Almanara Magazine

الدينونة العامة في الكتاب المقدس.

الخوري ميشال صقر[1]

مقدمة

الدينونة العامة هي اليوم الذي فيه ينتهي العالم من خلال ديانة الله للأحياء والأموات. لها تسميات عدّة في الكتاب المقدس منها: يوم الرب، نهاية العالم، مجيء يسوع الثاني، يوم الدينونة، يوم القيامة إلخ. منذ المكرّم “بيار أبيلارد” (1079 – 1142) الراهب اللاهوتي الكاثوليكي، بدأت الكنيسة تعلّم أنّ للإنسان دينونتَين: دينونة خاصة يوم موته، ودينونة عامة يوم نهاية العالم[2]. لهذا التعليم أيضًا أساسٌ كتابيّ. لكن تختلف النظرة بين سفرٍ وآخر حول المواضيع الاسكاتولوجية؛ فالكتاب المقدس ليس كتابًا واحدًا، بل هو مجموعة أسفار أشبه بمكتبة مؤلّفة من 73 كتابًا. تشمل هذه المكتبة على أنواع وفنون أدبية مختلفة وعلى مضامين تتطوّر تدريجيًّا مع تطوّر الوحي الإلهي الذي وجد كماله في ملء الزمن أي في تجسّد ابن الله وفدائه للعالم بموته وقيامته. فما هي الصُّوَر التي يرسمها لنا العهد القديم حول الدينونة العامة؟ وكيف يجاوب عليها العهد الجديد ويتخطّاها بواسطة يسوع المسيح وتعاليم رسله؟ هذا ما سنراه في هذا المقال؛ علّه يعطي ضوءًا آتيًا من الحياة الأبدية في قلوب قارئيه!

1- مثوى الأموات    

في اسرائيل القديم كان الاعتقاد أنّ الجحيم “Hadès” المسمّى “شيول” هو دار ميعاد كل البشر حيث يرقد الأبرار والأشرا مختلطين. إنّه أشبه بقبر، فجوة، جُب أو حفرة في عمق الأرض (مز 30/10؛ حز 28/8) حيث يخيّم ظلام دامس. هناك ينزل كل الأحياء الذين يموتون ولن يصعدوا منه أبدًا إذ ليس بمقدورهم بعد أن يسبّحوا الله أو أن يرجوا عدالته أو أمانته(أي 7/9؛ مز 88/7): إنّه التخلّي التام!

وعند اسرائيل أيضًا جهنّم “Géhenne” وهي للخاطئين فقط[3]. إنّه مكان هول حيث تُرى جثث الناس الذين عصوا الرب، فدودهم لا يموت ونارهم لا تطفأ (أش 66/24). فجهنّم هذه ليست الشيول العادي، إذا جاز القول، فلقد جمعت بين الهاوية التي لا قاع لها ومطر النار (مز 140/11) لأنّ اضطرام غضب الرب قد أشعلها. إنّ جهنّم هي مصير الخاطئين؛ وما كانت لتصير مصير الأبرار لاسيّما إذا عرفنا أنّ هؤلاء، لكي يظلّوا أمناء لله، كان عليهم أن يحتملوا اضطهاد الخطأة. ومن ثمّ كان من المنطق أن من الشيول التقليدي حيث ينام الأبرار والأشرار مختلطين، ينهض الأشرار إلى الرذل الأبدي بينما ينهض ضحاياهم إلى الحياة الأبدية (دا 2/12). وعليه، لم تعد جهنّم بعد محدودة بمكان، في عمق اعماق الأرض بل هي “الكون الذي يحارب مع الله أولئك الجهّال” (حك 5/21). إنّ المسيح، حتى قبل مجيئه، كان موعودًا به ومنتظرًا؛ فإنسان العهد القديم، بقدر قبوله لهذا الوعد، كان يرى جحيمه يضيء ببرق، لا يلبث أن يصبح يقينًا بالخلاص. فبموت المسيح نزل إلى الجحيم (1بط 3/19-20) ودمّر أبوابه فأصبح مضطرًّا إلى ردّ الأموات الذين يحتفظ بهم، وهكذا أصبح المسيح “بكر المولودين من بين الأموات” (رؤ 1/5).

كثيرًا ما اقترنت بكلمة جهنّم كلمة “نار”. فالله سيدين العالم بالنار (أش 66/16) وسيجمع الأمم في وادي “يوشافاط” الذي تفسير اسمه وادي “الله الديّان”: إذ ذاك يكون الحصاد وجني العنب في الأزمنة الأخيرة (يوء 4/12-14). ففي سفر الحكمة نرى الأخيار والأشرار يمثلون معًا لأداء الحساب (حك 4/20 – 5/23): الخطاة وحدهم هم الذين ينبغي إذ ذاك أن يرتاعوا، لأنّ الأخيار سيحميهم الله نفسه.

2- يوم الرب (الأنبياء)

الدينونة العامة يُعبَّر عنها أيضًا في العهد القديم بعبارة “يوم الرب” التي تلخَّص أحيانًا بلفظ “اليوم” أو “ذلك اليوم”. فقد كان اسرائيل يتّكل على امتيازه لأنّه شعب مختار فيتوقّع تدخّلاً من الله “يوم الرب” مؤآتيًا له وضد الشعوب الأخرى. لكنّ النبيّ قد يدلي، خلافًا لما يتوقّعه الشعب، بنظرة أخرى: إنّه يوم غضب على اسرائيل المتصلّب في خطيئته! وهذا ما نجده في الاستعمال الأقدم الذي يعود إلى عا 5/18-20 وهو الذي قال انّ كل شرّ سيعاقب في ذلك اليوم. هذا ما سيقوله أيضًا صفنيا أن لا رجاء للشعب إلاّ بطلب وجه الله والعيش كالـ”عناويم” الوضعاء والمساكين بموجب وصاياه. وما لم يفعلوا، سيشتركون في قصاص الأمم حواليهم فيُفرَد للهلاك جميع الآثمين بالأصناميّة والعنفاء الجشعين وجميع اللامبالين، ولسوف يُسمع صراخهم في كل ناحية من أورشليم (صف 1/14-18)[4]. ويمكننا تحديد معانٍ ثلاثة للعبارة “يوم الرب” نسبة لثلاث محطّات تاريخيّة مختلفة:

– قبل الجلاء، النصوص التي تتحدّث عن يوم الرب تنبئ باجتياح وشيك مخرِّب من قبل الأشوريين والكلدانيين وغيرهم (ضف 1/14-18؛ أش 2/6-21؛ إر 30/5-7).

