Almanara Magazine

التقسيم: خدمة، أنجلة جديدة ومرافقة روحيّة

الخوري بول مطر

بين الحقيقة والخيال ينقص التمييز! وفي الحياة المسيحية يحتلُّ التمييز مكانًا جوهريًا إذ يتدخّل ليفصل في الماورائيّات وغيرها من الأمور الّتي تتخطّى العقل البشري. ومسألة الشّر والشّرير وصلاة التّقسيم، واحدة من هذه الأمور وحاجتنا اليوم أكثر من أيّ يوم مضى، لمعالجتها ليس فقط في بعدها اللاهوتي والنّظري والعقائدي إنّما في البُعد العملي والرَعوي أيضًا.

لسنا هنا بصدد إعداد دراسة تاريخيّة عن التمييز الرّوحي أو تمييز الأرواح، لئلا نقع في تكرار ما أصبح مبتذلاً في هذا المجال، ولا نقصد معالجته لتبيان حقيقتِهِ، إذ من جهة العقيدة فالأمرُ واضح كونها مبنيّة على كلمة الله، وآباء الكنيسة، الّذين بدورهم لم يبخلوا علينا بتزويدنا اختبارهم الرّوحي الشخصي لكيفيّة الجهاد الرّوحي والإنتصار بقوّة المسيح ونعمته، والتقليد.

وفي ما يخصّ أهميّة البعد العلمي، الأمر واضح أيضًا ولا يحتمل الجدل. إذ إنّ أهميّة دور العلوم الإنسانيّة في موضوع التمييز لا يستطيع أحدٌ تجاهله، فهي تساعد على إنضاج إيماننا بشكل متوازن وسليم بعيد عن السطحيّة والشعوذات. وكثيرةٌ هي الحالات التي ربطها الرّوحانيّون بأرواحِ خبيثة فكشف العلم حقيقتها المرضيّة. لذلك يمكننا القول إن موضوع التّقسيم لا يزال من مواضيع الساعة ومن الواجب أن يبقى منفتحًا على كلّ العلوم الانسانيّة والدراسات الجديدة ممّا يأتي بالخير على الإنسان بكُليّته. وتدعو الحاجة بالتالي الى مقاربَتِه بطريقةٍ إنتقاديّة إذ إن المَعارف العلميّة  قد أعادت النظر بكلّ المرجعيات التّي تُشير إلى قوى شيطانيّة. وفي الواقع تعتبر بعض الثقافات كلّ مرضٍ على أنّه نابعٌ من “روح خبيث” كما أشرنا آنفًا، علمًا أنّ الكهنة المقسّمين المتعارَف عليهم في الكنيسة، يدركون أنّه لا يجوز التعاطي بالحَرْفِيّة مع خبرة قاصديهم وما يُعانونه. ويُميّزون بين ما يتأتّى من تأثير إرواحي أو من معاناة نفسيّة وذلك باللجؤ إلى أخصائيين نفسييّن مؤمنين.

لذلك، فالّذي ينقص في هذا الموضوع هو حاجته إلى أن يُعالج من وجهة نظر رعوية. وما يشجّعنا على كتابة هذا المقال، ليس فقط دراستنا الماستير في اللاهوت الروحيّ حول موضوع “التّقسيم في الكنيسة المارونيّة، خدمة ومرافقة روحيّة”[1]، بل أيضًا التعميم الرعوي حول مسألة الشّر والشّرير في حياة الكنيسة وتعاليمها الصادر عن غبطة أبينا البطريرك في 16 تمّوز 2015، وفيه نسمع صرخة الكنيسة تُعلن همَّها في الوقوف الى جانب المؤمنين الّذين يعانون من إضطرابات يصعب أحيانًا تشخيص أسبابها! خصوصًا أن أوّل إهتمامات الكنيسة هو الإنسان الّذي تَجسّد المسيح من أجل خلاصه كما نعلن في قانون الإيمان “والّذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسّد من الرّوح القدس ومن مريم العذراء وصار إنسانًا… وتألم ومات وقبر وقام…”، وبذلك انتصر على الموت والشّيطان كما تعلّمنا أيضا ليتورجيّتنا المارونيّة وأناشيد “البيت غازو”.

إنّ هذا المقال بحثٌ ممزوج بالإختبار، أي مبنيٌ على ما تُعلّمه أمّنا الكنيسة، واختبار لما تمارسه في خدمتها لسرّ المسيح. معالجين أبعادًا ثلاثة، نتحدّث أوّلًا عن أهميّة الإصغاء والمرافقة، للأشخاص الّذين يعانون من إضطرابات غير اعتياديّة تفوق قدرتهم على الإدراك، ثانيًا عن أهمّية البعد الرعوي وأهميّة انخراطهم في رعيّتهم وثالثًا نعرض آليّةً لكيفيّة التّمييز، يسبق ذلك تَوطِئةٌ تعريفًا ببعض المصطلحات الواردة.

