الأب ساسين زيدان م.ل.
الرئيس العام الأسبق لجمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة
مقدّمة
يصدمنا هذا العنوان، في قراءة أولى. لا شكّ الموضوع خطير، بالغ الأهميّة، شيّق وحياتيّ. لكنّه رحب، فسيح، مترامي الأطراف؛ مسالكه متشعّبة، شائكة، صعبة المنال. من المحال الإحاطة بأبعاده المتعدّدة، إنسانيًّا، واجتماعيًّا، وروحيًّا، ورسوليًّا، وتنظيميًّا.
نلجه من بابه الشرعي كتاب قوانيننا، الأولى بخط يد المؤسّس[1] والمجدّدة، المثبّة مؤقتاً بتاريخ 2/1/2004[2].
في العدد 4، تحدّد القوانين المجدّدة قوام روحانيّة الجمعيّة: «إلفة مع الربّ وعيش حميم وإيّاه، في إنجيله وقربانه وشركة صليبه، وفي أبعاد رسالته الخلاصيّة». وتتابع، في العدد 5، وتؤكِّد أنّ «هذه الروحانيّة تتغذّى وتفيض بالنِعمة من ينبوع التكريم للعذراء مريم، أم النِعمة الإلهيّة، والقديس يوحنا الحبيب، التلميذ الطاهر. تحت حمايتهما وُضعت الجمعية منذ نشأتها، وفي قدوتهما يجد المرسلون الطريق الأمينة والمُثلى إلى التعمّق في معرفة الربّ، والاتحاد به وخدمة ملكوته».
في العدد 89، نداء إلى عيش دعوتنا الرسوليّة تحت نظر أمّنا العذراء، وفي كنف حمايتها وتحت هديها وعلى مثالها، ومثال شفيعنا القدّيس يوحنا الحبيب، لننمو دوماً ويتصوّر المسيح فينا وتتمّ بنا خدمة ملكوته. وفي العدد 134، في صورة النذر، يصرّح علناً المرسل الكُريمي أنّه يتقدّم وينذر «متّكلاً» على عناية محاميَي هذه الجمعيّة الأمّ الحنون ومار يوحنا البتول».
نلاحظ استعمال عبارة «محاميَي الجمعيّة»، وليس عبارة «شفيعَي الجمعيّة»، علماً أنّ قوانيننا المجدّدة احتفظت بصورة النذر، حرفيًّا، كما خطتها يد المؤسّس، أمانةً لنواياه وروحانيّته. وجدير بالذكر أنّ المؤسّس في القوانين الأولى يستعمل دائماً عبارة «محاميَي الجمعيّة»[3]، وفقط في صفحة 196 يكتب: «بشفاعة هذَين المحاميَين». ولقد درجت القوانين المجدّدة على ذات النهج، واستعملت عبارة «محاميَي الجمعيّة». ولا يرد إلاّ مرّة واحدة عبارة «شفيعنا القديس يوحنا الحبيب» (عد 89)، ومرّة واحدة فقط عبارة «بشفاعة محاميَي الجمعيّة» (عد 174).
ممّا يجعلنا نتساءل هل كان في نيّة المؤسّس التلميح إلى دور الروح القدس كما ورد في إنجيل يوحنا، وإلى تسميته بالمحامي = البارقليط؟
ثمّ في هذه النصوص الثمينة، تستوقفنا عبارات بارزة، بليغة: محامٍ وحماية، اتّكال، عناية، شفاعة، قدوة، طريق أمينة مُثلى، تعمّق في المعرفة، إتّحاد، إلفة، عيش حميم، خدمة، شركة، رسالة، الأم الحنون، أمّنا، أمّ النِعمة وأمّ الحياة، اليد الوالدية التي تضع فينا وفي الجمعية ذخيرة البنين ليتصوَّر المسيح فينا، فننمو دوماً على مثالها وتحت هديها، وتحت نظرها…
ولدى درس هذه العبارات وتأمّلها ومقارنتها ترتسم الخطوط العريضة لموضوع بحثنا، وتبرز ملامح الدور التربوي في حياتنا للتكريم الواجب لهذَين المحاميَين، كما والعناصر الفاعلة في تكوين شخصيّة المرسل الكُريمي. هذه وتلك تتمحور، على ما أظنّ، ما حول 3 كلمات تكون الأساس وحجر الزاوية في كلّ عمل تربوي: حضور، حوار، صمود.