– في أثناء الجلاء يصبح يوم الرب موضوع رجاء إذ انّ غضب الله ينقلب على جميع ظالمي اسرائيل (عو 15): بابل (إر 50/27)، مصر (حز 30/2)، آدوم (أش 34/8). ولذلك فإنّ هذا اليوم هو يوم تجديد لاسرائيل (أش 30/26؛ يوء 3/4).

– بعد الجلاء يكاد يوم الرب أن يصبح فقط “دينونة” تضمن، بشكل عام، انتصار الأبرار وهلاك الخاطئين (ملا 3/19-23؛ أي 21/30؛ مثل 11/4).

أما في شأن العلامات الكونيّة التي ترافق يوم الرب من زلازل أرضية (عا 8/8) وكسوفات شمسيّة (إر 4/23) فهذه كلّها ليست إلاّ تعابير رؤيويّة عن أهميّة تدخّل الله ليقاصص الخاطئين. هذا القصاص ممكن أن يكون من خلال اجتياح، أو كارثة طبيعية. لكن تدخّلات الله تصل إلى ذروتها عندما يأتي الله نفسه، عندها كثيرٌ من الخطأة قد يكونون تائبين، أما الباقين الذين هم أعداء الله، أكانوا يهودًا أم وثنيين، سينالون القصاص الملائم[5].

3- القيامة إلى حياة أبدية (سفر المكابيين الثاني)

لأوّل مرّة في الكتاب المقدس نجد، بصريح العبارة، حديثًا حول القيامة، في سفر المكابيين الثاني في قصة استشهاد الأخوة السبعة. فقد جاوب الولد الثاني المضطهِد قائلاً: “إنّك أيها المجرم تسلبنا حياة الدنيا ولكنّ ملك العالم، إذا متنا في سبيل شرائعه، سيقيمنا[6] لحياة أبدية” (2مك 7/9). وكانت الأم، التي عاينت بنيها السبعة يهلكون في مدّة يوم واحد وصبرت على ذلك، تشجّعهم وتقول لهم: “لستُ أعلم كيف نشأتم في أحشائي… إنّ خالق العالم الذي جبل الجنس البشريّ والذي هو أصل كل شيء، سيعيد إليكم برحمته الروح والحياة” (2مك 7/23). ففي سفر المكابيين نجد بداية الإيمان في القيامة، وهذا ما ستتبنّاه جماعة الفريسيين التي نشأت كردّة فعل دينية وكثورة روحية على المحتل اليوناني، الذي دنّس الهيكل وفرض عبادة الآلهة الوثنية في اسرائيل.

ولكن بانتظار يوم القيامة، يعتبر سفر المكابيين أنّ الصلاة والذبيحة التكفيريّة فعّالتان لغفران خطايا الأموات. ففي 2مك12/38-46 نجد أوّل شهادة كتابية عن الاعتقاد أنّ الصلاة تفيد الأموات، وكان هذا من أبرز الأسباب لرفض لوثر لسفرَي المكابيين سنة 1519 وجعلهم في قائمة الأسفار القانونية الثانية. أما تقليد الكنيسة[7] فقد مارس الصلاة من أجل الراقدين، استنادًا لما فعله يهوذا المكابي، حوالي سنة 160 ق.م. إذ “قدّم ذبيحة التكفير عن الأموات ليُحَلّوا من الخطيئة” (2مك 12/46). فمنذ القرون الأولى كرّمت الكنيسة ذكرى الأموات وقدّمت لأجلهم الصلوات، وبنوع خاص الذبيحة الافخارستيا، حتى يتطهّروا فيبلغوا الرؤية السعيدة. وهذا ما نجده في تعاليم الآباء لاسيّما القديس يوحنا الذهبيّ الفم الذي قال: “لنمدّ لهم العون ونذكرهم. إن كان أبناء أيوب قد تطهّروا بذبيحة أبيهم (أي 1/5)، لمَ نشكّ بأنّ تقادمنا لأجل الراقدين تجلب لهم بعض التعزية؟ فلا نتردد في مساعدة الذين رحلوا وتقدمة صلوات لأجلهم”[8].

3- شخصية ابن الإنسان

إنّ رؤيا قديم الأيام وابن الانسان في دا 7/9-14 تجد صداها في الانجيل خاصة في خطبة النهايات عندما يقول يسوع: “ومتى جاء ابن الانسان في مجده، تواكبه جميع الملائكة، يجلس على عرش محده، وتُحشر لديه جميع الأمم، فيفصل بعضهم عن بعض، كما يفصل الراعي الخراف عن الجداء” (متى 25/31-32). فشخصية ابن الانسان هي شخصية اسكاتولوجية بامتياز. إنّ اللفظة الآرامية الأصلية “بار ناشا” مثل اللفظة العبرية “بن آدم” ترادِف أولاً كلمة إنسان (مز 8/5). لكنّ هذه العبارة تتخذ في هذه الرؤيا معنىً خاصًا رفيعًا إذ تدلّ على انسان يفوق الصفة البشرية؛ فهو يتعلّق بموضوع القيامة والمكافأة: “وفي وقت النهاية كثيرٌ من الراقدين في أرض التراب يستيقظون، بعضهم للحياة الأبدية، وبعضهم للعار والرَّذل الأبدي” (دا 12/2). إنّ شخصية ابن الانسان تتميّز بما يلي:

– ليس ابن الانسان شخصيّة محض أرضيّة مثل المسيح في العهد القديم؛ إنّه يأتي من السماء أو على الأقل إنّه مرتبط ارباطًا أسايًّا بها.

