هيام أبو شديد
كما علاقة رحم الأم بالجنين، هكذا علاقة الإعلام بالرحمة…
بعض الأرحام تلعب دورها الطبيعي وتوهب الحياة، وبعضها تُجهض الجنين وترفضه زارعةً بذور الموت بدلاً من هبة الحياة، بعضها تعيش بالأمل والترقّب والانتظار، أو ممكن أن تعيش بالإستغلال والتلاعب بالعواطف والمشاعر… بعض الأمهات يشعرن بأهميّة التربية والمسؤوليّة و يختبرن فرح العطاء بمحبة ورعاية… والبعض الآخر يستقلن من دورهن الإنساني التربوي تاركاتٍ ضنا أحشائهنّ بمهبّ الريح…
يدّعي الإعلام الموضوعيّة ويُعلن أنّ دوره الدفع للتقدّم وإيصال الحقيقة للناس وتوعيتهم على حقوقهم وواجباتهم…
الوسائل الإعلاميّة هي الأقدر والأعظم والأخطر. إنها وسيلة جبّارة تدخل بدون إستئذان الى حياتنا اليومية (عند دخولنا المنزل أول حركة نقوم بها – ربما بعد خلع الحذاء – هي تشغيل الإينترنت والتلفزيون، وبعدها نركّز على الأشياء الأخرى) أصبح التلفزيون كما الإينترنت فردًا من أفراد العائلة.
وجوده في حياتنا وجود قوي وجبّار أكان إيجابياً أم سلبياً.
يُعتبر الإعلام مرآة المجتمع، فهو يعكس صورة عن مستوى المجتمع الذي ينتمي إليه وينبع منه ثقافة ومبادئ. إذا كان المجتمع سليمًا ومنفتحًا وإنسانيًّا، يكون إعلامه يشبهه، أما إذا كان المجتمع مريضًا، منغلقًا و متطرّفًا، فهكذا تكون صورته في إعلامه.
دور الإعلام هو إعطاء المعلومات على أنواعها (النشرات الإخباريّة- التحقيقات-الأفلام …)، التسلية والترفيه (برامج الألعاب- المسابقات- البرامج الفنيّة…)، التثقيف والتوعية (البرامج الحواريّة- Talk-Shows- برامج المسابقات- الأفلام الوثائقيّة والريبورتاجات…)
يخاطب الإعلام العقل الواعي وغير الواعي، كما يخاطب المُشاهد المُتعلّم وغير المُتعلّم، المُثقّف وغير المُثقّف، العقل الباطني والِفكر كما العقل المَنطقي … فبإمكانه التأثير، التلاعب وتوجيه عقل المُشاهد سياسيًّا مثلاً ، كما نلاحظ في بعض المحطات وبحسب إنتمائها الحزبي وخطّها السياسي (نفس الخبر يُعالَج بطرق مُختلفة) وكما حدث في الحملة الإنتخابيّة الثانية التي فاز بها الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتران François Mitterrand ، وبعد فشله بالدورة السابقة، إذ إعتمد مكتبه الإنتخابي رسم صورة وجهه كمشترك بشكل مُنقّط على الرمز الإشاري Logo للمحطة التلفزيونيّة Tf1 حيث يُسجّلها العقل الباطني أو اللا واعي بينما العين المُجرّدة لا تراها وهذا النوع معروف بالـ Message subliminal أي ما لا يتجاوز عتبة الشعور أو الوعي. وهذا النوع من الإعلام هو إعلام لا أخلاقي ويُعتبر تلاعُباً (Manipulation) يقوم على عدم الاحترام وعلى عدم الإلتزام الأخلاقي بالتعاطي مع عقل المشاهد وحريّته.
يُحرّك العاطفة كما في المسلسلات العاطفيّة والرومنسيّة (العربيّة التركيّة والمكسيكيّة Novelas) فقصص الحب والعذاب كما برامج البحث عن أحدهم يحرّك العاطفة والمشاعر ويخلق تعاطفًا مع الموضوع.
يُثير الغرائز من خلال برامج ال Reality show (التي تدّعي إظهار الحقيقة، وهي مُركّبة) حيث نتابع 24 على 24 ساعة المُشتركين في تفاصيل حياتهم اليوميّة وعلاقاتهم وهذا كسْر لحِرمة العيش وحميميّة الشخص، فيجرّ مضمون البرنامج إلى التلصّص (Voyeurisme) وهذا ضد أخلاقيّة التربية (عادةً الأهل يردعون أولادهم إذا حاولوا إستراق النظر من النافذة الى حميميّة الجيران.)
وأيضًا من خلال برامج تسوّق للنميمة والمشاكل بدفع الضيف، فنان، إعلامي
أو أي شخصية معروفة الى إعطاء رايه السلبي بزملاء أو بسياسيين أو بصحافيين آلخ… تحت غطاء “الحرية” و”الصدق”.
