجميع القديسين[10].

كما تطلب الكنيسة بصلاتها أن ينقل الله الموتى إلى “أحضان رحمته” وليسكنهم منازل راحته وأن يجعل الصلاة “رحمة” لجميع الموتى فيغفر خطاياهم التي ارتكبوها بمعرفة وبغير معرفة، فيسكنهم في المظال السماوية، “فيا ربّ، رحماك أشفق علينا لأنّك الرحمان”[11].

هكذا يكون صليب المسيح جسرًا يعبر الموتى عليه إلى دنيا الحياة الأبدية والراحة. علّ سنة الرحمة تكشف لنا عن سر الرحمة اللامحدودة وعن بحر الحنان اللامتناهي فتدخلنا في أحضان الحب الأبدي.

“فهل من مراحم كمراحمك لنلتجئ إليها يا محب البشر! وهل من باب كبابك لنقرعه في شدائدنا أيّها الإله الصالح! فبمراحمك يا رب استجب طلباتنا. ومهما كانت خطايانا على الأرض فلا توازي مراحمك في السماء. فلا تسمح يا رب أن تتغلّب ذنوبنا الحقيرة على مراحمك الفياضة، لكن فلتصحبنا نعمتك من البدء حتى النهاية”[12].

كن يا رب في درب الراحلين                     نورًا في الليل الرهيب

حتـــــــــــــى يلقــــــــــــــوا آمنيــــــــــــــــــــــــــن                        وجه المرجوّ الحبيب[13]


[1] Jubilé de la Miséricorde, Les Paraboles de la miséricorde, texte officiel, éd. du Conseil pontifical pour la promotion de la nouvelle évangélisation, trad. française P. Alexandre Joly, Paris, Mame, 2015, chap. 6, Le contre-pied de la miséricorde (أو عكس الرحمة).

[2]  Spe Salvi، فاتيكان، 2007، منشورات اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، جل الديب، 2007، عدد 44، ص 67.

[3]  التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، رقم 1033-1037.

[4]  راجع أيضًا كتابه الاسختولوجيا، الموت والحياة الأبدية (1969-1977) الذي صدر عام 2007 ونقله إلى العربية عن الألمانية سيادة المطران كيرلس سليم بسترس وأصدرته منشورات المكتبة البولسية، جونية، 2011.

[5] Conseil pontifical pour la promotion de la nouvelle évangélisation, Les œuvres de miséricorde, corporelles et spirituelles, texte officiel du jubilé de la miséricorde, Paris, Mame, 2016, chap. III, les œuvres de miséricordes spirituelles.

[6]  التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد 2564.

[7]  راجع الفقرة التي تتحدّث عن الصلاة من أجل الأحياء والأموات.

[8] المجمع الفاتيكاني الثاني، ترجمة الأب حنا الفاخوري، منشورات المكتبة البولسية، 1992، الفقرات 48-51.

[9]  صلاة المساء، زمن الدنح المجيد، جامعة الروح القدس، الكسليك، 1978، ص 301.

[10]  المرجع السابق، ص 307.

[11]  المرجع السابق، ص. 330، صلاة الصباح.

[12]  من الليتورجيا المارونية، ترجمة الأب رشيد أبي خليل، راجع مجلة الرعية، نيسان 2016، العدد 529، ص. 13.

[13]  صلاة المساء، أحد الموتى، جامعة الروح القدس، الكسليك، 1978، ص 329.

Scroll to Top