– هذه الشخصيّة تتميّز بالتقوى والبرارة والانصياع لإرادة الله ومهمّتها تحقيق مشيئة الله في التاريخ وقيادة الملكوت الجديد الابدي.

– قد لا يكون ابن الانسان شخصيّة محدّدة منفردة بل مجرّد صورة جماعية لكل الأبرار والصدّيقين الذين سيعيشون في الملكوت الجديد ويحتلّون فيه مراكز مرموقة.

        لقد أطلق يسوع في الانجيل هذا اللقب على نفسه (متى 8/20). إلاّ أنّ المعنى الجماعي والمشيحي هو امتداد للمعنى الشخصي. ابن الانسان هو رئيس الشعب وممثّله ومثاله. وهكذا رأى مار افرام السرياني أنّ هذه النبوءة تشير أولاً إلى اليهود-المكابيين ومن ثمّ إلى يسوع الذي حققها على وجه كامل.

4- هناك يكون البكاء وصريف الأسنان (متى)

كثيرًا ما استعمل متّى الأسلوب الرؤيوي، الذي درَجَ خاصة تحت الاحتلالين اليوناني والروماني من سنة 200 ق.م. إلى سنة 100 ب.م.، والذي هدفه الأول كان حثّ المؤمنين على الثبات وليس الكلام عن المستقبليات أو الماورائيات. فمشهد “الدينونة العامة” (متى 25/31-46) قد تخطّى بشهرته عالم المؤمنين الأتقياء وتفاسيرهم وقد وصل إلى أن يكون تحفة فنيّة رسمها الفنان الشهير ميكال أنجلو في بداية القرن السادس عشر وهي لا تزال حتى اليوم محفوظة في “Chapelle Sixtine” في المتحف الفاتيكاني. لكن إذا أمعنّا بالتأمل لوجدنا أنّ متى يتحدّث أكثر من غيره من الأناجيل، وفي عدّة أماكن، عن الدينونة الأخيرة وليس فقط خطبة النهايات (متى 24 – 25) التي نجد ما يقابلها عند مرقس ولوقا (مر 13 ولو 21). فقد أكثر مثلاً من استعمال عبارة “هناك يكون البكاء وصريف الأسنان” إذ ترد عنده ست مرّات وعند لوقا مرة واحدة (متى 8/12؛ 13/42 و50؛ 22/13؛ 24/51؛ 25/30؛ ولو 13/28). فهذه العبارة تشير إلى القصاص الأبدي الذي يعانيه فعلة الإثم الذين لم يؤمنوا بالمسيح الموعود والذين لم يطبّقوا الشريعة وأعمال البر. أما مكافأة الأبرار فنجد عند متى تعابير كثيرة تشير إليها منها: “الصدّيقون يشعّون كالشمس في ملكوت أبيهم” (متى 13/43) وخاصة إذ انّهم اهل اليمين فيسمعون: “تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعدّ لكم من قبل إنشاء العالم” (متى 25/34). لكنّ الملاحظ أيضًا عند متى انّه لا يكفي الانتماء إلى الكنيسة وإلى جماعة المختارين لكي ننال الخلاص؛ فالشبكة التي تمثّل الكنيسة والتي ألقيت في البحر قد تجمع سمكًا من كل جنس، لكنّ الصيّادين سيطرحون السمك الخبيث خارجًا (متى 13/47-50)؛ وفي مثل وليمة الملك عندما دخل هذا الأخير لينظر الجالسين للطعام الذين لبّوا الدعوة إلى العرس ورأى أنّ هناك رجلاً ليس في لباسٍ لائق أخرجه إلى الظلمة البرّانية (متى 22/11-14)، فدينونة هذا الرجل تمثّل دينونة أبناء الكنيسة الذين دخلوا إلى العرس لكن عليهم حمل ثمار الأعمال الصالحة معهم ليستحقوا الخلاص.

وعندما يتحدّث الانجيلي عن مجيء ابن الانسان ونهاية العالم في متى 24 – 25، اللافت أنّ متّى لا يحدد “متى” يجيء بل يعرض “كيف” يأتي المسيح الديّان النهائي[9] و”كيف” على المؤمنين أن يكونوا قد تصرّفوا لكي يستحقوا المكافأة[10]. همُّ متّى الأوّلي تسليط الضوء على الحياة الأدبية الحالية[11]. فسؤال التلاميذ حول “متى تكون هذه الأمور؟” (متى 24/3) لا يلقى جوابًا واضحًا إنما يبيّن متّى أُسس الحياة الأدبيّة في تعليم يسوع. فالمحور الأساسي في بشارة هذا الأخير عند متى هو “ملكوت السموات”. اقترابه يحثّ المؤمنين أن “يعملوا” لا أن يقولوا فقط يا رب يا رب (متى 7/21). إنّ الحياة المسيحيّة الأساسيّة عند متى تكمن في إعطاء “ثمر” التوبة (متى 7/19). القارئ المتّاوي يفهم أنّ عليه الابتعاد[12] عن كل خبث ورياء في المسلك (متى 23/13-36) وأن يعيش حقيقته امام الله وأمام الناس مبتعدًا عن حب الظهور والأماكن الأماميّة (متى 23/5-6) سالكًا في “برٍّ” أفضل نوعيّةً لا كمّيةً (متى 5/17-20) من برّ الفرّيسيين. لا يكفي متّى موقف الـ”orthodoxie” فالفرّيسيون يقولون ولا يفعلون، لكنّه يشدّد على العمل بطريقة صحيحة الـ “orthopraxie”.