أولاً- حضور
قيل: «مرادف الإنسان، الحضور: كُن حاضراً لذاتك ولغيرك، وللعالم والله، فتصبح إنساناً حقًّا»[4]. الإنسان الحاضر دائماً، في كلّ لحظة، هو الغالب الذي حكى عنه سفر الرؤيا، فيلبسه الله الثوب الأبيض، ثوب الألوهة، ولا يمحو اسمه من كتاب الحياة» (رؤ 3/5). فالله هو الحاضر الدائم وهو الحياة، الحيّ والمحيي. والحياة هي اللحظة الحاضرة! وحدها في حوزتنا، ومتاح لنا الاستمتاع بأطايبها والإفادة من كنوزها.
وهكذا التربية! إنّها قضية حضور، ومسألة أجواء ومناخات. فالإنسان ابن البيئة، يتفاعل بداهةً مع مَن وما حوله، سلباً أو إيجاباً، لا شعوريًّا في اللاوعي، أو عمداً عن سابق قصد وتصميم. وعليه، فالتنشئة السليمة تقتضي العمل على خلق بيئة سليمة. يكون لنا ذلك في حياتنا المكرّسة الكريميّة بفضل واجب التكريم للعذراء مريم والقدّيس يوحنا الحبيب، محاميَي الجمعيّة. إنّه خير وسيلة مؤاتية لتنشئة صالحة: فهو «الينبوع» منه تغتذي روحانيّة الجمعيّة وتفيض بالنِعمة، وهو «الطريق» الأمينة والمُثلى إلى التعمّق في معرفة الربّ والاتّحاد به وخدمة ملكوته[5]. بعيشه هذا التكريم يدخل المرسل الكريمي في إلفة مع العذراء ويوحنا، وبواسطتهما مع يسوع والثالوث، فينتقل إلى أجواء سليمة تضمن له بنيان شخصيّته الرسوليّة، فيصير الإنسان الكامل ويبلغ القامة التي توافق سعة المسيح» (أف 4/13). «قل لي مَن تعاشر أقُل لك مَن أنتَ».
فالدور التربوي يرمي إلى التكوين وليس فقط إلى التثقيف. والمطلوب لا اكتساب معلومات بل تنمية قدرات ونحت شخصيّات. في سبيل ذلك، وضمانة للنجاح في عيش الحضور، حضور محاميَي الجمعيّة وحضورنا إليهما، يلزمنا حسن القيام بثلاث عمليات: الوعي الإيماني، والإقامة الدائمة، والتتلمذ التمثّلي.
1- الوعي الإيماني
من البديهي أن يقف المحامي إلى جانب موكِّله الذي وضع فيه ثقته وعليه اتّكاله، وإليه أوكل تدبير شؤونه! وهكذا نحن على يقين من أنَ محاميَي جمعيّتنا، المقامَين رسميًّا وقانوناً، من قِبَل الله والكنيسة والمؤسّس، سيرافقان مسيرة الجمعيّة وكلٍّ من أبنائها كما رافقا يسوع، ويلازماننا كما لازماه. ولن يكون هناك مناسبة، أو لحظة، إلاّ وننعم بحضورهما المميّز، الحقيقي، الفاعل، حضور محبّة وحماية، حضور مرافقة ومرافعة، حضور هداية وقدوة، حضور خلاّق، وفير الثمار. هذا إيماننا الراسخ ورجاؤنا الوطيد.
وكما كانت مريم هناك في عرس قانا الجليل (يو 2/1)، وهناك عند صليب يسوع (يو 19/25)، وهناك في العلّية تصلّي مع التلاميذ بانتظار حلول الروح (رسل 1/14)… ومع الكنيسة عبر الأجيال ترافق وتقود حجّتها نحو ملكوت عرس الحمل[6].[7] هكذا ستكون قرب الجمعية وكلّ من أبنائها على مدى مسيرتنا وجهاداتنا الرسوليّة.
وكما كان يوحنا يتبع يسوع ويرافقه من ضفاف الأردن ودروب الجليل واليهودية، إلى بيت يائيروس، وجبل طابور، وعلّية الأسرار، وبستان الزيتون، ودار قيافا وبيلاطس، والجلجة، والقبر الفارغ، وشاطئ البحيرة وحتى ضفاف نهر الحياة الصافي كالبلّور في أورشليم العليا (رؤ 22/1)، هكذا نحن على تمام الثقة أنّه سيرافق المرسلين، ليل نهار، على دروب عالمنا وفي كلّ مجالات عملنا الرسولي في خدمة إنجيل المحبّة.