يحرّك الغرائز التعنيفيّة من خلال برامج ألعاب ومسابقات (كالملاكمة) تدّعي التنافس الشريف كما في برنامج Gladiator حيث يُجَرّ المشاهد الى التعاطف مع أحد المشتركين المُتقاتلين والتمنّي أن ينتصر على الأخر بشكل وحشيّ وقاسٍ ويشعر المشاهد برضى بسرور وبنشوة إذا أحد المشتركين عضّ أُذُن مُشترك خَصم ودمّمه. وبهذه الطريقة يتمّ تحريك الساديّة (Sadisme) والغريزة الإنحرافيّة (Pulsion perverse) كما نرى في برنامج L’ile de la tentation (جزيرة الإغراء) حيث إعتماد البرنامج على الإغراء المُباح على أنواعه ليتمّ فصل مُتزوجين أو مُرتبطين بوضعهم بمواقف إباحيّة وخلاعيّة.
إثارة الغرائز الطفوليّة (تعذيب الحيوانات- مفهوم القصاص…) كما في برنامج Nouvelle Star حيث يتمّ “التمهزق” والتهكم من قبل اللجنة على المشتركين بشكل مُهين (بعكس The voice الtélé-crochet) للعودة والتذكير بسلطة المُعلّم التأنيبيّة فالمشاهد يتعاطف مع الُمُشترك المُهان ويغرق في الكنبة بإنتظار ردّة فعله مُتذكّراً وضعه الخاص عندما كان يُواجه قصاصًا أم تأنيبًا في المدرسة. ويعاد بث casting المُشتركين الفاشلين بطريقة إستهزائيّة وبإعادات متكرّرة مع تسجيلات ضحك مرافقة للمشهد مما يشير إلى تعاطي عديم الإحترام للمشتركين الفاشلين، ويشوّهون صورتهم بين أهلهم، جيرانهم ومعارفهم وهذا التعاطي بعيد عن الأخلاق والرحمة لأنه قد يدفع الناس (من حولهم في الشارع وفي كل الأمكنة) إلى النيل منهم بكلمات وتعليقات جارحة مما قد يدفعهم إلى الإحباط وارتكاب عمل سلبي تجاه المجتمع أو أنفسهم…
مثل آخر من برنامج “الحلقة الأضعف” أوfaible Le maillon في جميع نسخاته بالعالم يعتمد على إختيار مُقدّمة ذات حضور قوي وترتدي النظّارات وسترة داكنة وتطرح الأسئلة وتتكلّم بصرامة وقسوة مؤنبة الخاسرين بطريقة عنيفة، مذكرةً طريقة التربية البدائيّة القاسية، واضعة المشاهد في حالة تفاعل طفولي…
يَدفع أيضًا الإعلام إلى الإستهلاك وذلك بطريقة التلاعب بالمشاعر ، جاعلاً من المُشاهد مشروعًا تجاريًّا يؤمّن مدخولاً ماديًّا…
لا ينشر الإعلام الحدث فقط بل يصنعه وينشر العدوى في العالم. (حتماً كان المسيح والرسل إستعملوا الإعلام للتبشير لو وُجد في تلك الفترة الزمنيّة).
من المفترض من وسائل الإعلام ألا ينفصل الإحترام والأخلاق بالجوهر والمضمون عن بعضهما في أي نوع من البرامج (أكانت برامج ترفيهيّة، فنّية، سياسيّة، حواريّة، دراميّة آلخ…) ولأي نوع من المشاهدين (بالغين أو أولادًا، وأيّاً كان جنسه- جنسيّته- عرقه- ثقافته- إنتماؤه الديني أو مستواه الإجتماعي…)
ليس بالضرورة أن تكون الوسيلة الإعلاميّة مُتديّنة لتكون وسيلة مسؤولة وإنسانيّة بعرض الأفكار والبرامج، فمن الممكن أن يكون المسؤول مُلحدًا ذا أخلاق عالية وقيم إنسانية، أو أن تكون إدارةً تدّعي الإلتزام الديني ولكنّها بالعمل التطبيقي وبالبرامج عديمة الإلتزام والإحترام الإنساني وتدسّ أفكاراً سامّة ومُتطرّفة وتقوم بدون محبة أو رحمة بغسل عقول المُتلقّين… ليس شرطاً أن يكون الإنتماء دينياً إنما الشرط الأهمّ هو الإلتزام الإنساني الواعي المترفع عن التبشيرالتطرّفي.
ما يُسمّى بالأخلاق وإحترام الغير والشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع والآخر…
هو تفكير إنساني بحت يحترم حقوق الإنسان ويحافظ على إرث الإنسانيّة.