5- “اليوم” يوم الخلاص (لوقا)

يعبّر لوقا عن الخلاص المُعطى بشخص المسيح وحضوره في العالم من خلال كلمة “اليوم”[13]، لا البارحة ولا غدًا. يبشّر الملاك الرعاة في بيت لحم قائلاً: “اليوم ولد لكم مخلّص” ( لو2/11)؛ وبعدما قرأ نص أشعيا النبي في المجمع في بداية حياته التبشيرية قال يسوع على مسمع من الجميع: “اليوم تمّت هذه الكتابة على مسامعكم” (لو 4/21)؛ وفي نص زكا العشار يقول يسوع: “اليوم حصل الخلاص لهذا البيت” (لو 19/9)؛ وللص اليمين قال: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو 23/43).

في إنجيل لوقا تتكرر كلمة “اليوم” إحدى عشرة مرّة أمّا في مرقس فتأتي مرة واحدة وفي متى ست مرات. هذا يؤكد أنّ لهذه الكلمة أهمية كبرى عند لوقا[14] وهي متعلّقة بكلمة “الخلاص” الذي يتّضح من خلال حضور شخص ورسالة يسوع الخلاصية لكل الشعوب.

ولذلك، كل من يؤمن بالمسيح ويغيّر طريقه ويتوب[15] يحصل على الخلاص. لا حاجة للص اليمين أن ينتظر نهاية الأزمنة ليحصل على الفردوس! فالخلاص عند لوقا هو خلاص شامل: إنّه يعود بسلالة يسوع إلى آدم ليقول انّ جميع بني آدم هم مخلّصون بعد التوبة والإيمان والمسيح بنظره هو “نورٌ للأمم ومجدٌ لشعبه اسرائيل” (لو 2/32). لذلك دُعي لوقا أيضًا على حق إنجيل الرحمة والغفران وهذا واضح من خلال الغفران الذي يعلّمه يسوع في هذا الإنجيل إن كان في أمثاله (مثل الإبن الضال لو 15/11-32) أو في تصرّفاته (مع المرأة الخاطئة لو 7/36-50 ومع صالبيه لو 23/34).

6- الإسكاتولوجيا اليوحنّوية

عند يوحنا نوعان من حديث حول الاسكاتولوجيا أو الأمور النهيويّة[16]: فهناك حديث حول أمور مستقبليّة ستحدث في نهاية الأزمنة وهناك حديث حول خلاص آنيّ قد تمّ في الحاضر. وهكذا يعطي نظرة متوازية حول النظرة اللاهوتية الحقّة للإسكاتولوجيا المسيحية: فالخلاص قد تمّ مع المسيح “déjà là” ولكن على المؤمنين أيضًا أن يغيّروا طرقهم وأن ينتظروا خلاصهم الأبدي مشاركين هكذا بالحصول عليه “pas encore”.

الاسكاتولوجيا المستقبلية: حسب الاعتقاد الشعبي اليهودي الموروث من الكتب الرؤيويّة، إنّ ابن الانسان عليه أن يظهر في نهاية الأزمنة فوق غمامة من السماء ترافقه الملائكة بكلّ أبّهة ومجد؛ فقد يُصدر الحكم الأخير على الأحياء والأموات. إنّ الاعتقاد في وجود هكذا يوم أخير نجده في حدثين في إنجيل يوحنا: قبيل العشاء الأخير عندما قال يسوع “من أعرض عنّي ولم يقبل كلامي فله ما يدينه: الكلام الذي قلتُه يدينه في اليوم الأخير” (يو 12/48)؛ والحدث الثاني في خطبة خبز الحياة بعد تكثير الخبز والسمك تظهر أربع مرّات وكأنها لازمة لترتيلة هذه العبارة التالية: “وانا أقيمه في اليوم الأخير” (يو 6/39 و40 و44 و54)[17].

أما الاسكاتولوجيا الحالية أو التي تحقّقت فهي أيضًا موجودة عند يوحنا: فلا حاجة لانتظار يوم أخير في نهاية الأزمنة. إنّ صُبح اليوم الأخير قد أشرق على العالم يوم نصب المسيح خيمته بيننا. فالذي يستقبل اليوم كلمة المسيح ويؤمن بها ويعيشها لا يمكنه أن يموت بل انتقل من الموت إلى الحياة (يو 5/24)؛ ويمكننا أن نجزم انّه “لا يموت أبدًا” (يو 3/16) وانّه دخل في عالم القيامة (يو 11/26) وحصل على الحياة الأبدية (يو 3/16؛ 6/40 و47 و54؛ 10/28). فيوم الدينونة والقيامة بالنسبة ليوحنا هو إذًا يوم مجيء المسيح في قلب كل مَن يؤمن ويحب: “الحق الحق أقول لكم إنّ كلّ مَن آمن، له الحياة الأبدية” (يو 6/47).

7- قيامة المسيح وقيامة الأموات عند بولس

بالنسبة لمار بولس إنّ قيامة الأموات لمرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقيامة المسيح. وهو ملخَّص في الفكرة التالية: “إذا أُعلن أنّ المسيح قام من بيم الأموات فكيف يقول بعضكم إنّه لا قيامة للأموات؟ فإن لم يكن للأموات من قيامة، فإنّ المسيح لم يقم أيضًا. وإن كان المسيح لم يقم، فتبشيرنا باطل وإيمانكم أيضًا باطل” (1قور 15/12-14). إذًا إنّ التبشير والإيمان الذي يقابله، لهما موضوع رئيسي هو قيامة المسيح، وبنظر بولس، لا معنى لسائر وجوه التبشير والإيمان إلاّ بالنظر إلى قيامة المسيح: فإذا لم يكن لها من وجود انهار كلّ شيء. فهو يجزم أنّه ستكون قيامة للأموات (1قور 15/29-34) وإلاّ لماذا يتقبّل المبشِّرون الخطر كلّ حين؛ وإن كان الأموات لا يقومون فيكون من الأفضل أن نأكل ونشرب ونتعّم بهذه الحياة لأننا في آخر المطاف سنموت وينتهي كل شيء.