حضور مريم ويوحنا بالقرب من يسوع، هو المصدر والكفيل لحضورهما بقربنا، ومعهما لحضور الربّ معنا. فهو أيضاً، حسب وعده، يسير معنا، ويعمل، ويؤيّد كلمته بما يصحبها من الآيات (مر 16/20).
إنّما العائق الوحيد يكمن فينا وفي تغرّبنا، بسبب قلّة إيماننا وعمى بصرنا وبصيرتنا. يعوزنا الوعي الإيماني الكفيل وحده بأن يوقظنا من رقادنا، ويعيدنا من غفلتنا، ويفتح عيوننا وقلوبنا على هذه الحقيقة المحيية المحرِّرة، وهذا الواقع الروحاني المبهج، وهذا ما تستحثّنا قوانيننا على عيشه والسهر على تنميته ليصبح أمراً بديهيًّا، حياتيًّا، طبيعة ثانية، كالنور في عيوننا والأوكسيجين في روايانا، والدم في عروقنا[8].
وعينا الإيماني لهذا الحضور هو نعمة حياتنا ونعيمها، الكنز الفريد والذخيرة الثمينة، ينبوع كلّ خير، والدرع الواقي من كلّ التجارب والأخطار، وبنوع أخصّ تجربة الملل والفشل، والعزلة والضياع. ورد في سفر الأمثال (8/35) عن الحكمة الإلهيّة. «حيثما دخلت حلّت بركات العلي». هكذا ولا شك حضور مريم ويوحنا في قلبنا وجماعاتنا وجمعيّتنا. «مهتدين بوصية المسيح الأخيرة من على صليبه، وعلى مثال شفيعنا القدّيس يوحنا الحبيب، نحيا دعوتنا الرسوليّة تحت نظر أمّنا العذراء وفي كنف حمايتها. نؤمن حقًّا أنّها لنا، في كنيسة المسيح، أمّ النِعمة وأمّ الحياة (…) يدها الوالدية تضع فينا وفي جمعيّتنا ذخيرة البنين، ليتصوَّر المسيح فينا (غلا 4/19؛ روم 8/29)… فننمو دوماً على مثالها وتحت هديها في محبّة الآب ونِعمة الابن وشركة الروح»[9]. وما زال كلام الربّ لإبراهيم ينادينا جميعاً: «سِر أمامي وكُن كاملاً» (تك 17/1).
2- الإقامة الدائمة
لن يكون الحضور الفاعل في التربية فقط حضور وقاية وحماية. ينبغي أن يكون أيضاً وبنوع أخصّ، حضور محبّة. وحدها، «المحبّة هي التي تبني» (1قور 8/1؛ أف 4/14-16). وحدها مصدر كلّ خصب وإبداع، الكفيلة بخلق المناخ الأفضل للتنشئة السليمة: مناخ سلام وهناء، وبهجة وانشراح: لا يتنفّس الإنسان ملء رئتيه، وقلبه وكيانه، إلاّ في أجواء الحبّ الصحيح الصافي. عندئذٍ فقط تتفجّر فيه القدرات الدفينة وتشتدّ سواعده وتصلب عزائمه، وينبت له «أجنحة» تحمله إلى أعلى قِمَم البطولات والقدّاسات. «لا شيء يُعجز الله» (لو 1/37)، لأنّ الله محبّة (1يو 4/8). وبذات المعنى ورد في المزمور: «في طريق وصاياك أركض لأنّك تشرح قلبي» (119/32). وهذا ما خبرته مريم حين قَبِلَت بشارة الملاك، وقامت فمضت، مُسرعةً، إلى زيارة إليصابات، فامتلأ البيت وساكنوه من الروح القدس، والابتهاج والسلام (لو 1/39-55).
والمحبّة تصبو بداهةً إلى اللقاء والمشاركة والمساكنة، والإقامة الدائمة، مع من نحبّ ولا بل فيه. وهذا ما ردّده مراراً الربّ يسوع على مسامع تلاميذه، وأوصى، وألحّ وحذّر: «إثبتوا فيّ وأنا فيكم» (راجع يو 15/1-10؛ يو 8/31) ووعد الذين يحبّونه أنّه هو يحبّهم، والآب يحبّهم، ويأتيان إليهم ويجعلان لهما عندهم مقاماً (يو 14/23)، ويرسل إليهم روحه القدّوس ليكون معهم، وعندهم، وفيهم (يو 14/16-17).