التطرّف وفرض التفكير المُوجِّه والمُوجَه (التطرّف والتعصّب الديني) هو أيضاً تلاعب بالعقول وإجراء ضغوط نفسيّة وخلق عقد ذنب للسيطرة على حياة المُشاهد… التحكّم وغسل عقل المُشاهد الذي بتركيبة عقله يصدّق ما يرى بشكل عفوّي قبل أن يُشغّل إرادة التحليل، خاصةً عند الأطفال والأولاد (يُصدّق كل ما يَرى لأنه صفحة بيضاء)
إنّ نشر المبادئ الإنسانيّة والأخلاقيّة والتبشير لا يكون فقط عبر الوسائل الدينيّة بل بالعكس من الأفضل أن تطال أكبر عدد من المُشاهدين وتكون عبر محطات علمانيّة ذات إلتزام إنساني…
من قلة الأخلاق والاحترام مثلاً، مخاطبة العقل البدائي عند الإنسان الذي يخاف المجهول والموت… ببرامج التبصير والأبراج، وفقرات التغذية والصحة والتجميل المدفوعة من منتوج أو مؤسسة تسوّق لمَنتوجاتها، ما يعني إنها برامج دعائية وإعلانية تحت غطاء إعلامي… ويجب ذكر هذا الموضوع بوضع عنوان publi-information بما معناه “معلومة دعائيّة”.
الأكثريّة لا تعني النوعيّة، فمن الممكن للإعلام أن يقلب المقاييس والمفاهيم، وأن يخلق من الشواذ قاعدة كنشرصورة التشويه التجميلي، كما لو أنها الهدف المطلق الذي يجب على المرأة أن تصل إليه. التشجيع على الحميات غير الصحيّة دافعة إلى فَقدان الشهوة الى الطعام بشكل مرضي((Anorexie. وهذا التصرّف لا أخلاقيّ، إذ يدعو إلى التسويق لصورة تجميلية للمرأة بالوزن والشكل وطريقة اللباس والتصرّف تشويهيّة تحت غطاء العصرنة والإنفتاح والموضة…
ممكن أيضًا للإعلام أن يدعو للتطرّف الديني أو تدمير العقيدة الدينيّة وهو خطر واحد بوجهين.
كما لا يجوز بإسم العصرنة والإنفتاح والحريّة تدمير القيم العائلية، الأخلاقية والإنسانية، والقيم الوطنيّة التي هي أساس ركيزة المجتمع والحضارات.
“بالعرض المتكرّر لصور وأفكار سلبية تُدسّ بشكل جُرعات تلقيحيّة توصل الى الإصابة بالمرض وبتفشّي الوباء المُحطّم devastateur… الِعبرة ليست بالوسيلة المُستعملة، بل بالمُستَعمل لكل وسيلة.” (أبونا داود كوكباني)
كل إختراع يمكنه أن يكون سلاحاً فتّاكاً أو بالعكس درعاً حامية.
المحافظة على القيم والحقوق الإنسانيّة والإلتزامات الدينيّة وتطبيقها في الإعلام دون تطرّف ولا شواذات، كمن يمشي على حبل مشدود فوق الهاوية (Fil tendu) بغياب المسؤولية الإعلامية علينا بمسؤولية مُشاهديّة تحليليّة و تصفية وفلترة المعلومات!
في البداية ذكرت أن الإعلام صورة عن المجتمع، ليتغيّر الإعلام ينبغي أن يتغيّر المجتمع!
تحدّث البابا فرنسيس عن ثلاث مداخلات سلبيّة تعتبر بمثابة “خطايا”:
Désinformation، بما معناه التضليل الإعلامي
Diffamation، أي التشنيع والقدح
Calomnie ، أي النميمة والإفتراء
ثلاثة أشياء بمثابة “صفعة مباشرة ليسوع.”
التضليل الإعلامي هو ذكر نصف الحقيقة التي تناسبنا وإخفاء الشقّ الذي لا يخدمنا
التشنيع والقدح هو لعب دور الصحافي وتحطيم سمعة إنسان عندما يقوم بخطأ معيّن،
أما النميمة و الإفتراء فهو قتل الأخ بشكل مباشر…
إن أيَّ كلام أحديثاً كان، أو خطاباً، أو مقالةً يحمل إهانةً وطعناً أو تحقيراً لأي شخص لا ضرورةَ له ويجب ألَّا يُذكر…
وحده الإله، وحده الأب يعرف كل إنسان كما هو وعلى حقيقته! (البابا فرنسيس)
فهل نستوعب أعداد الصفعات التي وجّهناها ليسوع وهل أحصينا مجموع الخطايا الإعلاميّة التي ارتكبنا، وكم من جرم قتل قمنا به تجاه الآخر!!
إنّ حرب هدم البشر (بالأفكار الهدّامة والإعلام المُضلّل) أخطر من هدم الحجر… وبناء البشر بالتالي (بالتوعية والتبشير، وبالتواصل الـ لا عنفي والإيجابي) أعظم من بناء الحجر…
هيام أبو شديد