ويحاول بولس أن يعطي جوابًا حول كيف ومتى ستكون قيامة الأموات؟

كما أنّ المسيح قام بجسد ممجَّد روحانيّ كذلك على المؤمنين به أن يناولوا ذلك الجسد عينه. فبعد القيامة تحوّل جسد المسيح إلى جسد لا يجوع ولا يعطش، يدخل الغرفة فيما الأبواب موصدة؛ فهو ليس بشبح وهذا ما حاول أن يؤكّده مدّة أربعين يومًا من الظهورات والتي آخرها كان يوم صعد إلى السماء. هذا الجسد يسمّيه بولس جسد “روحانيّ” وهو غير جسد آدم الترابي: “الإنسان الأول من التراب فهو أرضيّ والإنسان الآخر من السماء” (1قور 15/47). والموت ليس إلاّ الشرط الأساسي لتحقيق قيامة هذا الجسد الروحاني، والتشبيه الذي يعطيه هو حبّة الحنطة: “ما تزرعه أنت لا يحيا إلاّ إذا مات؛ وما تزرعه هو غير الجسم الذي سوف يكون، لكنّه مجرّد حبّة من الحنطة مثلاً أو غيرها من البذور… هذا شأن قيامة الأموات: يكون زرع الجسم بفساد والقيامة بغير فساد؛ يكون زرع الجسم بهوان والقيامة بمجد. يكون زرع الجسم بضعف والقيامة بقوّة. يُزرع جسم بشريّ فيقوم جسمًا روحيًا” (1قور 15/37 و42-44). ونحن نؤمن أنّ المسيح بعد قيامته حصل هذا الجسم الممجّد، وإذ كان هو بكر القائمين من بين الأموات وُعد جميع المؤمنين به بالحصول على هكذا جسم ممجّد. فمريم العذراء[18] كانت أول مَن تحقق فيهم هذا الوعد إذ ارتفعت إلى السماء نفسًا وجسدًا أي انّها حصلت على هذا الجسد الممجّد وهذا ما تعيّده الكنيسة في 15 آب. وجميع المؤمنين الآخرين من رسل وشهداء ومعترفين ينتظرون تحقيق هذا الوعد بقيامة أجسادهم.

وهنا نصل إلى السؤال “متى”؟ عندما كتب بولس رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي، وهو أول سفر يُكتب في العهد الجديد حوالي سنة 51 م.، كان يعتقد مع باقي المسيحيين رفاقه في الجيل الأول أنّ المسيح لن يُبطئ وأنّ مجيئه[19] قريب، فقد كتب: “إننا نقول لكم عن قول الرب، إننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لن نتقدّم الأموات” (1تس 4/15). كان بولس يرى أنّ المسيح لن يُبطئ وأنّه، أثناء حياته، سيحظى بسماع صوت رئيس الملائكة ينفخ في البوق وبرؤية المسيح الممجَّد آتيًا على سحب السماء. وهذا هو السر الذي أفصح عنه عندما كتب: “إننا لا نموت جميعًا بل نتبدّل” (1قور 15/51). فعند مجيء الرب سيحدث أمران: الأموات الصالحون يقومون في جسد ممجّد والأحياء الصالحون يتبدّل جسدهم إلى جسد ممجّد، ثمّ يُخطف الجميع مع المسيح في الغمام. أما الخاطئون، أمواتًا كانوا أم أحياء، فلن يحظوا بهكذا جسد ممجّد موعود به فقط للمؤمنين الصالحين. وبالنسبة لتوقيت حدوث ذلك الأمر، إنّ بولس يعطي حوله ثلاثة تشابيه: إنّه كيوم الرب وكالسارق في الليل وكالمخاض على الحُبلى، حين يقول الناس: سلامٌ وأمن (1تس 5/1-3).

إنّ انتظار مجيء الرب عُبّر عنه في الجماعات المسيحيّة الأولى بصلوات وتعابير ليتوجية كثيرة، منها “ماراناتا” (1قور 16/22). ولكن من المعروف أنّ المسيح أبطأ مجيئه، فهو لم يأتِ في الجيل المسيحي الأول ولا في الثاني، وهذا ما جعل الرسائل البولسية المتأخّرة والرسائل الكاثوليكية في ما بعد تعطي نظرة أخرى حول هذا المجيء، وهذا ما سنراه في المقطع التالي.

8- مجيء رجل الإلحاد والمسيح الدجّال، ومجيء المسيح الثاني

من الخطوط الكتابية العريقة فكرة أنّ قوّة الشر الكبيرة غير موجودة إنّما في المستقبل. فليس بالضرورة أن يكون العالم يتطوّر نحو الأفضل؛ فالصورة المثالية للكون كانت في البدء عندما “رأى الله أنّ كلّ شيء حسنٌ جدًا” (تك 1/31). فتطوّر الشر يكبر في الأزمنة الأخيرة وعندها يطعن حربته الأخيرة في قلب الخير بواسطة شخصية كبيرة متعلّقة بالشيطان وهي أداته في حربه ضد الله[20]. وهذه الشخصية نجدها في كتب العهد الجديد.

تتحدث رسالة القديس بولس الثانية إلى أهل تسالونيقي عن شخصية شريرة[21] تسبق مجيء الرب بقليل تسمّى “رجل الإلحاد” أو “ابن الهلاك” (2تس 2/4 و9و10): “فلا بدّ قبل ذلك أن يكون ارتدادٌ عن الدين، وأن يظهر رجل الاحاد ابن الهلاك الذي يقاوم ويناصب كلّ ما يحمل اسم الله”. إنّ تأخُّرَ مجيء الرب بدأ يلحظه المسيحيون في نهاية القرن الأول[22] ومردّه إلى يسوع نفسه الذي قال انّ نهاية التاريخ لن تأتي قبل أن تُعلن البشارة لجميع الشعوب الوثنية (مر 13/10؛ متى 24/14). لذلك يضع بولس مجيء رجل الاحاد وظهوره (2تس 2/6 و8 و9) في موازاة مجيء الرب يسوع وظهوره (2تس 1/7؛ 2/8). وهذا لا يعني المساواة بينهما لأن الرب سيظفر على رجل الاحاد بمجرّد مجيئه وحضوره، فيزيله ويبطله بأهون سبيل.