ونحن؟ إنّنا على يقين من أنّ قلب مريم مفتوح لنا على مثال قلب يسوع ابنها، ومدعوّون، لا بل مأمورون على مثال يوحنّا أن نأخذها إلى خاصتنا، فتقيم معنا في بيتنا الأمّ الحنون والشفيعة القديرة والمحامية الحكيمة الجريئة. ونحن على يقين أنّنا أيضاً على مثال يوحنا التلميذ الحبيب مدعوّون إلى الجلوس في حضن يسوع وإسناد رأسنا إلى صدره (يو 13/23-25)، والدخول في اتّحاد حميم وإيّاه مثل اتّحاده بالآب، فنكون معه حيث يكون: «كما أنّك فيّ يا أبتِ، وأنا فيك، فليكونوا أيضاً فينا» (يو 17/21). نؤمن حقًّا أنّنا في المقام المميّز من قلب يسوع وحبّه، ومن قلب مريم وحبّها، ومن قلب يوحنا وحبّه.
الشرط الوحيد أَلاّ نرفض هذا الحب، بل نقبل ونتجاوب. نقول «نعم»، «آمين!» تكريمنا للعذراء وليوحنا هو جوابنا المعيوش، والباب منه ندخل إلى «بيت أمّي فتتعلّم» كما تقول عروسة النشيد (8/2). ندخل فنخلص، ونجد المرعى (يو 10/9)، وبالتالي النموّ والتكامل، والحريّة والهناء. وجميعها ثمار الإلفة مع الربّ، ومع العذراء ويوحنا. لا شيء أفعل وأفضل لنحت شخصيّة المرسل فينا، وبلوغ نضوج «الإنسان الراشد، والقامة التي توافق كمال المسيح»، (أف 4/13)، من العيش في مناخات الثقة، والسلام، والتسليم، سمّاها أحدهم «مناخات النَعَم».
3- التتلمذ التمثّلي
والمحبّة تصبو إلى التشبّه والاقتداء. وقوانيننا تؤكّد أنّ المرسل الكُريمي يجد في قدوة محاميَي الجمعيّة الطريق الأمينة والمُثلى إلى التعمّق بمعرفة الربّ والاتّحاد به وخدمة ملكوته[10]. وكلّنا يعلم أهميّة القدوة في التربية: «الكلام يطير مع الريح، الأمثلة وحدها تبقى وتدوم». وتجذب إلى الاتباع والاقتداء وهي العنصر الأهمّ في خلق البيئة السليمة لتنشئة سليمة.
ومن المبتذل القول أنّ مريم ويوحنا هما المثال الأعلى والأكمل لمحبّة يسوع واتّباعه والتكرّس لخدمة ملكوته. «فمريم هي حاضرة في سرّ الكنيسة بوصفها النموذج»[11]. «إنّها صورة الكنيسة أعني في الإيمان والمحبّة والاتّحاد الكامل بالمسيح»[12]. وهي الطريق التي سلكها الله في مجيئه إلينا بالتجسّد، وتبقى الطريق نسلكها لنعود إليه: «فِيَّ كلّ نعمة الطريق والحق والرجاء والفضيلة» (سي 24/18)[13]. «أنظر إلى النجمة وادعُ مريم» كان يردّد مار برنردس. فهي «نجمة التبشير» في آفاق عالمنا المعاصر[14]. نحوها نحن المرسلين نرفع عيوننا، نناجيها «تتلألأ مثالاً للفضائل»، وبتقوى نتأمّلها لنتمثّل أكثر فأكثر بيسوع ابنها. وبحقّ ننظر مع الكنيسة إلى التي ولدت المسيح كي يولد وينمو فينا وبواسطتنا، فإنّها المثال للحبّ الأمومي الذي ينبغي أن ينتعش به كلّ الذين يقومون بخدمة رسوليّة في الكنيسة ويعملون على ولادة الناس من الروح[15].
وفي مدرسة يوحنا نتدرّب على اتّباع الربّ وتذوّق نعيم العيش في حميميّته، مع كلّ ما تفرضه من تربية الذات على التخلّي عن روح العالم والصمود في الأمانة، وحمل الشهادة الإنجيليّة الصادقة. فنقف معه وعلى مثاله إلى جانب مريم عند صليب يسوع وننظر فنشهد. ويبقى، في كلّ مراحل مسيرتنا الرسوليّة «مشهد الصليب والأم البتول والتلميذ الحبيب، أيقونتنا وشعارنا نحن المرسلين»[16].
ثانياً- حوار
«لتصير إنساناً، أتمنّى لك نعمة الحوار. إنّها مصدر تقدّم وكمال. الفقراء الحقيقيّون هم الذين ما تحاوروا أبداً. رفض الحوار فقر إنساني وانتحار روحي»[17].
والحوار هو في الأساس من مقوّمات إيماننا المسيحي وعلاقتنا مع الله ومع الناس. إنّه الأسلوب الذي اعتمده الله، عبر تاريخ الخلاص، وبلغ ذروته بيسوع الذي جمع في وحدة شخصه اللاهوت والناسوت، ورفعنا إلى شرف المشاركة في الحوار الأزلي ما بين الأقانيم الإلهيّة في قلب الثالوث الأقدس.
والكنيسة هي كنيسة الحوار: في نظرها، الحوار موقف مميّز، وفنّ إنساني، وأسلوب رسولي شيّق وفير الثمار. ولقد أوصت، في مجمعها المسكوني الأخير الفاتيكاني الثاني، بتربية المؤمين جميعاً، وبالأخصّ الكهنة والمرسلين، على إتقان أصول هذه الوسيلة الفضلى لتوطيد العلاقات بين الناس، ولفكفكة العِقَد وإيجاد الحلول الموآتية لشتّى المعضلات، كما وأيضاً لاكتساب المعارف، وتركيز القناعات، وصقل العقول والإرادات، وتربية الإنسان وترقّيه في كلّ الميادين[18].
في مدرسة «محاميَي الجمعيّة» يتدرّب المرسل الكريمي على فنّ الحوار وسيلة تربويّة ناجعة لنحت شخصيّته، بمثابة «المطرقة والإزميل»، والتأهّب لخوض ميادين الجهاد الرسولي: «خدمة الملكوت»، «أبعاد رسالة يسوع الخلاصيّة».
1- الانفتاح على الله، والناس، وسائر الكائنات، بكامل الحواس والكيان.
يستحيل الحوار مع إنسان مُغلق على نفسه، مكتفٍ بذاته وأفكاره وحقيقته. لا نحاور عندما لا نبحث. ويبحث مَن يخرج من داره، ومن ذاته، يطلب، يسأل، يتسوّل، يستعطي…
هذا يفترض احترام «الآخر»، وإن عدوّنا، والإقرار بقيمته وطاقاته، وأنّه حامل نور وحق، أهل للحوار، لديه شيء يقوله لي ويغنيني. فأتفهّمه بما هو عليه من إيجابيات وسلبيات، وأقبله مختلفاً عنّي، وأعترف به مكمّلاً لي، لا خصماً، ولا منافساً.
«بمقدار ما نحاول الدخول بحبّ وعطف في ذهنيّة الغير، يسهل علينا الحوار»[19].
هكذا نتصوّر مريم، منذ البشارة… وحتى العنصرة: منفتحة، على الله، والناس، والأحداث… تنظر وتنتظر، تصغي وتسمع، وتسأل وتتساءل، وتحفظ، وتتأمّل،… تلاحظ أدنى حركة، وتتحسّس كلّ حاجة وعوز… (راجع مثلاً، دورها في عرس قانا الجليل، يو 2/1-5).
ويوحنّا أيضاً… منذ ضفاف الأردن على قدمي المعمدان… وحتى صبحية صيد السمك العجائبي في البحيرة… وإن طلب إنزال النار من السماء على مَن يرفض استقبال يسوع… أو الجلوس على يمين الربّ في مجده… فكان ذلك أمثولات ثمينة أرجعته إلى ضعفه وحرّكته على الإصلاح… وهكذا تعلّم أن ينسى ذاته، ويتفهّم الآخرين ويرحِّب بهم ويعاونهم على أعمالهم في سبيل الحق ويبذل من نفسه لخدمتهم وإن كانوا غرباء (3يو 5-8). أتقدّم بقدر ما أحاسب ذاتي، وأعذر الآخرين! وهو الدرس الأوّل والأفضل نتعلّمه في مدرسة الحوار.
وتوصينا قوانيننا (عدد 11) بالانفتاح على عالمنا في ظروفه وصيَغه المتطوّرة، واستجابة نداءاته باتّخاذ المبادرات السخيّة في أوانها. وتحذّرنا ملفتةً النظر إلى أنّ في ذلك ضمانة أساسيّة لنجاح عملنا الرسولي.