وفي رسائل يوحنا شخصية أخرى ترد أربع مرّات هي “المسيح الدجّال” (1يو 2/18 و22؛ 4/3 و2يو 7). يجد الباحثون في الأصل اليوناني لكلمة “anticristos” أنّ معنى الـ”anti” ليس في أنّه مسيح كذّاب أو مزيّف بل في انّه ضدّ المسيح انسجامًا مع صُوَر قوى الشر المضادة للمسيح في الأزمنة الأخيرة[23]. قد لا يكون المسيح الدجال شخصية واحدة إنما عدّة اشخاص في صيغة الجمع: “يا بنيّ، إنّها الساعة الأخيرة، سمعتم بأنّ مسيحًا دجالاً آتٍ، وكثيرٌ من المسحاء الدجّالين حاضرون الآن” (1يو 2/18). فالمسحاء الدجّالون كانوا من الجماعة اليوحنّوية وخرجوا عنها (1يو 2/19)، ينكرون أنّ يسوع هو المسيح، فاصلين المسيح السماوي عن يسوع الأرضي، وبذلك ينكرون الإيمان الكامل بالآب وبالابن ويبتغون اضلال المسيحيين الآخرين. قد ينتمون إلى بدعة الظاهرية أو الشكلانية[24]. إنّ رسالة يوحنا الأولى تدافع عن مشكلتَين عقائديتَين أساسيتَين هما: سر التجسّد (1يو 4/2) وسر الفداء (1يو 2/2؛ 4/10). فلم يكن من السهل في الجماعات اليونانية قبول فكرة تغيير في الله لحتى أنّه يصبح جسدًا ويموت على الصليب كفّارة عن خطايانا. ظهرت بدع كثيرة في الكنيسة الاولى وهرطقات إيمانية تنفي هذه الأمور. تعبّر الرسالة عن تعاليم هذه الهرطقات باستعمالها الكلمات التالية: تعليم المسيح الدجّال والأنبياء الكذبة وروح العالم.

9- الظفر النهائي وأورشليم الجديدة (الرؤيا)

    سفر رؤيا يوحنا هو كتاب تشجيع للمؤمنين، تثبيت بإيمانهم، وتذكير بنصر يسوع الأخير الذي سبق فأعلنه من خلال قيامته المجيدة وغلَبَتِه على الموت. لغة الرؤيا المستعارة الغامضة، بدون تسمية الأشياء بأسمائها واللجوء إلى اسماء رمزية من العهد القديم، هي انعكاس للوضع الخطير الذي كُتبت فيه. لقد ظفر المؤمنون الضعفاء على روما العظمى التي أرادت أن تأخذ مكان الله، لا بالدعوة الى السلاح والثورة، ولا بالحقد والبغض، بل بالثبات على الإيمان بالمسيح الحي الظافر، وبتحمّل الاضطهاد حتى الاستشهاد في سبيل كلمة الله وشهادة يسوع. فبعد أن سقطت “بابل” وأُزيلت الأمم الوثنية وأُلقي ابليس في مستنقع النار والكبريت، يصف الكاتب الدينونة الأخيرة (رؤ 20/11-15) أمام عرش أبيض يجلس عليه رجلٌ منظره أشبه بحجر اليشب والياقوت الأحمر. فيأتي الأموات كبارًا وصغارًا أمام العرش، ويقذف البحر ومثوى الاموات ما فيهما من موتى، “فيُحاكَم كلّ واحد على قدر اعماله”، وعندها يُفتح كتاب سفر الحياة: مَن لم يوجد إسمه مكتوبًا في هذا السفر يُلقى في مستنقع النار وأمّا الذين كُتبت أسماؤهم فيدخلون أورشليم السماوية (رؤ 21 – 22).

والملاحظ أنّ أورشليم السماوية، التي هي رمزٌ للمؤمنين المنتصرين مع المسيح، لها استعارةٌ اخرى في سفر الرؤيا: إنّها العروس امرأة الحمل (رؤ 21/9). فالمؤمنون هم المدعوّون إلى وليمة العرس، إلى الإفخارستيا التي لا تنتهي، إلى فعل شكر دائم لله على الخلاص الذي حقّقه. في أورشليم الجديدة شجرة حياة ونور أبدي، ولن يبقى فيها مكانٌ للهيكل لأنه عندما يكون الله حاضرًا لا حاجة للرمز الذي يدلّ عليه؛ ولن يبقى فيها مكانٌ للموت ولا للحزن ولا للصراخ ولا للألم. يشترك في وليمة العرس التي لا تنتهي نفوس كلّ الذين اضطُهِدوا من أجل البرّ، وسفكوا دماءهم في سبيل المسيح، وكل الصديقين الذين عاشوا وماتوا بالفضيلة. فجميع هذه النفوس تنتظر بفارغ الصبر اللقيا بالعريس الإله والوحدة والشراكة الدائمة معه[25]؛ لذلك هي تصرخ وتقول: “تعال”. وكل إفخارستيا في زمننا هذا الحاضر هي وحدةٌ في القلب مع المسيح واستباق لتلك الوحدة الدائمة المرجوّة في اليوم الأخير. فالفردوس الذي فقده آدم بخطيئته، سيُعطى للمؤمنين في نهاية الأزمنة: إنّه ليس وهمًا بل واقعٌ لأنه وحده الذي يدوم إلى الأبد، ونحوه تسير البشرية المفتداة بدم الحمل[26]. لذلك نرى المؤمنين في سفر الرؤيا يتحمّلون اضطهادات هذه الحياة حتى الاستشهاد ويلتزمون بعيش الإيمان والمحبة؛ ونحن أيضًا اليوم على مثالهم علينا أن نلتزم في بناء مجتمع لا حروب فيه لا صراخ ولا ألم، أن نصبر على المحن، ونرفع الشكر من القلب في افخارستيا لا تنقطع لعمل الله في التاريخ وفي حياتنا. وهكذا يمكننا القول إنّه لا حاجة لنا أن ننتظر دينونة عامة في نهاية الأزمنة إذ إنّ القديسين يسعدون بالراحة الأبدية منذ يوم مماتهم!