2- التجنّد للخدمة
أمام الله والناس، (وسائر الكائنات)، لا يوجد إلاّ موقف واحد حقيقي خليق بالإنسان، هو الخدمة. الكلّ كلٌّ على أتمّ استعداد لاستعباد الآخرين واستخدامهم. ما أقلّ المتأهّبين للخدمة. في اليوم الذي لا تصنع فيه شيئاً لخدمة غيرك لا تكون قد عشت حقًّا كإنسان: «فما ذاك من عمري!».
العذراء أمة الربّ، دائماً في الخدمة، وكذلك يوحنّا (1يو 3/16-18: المحبّة بالعمل والحق).
ونحن؟…
3- التمرّس بشتّى الفضائل
كلّ حوار حقيقي يقود بنا حتماً إلى العطاء وبذل الذات في سبيل الآخر، إنّه تبادل آراء وحياة! بالحوار نضع نفسنا في خدمة مَن نحاور، وفي متناوله، نُعيره الانتباه اللازم، نصغي إليه، وإن تكلّم لغةً لا ترضينا، ونحاول مخاطبته بلغة يفهمها بوضوح، وصدق وبساطة. الحوار عرض لا فرض، تفاهم لا تشاجر، ولا تناحر، ولا رغبة في الغلبة والانتصار.
وذروة الحوار أن نجعل الآخر يكتشف هو نفسه الحقيقة، على مثال يسوع مع المرأة السامرية (يو 4/7-26). ولا ننسى أنّ ليس اللسان وحده الذي يحكي ويعبّر…
ثالثاً- صمود
«السعي المتواصل إلى الكمال يوازي الكمال» (مار برنردس) و«مَن يثبت إلى المنتهى يخلص» (لو 21/19). «كُن أميناً حتى الممات، وأنا أعطيك إكليل الحياة» (رؤ 2/10).
التربية مشروع الحياة، ومسيرة حياة. عمل لا ينتهي، ولا يجوز أن يتوقّف. فالإنسان في مسيرة دائمة، كلّ يوم يتعلّم ويترقّى، ويتنقّى، ويتنامى. طموحاته لا محدودة، وآفاق التطوّر مشرّعة أمام تطلّعاته. بهذا المعنى، الصمود في التربية يقوم في المواظبة على السعي إلى المعرفة، والمثابرة في التدرّب على التكامل في كلّ الحقول. وفي حياتنا المكرّسة قوام مشروعنا التربوي هو نحت شخصيّة المرسل على مثال صورة المرسل الأوّل يسوع المسيح: «تركت لكم قدوة» (يو 13/15)، «كما أرسلني أبي أرسلكم» (يو 20/21). وبالتالي صمودنا يأخذ بُعداً آخر بالغ الأهميّة. لن يعود فقط مسألة تنشئة مستمرّة بل أمانة لشخص عاهدناه الحبّ، وكرّسنا لخدمته ومجده الحياة والكيان، ما نحن وما لدينا من قدرات ووزنات.
ولنا في هذين المجالين، من «محاميَي الجمعيّة» خير دليل ونموذج! وكلاهما تبعا الربّ حتى النهاية، دون توقّف، ولا تقهقر، ولا انحراف، بكلّ أمانة وسخاء. ولا يزالان، في مجد الملكوت، علامة عزاء ورجاء، لنا جميعاً، في حجّتنا وجهادنا، إلى أن يأتي يوم الربّ[20]. وكان سبق، وأكّد المجمع الفاتيكاني الثاني: «أمومة مريم تستمرّ في تدبير النعمة، دونما انقطاع، حتى يبلغ المختارون الكمال الأبدي (…) حبّها الأمومي يجعلها تصغي إلى أخوة ابنها الذين لم يكملوا غربتهم، ويزالون عرضة للمخاطر والضيقات حتى يصلوا إلى الوطن السعيد»[21].
ويصدق هذا القول، ولا شك، مع تبديل ما يجب تبديله، بالتلميذ الحبيب، – الذي لا يموت – وكرّسته القوانين «محامياً» لنا وشفيعاً. ولقد نذرنا جميعنا «متوكّلين على عنايته وعناية الأم الحنون». عمليًّا، يلزمنا مضاعفة الجهود لأداء التكريم الواجب، نستقي منه، كما من الينبوع، القدرة على مواصلة المسيرة والصمود في الأمانة «لِما نذرنا وعاهدنا» (من صورة النذر، ق 134).
1- أمانة لشخص
بنذرنا تكرّسنا لشخص حيّ، حاضر، يسوع المسيح، وليس لسواه: لا لعمل، ولا لوظيفة، ولا لمكان أو زمان… «جعلنا من أنفسنا ذبيحة حيّة، مقدّسة، مرضية عند الله» (روم 12/1). وهكذا ذبيحة لا يجوز تقدمتها إلاّ لله، وإلاّ لكانت عبادة أوثان! وحده المسيح يسوع، ولأنّه الابن الوحيد المساوي للآب في الجوهر، يليق به «تضحية الإنسان ذاته لوجهه تعالى»[22].
وهكذا مريم وقفت العمر والكيان للربّ وتحقيق مشروع حبّه. «أنا أمة الربّ، فليكُن لي بحسب قولك» (لو 1/38). هذه كانت صورة نذرها. وتابعت المسيرة بسخاء وأمانة إلى أن وقفت هناك عند صليب يسوع، وإلى جانبها التلميذ الحبيب إليه (يو 19/25-27). وما زال ولما يزل دور مريم الخلاصي، والتربوي، يرتبط بابنها وإلهها. مريم الحاضرة فعلاً في الصميم من تاريخ الخلاص توجّه المؤمنين دائماً إلى ابنها وذبيحته، وإلى محبّة الآب[23].
وهكذا يوحنا ولا شك يقودنا إلى مريم وإلى يسوع! وفي كلّ لحظة يهمس في آذاننا وقلوبنا كما قال لبطرس في تلك الصبحية البهيّة الخالدة: «إنّه الربّ» (يو 21/7).
2- أمانة خبرة حياتيّة
خبرة مريم يوم البشارة حملتها إلى زيارة إليصابات. قَبِلَت زيارة السماء فتحوّلت إلى زائرة. ومنذئذٍ ما زالت على دروب التاريخ تجدّ السير، تقرع أبواب البيوت والقلوب حاملةً الخلاص، الروح القدس، والفرح والسلام (لو 1/39-55).
ويوحنّا، اقام عند يسوع ذلك اليوم فتحوّل إلى التلميذ الحبيب والشاهد الأمين، يقول الحق لتؤمنوا (يو 1/39؛ 19/35): «حياتك تافهة طالما لم تعشق شخصاً لأجل ذاته لا لأجل ما يملك!».
وهكذا نحن نتمسّك بيسوع، ونتعمّق بمعرفته، ونصمد في خدمة إنجيله، بقدر ما يُنعم الله علينا بخبرة روحيّة شخصيّة تقلب حياتنا رأساً على عقب: نولد ولادة جديدة من عَلُ، أو بالأحرى يولد فينا آخر هو يسوع: فيصبح «حياة حياتنا!» «لن أدعكم يتامى، فإنّي أرجع إليكم (…) فترونني حيًّا وتحيون» (يو 14/18-20).
هذه الخبرة نعمة سماويّة، نعيمنا منذ هذه الحياة! نرغب بها، نتوق إليها، نلتمسها ونتأهّب لقبولها بالصلاة والتأمّل، والعبادة القربانيّة، وعيش المتاعب بمحبّة مع آلام يسوع، وتوحيد النوايا والمساعي والجهود في الأمر الواحد الوحيد: رضى الربّ وتمجيد اسم الآب! قصدنا الوحيد في الصميم، وعملنا الدائم دونما هوادة: «نعم، ها أنذا!».
3- أمانة يوميّة، مثابرة على إتقان واجب الساعة الحاضرة
كما أوصت به قوانيننا: «إنّ الثبات في الجمعيّة واجب ونعمة: واجب مقدّس يُلزمنا باستخدام كلّ الوسائل الضروريّة والمفيدة، ولا سيّما المواظبة على الصلاة بتواضع وثقة. ويأثم مَن يعرِّض دعوته للخطر بإهماله الأمانة اليوميّة لواجبات حالته المكرّسة. وهو أيضاً نعمة لا يبخل الله بها على من يعيش بالفرح والسخاء واجب الساعة الحاضرة، مجتهداً بتمام إيمانه وكمال محبّته لله وللقريب، في نشر بشارة المسيح» (عدد 297).
بهذا المعنى، تكريم المرسل الكريمي لمحاميَي الجمعيّة هو الينبوع، والطريق الأمينة والمثلى!
«لست بعد ما يجب أن تكونه: أنت أكثر من شيء محدود، أو شخص مبرمج Robot، أنت قصد، أنت وعد، أنت غد، أنت حياة، ينبوع دائم التدفّق»[24].