خاتمة

إنّ الذي ينتظر من هذا المقال أن يعرف متى يحدّد الكتابُ المقدس حدوثَ القيامة العامة فنعتذر عن اعطاء هكذا جواب رفض المسيح نفسه الإفصاح عنه (متى 24/36؛ مر 13/32). لكننا نجد في التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية عُصارة ما قلناه حول هذا الحدث النهائي إذ يقول: “إنّ قيامة جميع الأموات، الأبرار والأثمة، سوف تسبق الدينونة العامة. وستكون الساعة التي يسمع فيها جميع مَن في القبور صوت ابن البشر فيخرجون منها: فالذين عملوا الصالحات يقومون للحياة والذين عملوا السيّئات يقومون للدينونة. حينئذ ياتي المسيح في مجده وجميع ملائكته معه، وتُحشد لديه جميع الأمم، فيفصل بعضهم عن بعض، كما يفصل الراعي الخراف عن الجداء. ويقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره. ويذهب هؤلاء إلى عذاب أبدي، والصديقون إلى حياة أبدية… ستقع الدينونة لدى عودة المسيح المجيدة. الآب وحده يعرف الساعة واليوم، وهو وحده يقرّر حدوثها… تدعو رسالة الدينونة العامة إلى التوبة ما دام الله يعطي البشر الوقت المرضيّ، وقت الخلاص”[27].

فانتظارًا منّا لذلك اليوم الأخير علينا الاّ نُبقي عيوننا شاخصة نحو السماء (رسل 1/11) بل علينا أن نلتزم في بناء وحدة البشرية مع خالقها ومخلّصها من خلال عيشنا لقيَم مدينة السماء على الأرض. فهناك مبدأ فلسفي يقول إنّ كل ما هو مخلوق هو محدود ولا يدوم، لذلك نعتقد أنّ هذا العالم الفاني سيزول حتمًا يومًا ما، وعلينا أن نُبقي نفوسنا في شوق لقيا الحبيب في كل لحظة قائلين له: “تعال”، وفي الوقت نفسه، مُصغين لصوته يقول: “أنا معكم في الفقير والمحتاج، في القربان واجتماعات الصلاة، وفي كتاب الحياة، كلّ الأيام حتى منتهى الدهر”.


[1] الكاتب هو من كهنة أبرشية جبيل المارونيّة حائز على شهادة الدكتوراه في الكتاب المقدس من الجامعة الغريغوريّة في روما. درّس العهد الجديد في الجامعات الكاثوليكية في سان باولو، البرازيل. وحاليًا، إضافة إلى عمله الرعائي في لبنان، هو يدرّس في جامعة الحكمة، الجامعة الأنطونية، معهد مار بولس في حريصا ومعاهد اللاهوت للعلمانيين. له مؤلفات عدّة حول القراءة “البراغماتيكية” للكتاب المقدس.

[2] راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، جونيه 1999، في القسم الثاني من الجزء الأول “الاعتراف بالإيمان المسيحي”، المقال الثاني عشر: أولاً الدينونة الخاصة (رقم 1021-1022) وخامسًا الدينونة العامة (رقم 1038-1041).

[3]  بموضوع الجحيم وجهنّم راجع معجم اللاهوت الكتابي، دار المشرق، بيروت 1991، ص. 227-230.

[4]  راجع جمعية الكتاب المقدس، المرشد إلى الكتاب المقدس، بيروت 1996، ص. 454.

[5]  في العهد الجديد، عبارة “يوم الرب” أو “يوم يسوع المسيح” تلمّح إلى مجيء يسوع الثاني الذي قد يحصل في وقت لا يتوقّعه الناس (1تس 5/2؛ فل 1/6). راجع WRIGHT, J.S., «Giorno del Signore» in Dizionario Biblico GBU, Roma 2008, 714-715.

[6]  إنّ الفعل اليوناني المستعمَل هنا “anistêmi” هو نفسه الذي يستعمله العهد الجديد للتعبير عن قيامة الرب يسوع (مر 9/9).

[7]  حول هذا الموضوع، راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، رقم 1030-1032، المكتبة البولسية ومنشورات الرسل، جونيه 1999، ص.317-318.

[8]  القديس يوحنا الذهبيّ الفم، في رسالته الأولى لقورنتس، 41/5.

[9]  في خاتمة خطبة النهايات يشبّه يسوع مجيئه بأربعة أمثال: رب بيتٍ سافر وعاد في يوم غير متوقّع (متى 24/45-51)، عريس أتى في نصف الليل (متى 25/1-13)، غنيّ وزّع امواله على خدمه ثم عاد للحساب (متى 25/14-30)، وملك ديّان جالس على عرش مجده (متى 25/31-46).

[10]  الجواب الأسهل هو: “اسهروا وكونوا مستعدّين”! لكن في الأمثلة الأربعة الختامية لخطبة النهايات نجد عدّة مواقف أدبية مطلوبة منها: إعطاء الطعام في حينه، إحضار زيت الأعمال الصالحة، المتاجرة بالوزنات وتنمية المواهب الخاصة، وأخيرًا القيام بأعمال الرحمة الستة. كل هذه الشروط الأدبية، وغيرها المبعثر في الانجيل، تعبّر عن “كيف” على المؤمن أن يستعدّ لملاقاة ابن الانسان.

[11]  راجع GRILLI, M. – LANGNER, C., Comentario al Evangelio de Mateo, Evangelio y Cultura 5, Navarra 2011, 20-21.

[12]  راجع SAKR, M., Le sévère Sauveur. Lecture pragmatique des sept «OUAI» dans Mt 23,13-36, Publications Universitaires Européennes, Bern 2005, 302-308.