خلاصة:
وخير كلام يلخّص ما للعذراء مريم وليوحنّا الحبيب من دور تربوي في حياة المرسل الكريمي، ما جاء في كتاب قوانيننا، العدد 89:
«مهتدين بوصيّة المسيح الأخيرة من على صليبه، وعلى مثال شفيعنا القدّيس يوحنّا الحبيب، نحيا دعوتنا الرسوليّة تحت نظر أمّنا العذراء، وفي كنف حمايتها. نؤمن حقًّا أنّها لنا، في كنيسة المسيح، أمّ النِعمة وأمّ الحياة: بفعل الروح الإلهي، ولدت الحياة للعالم في سرّ التجسّد، وولدت العالم للحياة في سرّ العنصرة. بعبادتها نلوذ، وإليها نكل العمر كلّه والعمل بأسره. يدها الوالدية تضع فينا وفي جمعيّتنا ذخيرة البنين، ليتصوَّر المسيح فينا (غل 4/19؛ روم 8/29)، وتتمّ بنا خدمة ملكوته. فننمو دوماً على مثالها وتحت هديها في محبّة الآب ونعمة الابن وشركة الروح (راجع 2قور 13/13)».
[1] كتاب قوانين جمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة. وضعها المؤسّس بخط يده، وأثبتها البطريرك بولس مسعد بتاريخ 31/5/1873. طبعت سنة 1929، في مطبعة المرسلين اللبنانيّين، جونيه. نُشير إليها فيما بعد بعبارة «قوانين المؤسّس»، مع ذكر الصفحة.
[2] قوانين جمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة، المجدّدة، مطابع الكريم الحديثة، جونيه، 2004. نُشير إليه فيما بعد بعبارة «القوانين المجدّدة» مع ذكر العدد.
[3] راجع مثلاً في طبعة 1929، قوانين المؤسّس، ص 22، 23، 24، 160، 196.
[4] كتاب «شبيبة متمرّدة»، منشورات دار المشرق – بيروت 1984، مؤلّفه، غالندورف دونير، نقله إلى العربية جورج نعمان.
[5] القوانين المجدّدة، عدد 5.
[6] المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي «نور الأمم»، عدد 68. نُشير إليه فيما بعد بالعبارة «نور الأمم» مع ذكر العدد.
[7] البابا القديس يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة «أم ّالفادي»، تاريخ 25/3/ 1987. موضوعها الطوباوية مريم العذراء في حياة الكنيسة عبر مسيرتها على الأرض. نُشير إليها فيما بعد بعبارة «أم ّالفادي» مع ذكر العدد.
[8] القوانين المجدّدة، عدد 89.
[9] القوانين المجدَّدة، عدد 89.
[10] القوانين المجدَّدة، عدد 5.
[11] أم ّالفادي، عدد 44.
[12] نور الأمم، عدد 63، مستشهداً بكلام القديس أمبروسيوس.
[13] حسب النص اللاتيني – فولغات. راجع الحاشية الحرف الفرنسي – 7 – في الترجمة المسكونية، الفرنسيّة، TOB، والحاشية الحرف الفرنسي «9» (جا) في الترجمة الفرنسية، الطبعة الأورشليمة، Bible de Jérusalem.
[14] راجع الطوباوي، البابا بولس السادس، الإرشاد الرسولي، التبشير بالإنجيل، تاريخ 8/12/1975، عدد 82.
[15] نور الأمم، عدد 65.
[16] من كلام الأب لويس الحايك، المرسل اللبناني (1897-1944)، المنارة، العددان الثاني والثالث، 1994، ص 139.
[17] شبيبة متمرّدة، عدد 676.
[18] راجع، المجمع الفاتيكاني الثاني، الوثائق المجمعيّة، عبده خليفه، فرنسيس البيسري، يوسف بشاره، طبعة 1984، بيروت، فهرس هجائي، كلمة حوار، ص 981، وأيضاً قرار مجمعي في التنشئة الكهنوتيّة، عدد 19؛ وبيان في التربية المسيحيّة، عدد 1 و8؛ وقرار مجمعي في رسالة العلمانيّين، عدد 29. وراجع أيضاً الطوباوي البابا بولس السادس، رسالته العامة، «كنيسته»، تاريخ 6/8/1964، حيث يرسم «شرعة الحوار»، أهميّته، ضرورته، مناهجه، فوائده… الأعداد 60-123.
[19] دستور رعائي، «فرح ورجاء»، عدد 28.
[20] نور الأمم، عدد 68.
[21] نور الأمم، عدد 62.
[22] قوانين المؤسّس، ص 58.
[23] نور الأمم، عدد 62، 65.
[24] شبيبة متمرّدة، عدد 60.