[13]  حول هذا الموضوع راجع POPPI, A., I Quattro Vangeli. Vol II. Commento Sinottico, Padova 1997, 376-377.

[14]  راجع DILLMANN, R. – MORA PAZ, C.A., Comentario al evangelio de Lucas. Un comentario para la actividad pastoral, Evangelio y Cultura 2, Navarra 2006, 68.

[15]  يستعمل لوقا 9 مرات الفعل “metanoèin” تاب، عاد، وخمس مرات الإسم “metànoia” التوبة، العودة؛ فمجوع استعمال الجذر هو كالتالي: لوقا 14 مرة، مرقس 3 مرّات ومتى 7 مرّات. ونجد أنّه عبثًا تحاول بعض النظريات الجديدة وضع متى، الذي له خلفية يهودية، أكثر من لوقا في الحديث عن هذه الرحمة والمحبة نسبة لأنّه وريث العهد القديم في ما يختص الـ”حِسِدْ” والـ “إمِتْ” (متى 23/23 ومي 6/8؛ هو 4/1؛ زك 7/9-11).

[16]  راجع S. van TILBORG, Comentario al evangelio de Juan, Evangelio y Cultura 3, Navarra 2005, 10-12.

[17]  عن هذا النوع من الاسكاتولوجيا يقول لوسيان دايس ما يلي: “Le dernier jour qui paraissait d’abord imminent semblait fuir sans cesse à l’horizon de l’histoire” في كتابه DEISS, L., Synopse des Evangiles Matthieu Marc Luc Jean, Paris 1991, 377-378.

[18]  حول معنى عقيدة الانتقال وارتباطها بقيامة المسيح راجع بشاره، ي. – الفغالي، ب.، العذراء مريم، منشورات الرابطة الكهنوتية، بيروت 1990، ص. 81-86. فباختصار يقول هذا الكتاب إنّ الانسان نفسًا وجسدًا وحدة لا تتجزّأ. النفس لا تجد كمالها في الله بدون الجسد. فالانسان لا يصل دفعة واحدة إلى حالة الكمال لأنّه خليقة محدودة في الزمان والمكان. ولكنّه لن يصل إلى الكمال إلاّ عندما يدخل جسدًا ونفسًا عالم المجد الأبدي.

[19]  الكلمة اليونانية التقنية التي تُتسعمل للتعبير عن مجيء يسوع الثاني هي “باروسيا”.

[20]  يرد في بعض الأساطير موضوع الوحش الذي تسيطر عليه الآلهة منذ القدم. وقد تبنّاه الأدب الرؤيوي اليهودي وأطلق عليه عدّة أسماء مثل بهيموت أو لاوياثان (أي 3/8) المغلوب والمقيّد منذ أوائل العالم، والذي سيُطلق سراحه في آخر الأزمنة ويُقضى عليه.

[21]  لسنا بصدد تاكيد أو نفي مجيء هكذا شخصية قبل مجيء الرب الثاني إنّما نعرض فقط وقائع 2تس حولها. فأوصافها مستعارة من العهد القديم (دا 9/27؛ اش 14/13-14؛ حز 28/2) وقد تشير إلى انطيوخوس ابيفانوس من خلال عبارة “يجلس في هيكل الله ويعلن نفسه إلهًا” (2تس 2/4). أمّا التقليد الكنسيّ إعتبرها إمّا شخصًا معينًا يظهر في آخر الزمان ليجرّب ويضطهد المؤمنين (متى 24/24) وإمّا مجموع المضطهِدين للكنيسة على مراحل تاريخها على الأرض.

[22]  يجد العلم الحديث بين 1تس و2تس اختلافًا عميقًا في التفكير بالنسبة إلى يوم الرب. ففي الرسالة الأولى تشديد على الرجاء المسيحي في مجيء الرب العاجل أما في الثانية فتشديد على تأخّر يوم الرب وأسباب تأخيره. لذلك يُفترض أن تُمثّل الرسالة الثانية الرأي المسيحي في مختلف الكنائس، بعد موت الرسول، في أواخر القرن الأول. راجع الكتاب المقدس. العهد الجديد، كلّية اللاهوت الحبرية جامعة الروح القدس، الكسليك 1992، ص. 950. وقد قُسِّمت الـ 13 رسالة لبولس إلى ثلاثة أقسام: رسائل بولسية أولى أي من خط يده (1تس، فل، ف، غل، 1قور، 2قور، روم)، رسائل بولسية ثانية أي انّها ممكن أن تكون لبولس ولكن ليس هذا أكيدًا (2تس، قول، أف) ورسائل بولسية ثالثة أي انّها تنمّ عن تنظيم كنسيّ موروث من بولس لكن هذا التنظيم يجدر به أن يكون في نهاية القرن الاول (1طيم، 2طيم، طيط).

[23]  راجع MORRIS, L., «Anticristo» in Dizionario Biblico GBU, Roma 2008, 84-85.

[24]  ما هي الظاهريَّة، Docétisme: من اليوناني dokeo أخذ شكلاً. في هذا التعليم الهرطوقي، إنسانيَّة المسيح تقتصر على مظهر خارجي، فهو يضع بين مزدوجين آلام المسيح وحقيقة تجسده. هذا ما جعل الكنيسة في القرن الخامس تصرّح أن المسيح هو إله كامل وإنسان كامل. راجع DROBNER, H.R., Les Pères de l’Eglise. Sept siècles de littérature chrétienne, Desclée, Paris 1999, 61.

[25]  راجع حلو، كليمنص، “أورشليم السماوية: الروح والعروس يقولان تعال (رؤ 22/17)” في شهوان، أيوب (ناشر)، الكتاب المقدس والليتورجيا. بحوث مهداة إلى الأب الحبيس يوحنا الخوند، دراسات بيبلية 39، جبيل 2008، ص. 317-336.

[26]  راجع CHARPENTIER, E., «Au fil de l’Apocalypse» in Cahiers Evangile 11 (1975) 33-34.

[27]  التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، رقم 1038-1041.

Scroll to Top