توطئة في التقسيم:

يُعرّف[2] J. Forget طرد الأرواح الشريرة، أي التقسيم، في قاموس اللاهوت الكاثوليكي على أنّه توجّه مباشر إلى الشيطان لإجباره على إخلاء مكانٍ ما أو التخلي عن حالة معينة وإعادة الحريّة لشخصٍ يسيطر عليه الى حدٍّ ما. ويُقدم لنا قاموس الوقائع الدينيّة تعريفًا آخر لا يتعارض مع الأوّل إنمّا يكمله مستخدمًا مفردات أنتروبولوجية معتبرًا أنّ مصطلح، التقسيم، يَشمُل سلسلة من الأعمال الطقسيّة ترتبط بمسبّبٍ مرضي ذي طبيعة غير مألوفة – روح، موت، شيطان – من الواجب طرده من مكانٍ أو شيء أو جسم بشري، إلخ. ونقرأ في الإنجيل وأعمال الرسل عن ظواهر مماثلة، عرفتها أيضًا الكنائس الأولى. وكتب  J. Forget  أن السّلطان الذّي أعطاه ربنا إلى الرسل والتلاميذ عملوا به منذ نشأة الكنيسة. وفي القاموس النقديّ اللّاهوتي نجد أنّه من أجل المحافظة على انتصار المسيح على الشّر والشياطين، مارست الكنيسة منذ البدء التقسيم خلال ليتورجية المعموديّة أو بحسب التقسيم الكبير في حالات المسّ الشيطاني. ففي الواقع، تعليم الكنيسة واضحٌ لجهة وجود الشيطان وطرده على أنّه من مهام كاهن مقسّم يُعيّنه الأسقف ضمن أبرشيّة محدّدة الجغرافيا[3]. فالمقسّم الأوّل في الأبرشيّة هو الأسقف أو من يأتمنه لهذه الخدمة. الحاجة اليوم الى أن يكون بجانب الأسقف والمقسّم، لجنة متخصّصة أو أقلّه معالجٌ نفسي مؤمن كمستشار، يُسهّل عمليّة التمييز وكل ذلك لخير المؤمنين الذين يعانون هذه الأنواع من الاضطرابات ويرون في الكنيسة خشبة خلاصهم الوحيدة. يقول المونسنيور دومينيك ري في هذا الخصوص: “يجتاح شدّ الحبال القائم بين علم الشياطين الكلاسيكي démonologie classique)) والعقلانيّة المعاصرة (rationalisme contemporain) صفوف الكاثوليك ولذلك يلجأ المؤمنون الذّين يعيشون صراعًا روحيًّا الى الدجّالين وسائر مقدّمي خدمات “فكّ السحر” والعرافة، لأنهم لم يجدوا آذانًا صاغية في الكنيسة”. إن أكثر ما يؤلم هؤلاء الأشخاص أنّهم لا يجدون من يُصغي اليهم، ويتفهمهم. من هنا أبدأ بمعالجة النقطة الأولى في أهمّية الإصغاء والمرافقة.

  1. 1.    الإصغاء والمرافقة

إنّ موضوع التقسيم شامل ولا يمكن حصره بالبعد الرّوحي فحسب، بل يجب أن يكون تحت مجهر جميع العلوم الإنسانيّة والأبحاث المتطوّرة، وكلّ ذلك يعود بالخير والفائدة على الإنسان، كما ذكرنا آنفًا. فالمسيح هو أوّل من ميّز وبوضوح وسيلةَ علاجٍ فعالة تستند الى العلاقة الشخصيّة وإعلان الكلمة والوقوف عند صرخات ونداءات المتألّمين والضارعين إليه؛ كما أنّه ميّز جيّدًا بين ما هو مرضيّ وما هو مسٌّ شيطاني. المقسّمون الذين تعيّنهم الكنيسة رسميًا يتمتّعون بقدرة تمييز عالية، ويعرفون أنّه لا يجب إعتبار كل قاصدٍ لهم ممسوسًا! قال لي مرّة الأب Carmine De Filipis الراهب الكبوشي والمقسّم في أبرشيّة روما منذ 35 سنة، إنّ من يأتي إلى المقسّم ويعتقد بأنّه ممسوس فهو في تمييز أوّل ليس كذلك. وحين سألته عن  السبب أجابني: “يا بنيّ، الشّيطان يخفي ذاته وليس من مصلحته أن يفضح أمره. ولو استطاع أن يتحمّل صلاة التّقسيم لما بقي مختبئًا”. هذا ما يجعلنا نعي أهميّةَ التنسيق بين التمييز الرّوحي الّذي لا بدّ منه والتمييز النفسي. لذلك فالمرافقة والإصغاء والتمييز أمورٌ لا بد منها. وأحيانًا عند صعوبة التمييز تكون صلاة التقسيم بحدّ ذاتها وسيلة التمييز الأخيرة. ولا ننسى أن هناك بعض الحالات تَحمل البعدين الرّوحي والنفسي، مما يستدعي إحالتها على المقسّم والطبيب النفسي في الوقت عينه، ولقد شهدتُ على حالة مماثلة عند الأب Carmine، حيثُ كان مُوكلاً  أمرها دائما إلى طبيبة نفسيّة ترافقها.

بعد هذه التوضيحات ننتقل للتكلّم على البعد الرعويّ وأهمّيته، مسلّطين الضوء على وثيقة التعميم الرعويّ حول مسألة الشرّ والشرير وحرص الكنيسة بأن تكون قريبة ممّن يعانون هذا النوع من الإضطرابات “مقدّمة لهم العون الإنساني والروحي اللازمين…” لأنّ مرافقة هؤلاء الأشخاص عمل رعوي بامتياز وبداية للتنشئة على الإيمان بعيدًا عن الشعوذات وتندرج تحتَ مُسمّى الحكمة والمحبّة الرّاعويّة؛ فهي، كما يدعوها الأب Carmine، “أنجلة جديدة!”.

2. البعد الرّاعوي

إنّ الأشخاص الّذين يطلبون المساعدة هم أشخاص ينتمون إلى رعيّة وبالتالي إلى أبرشيّة. أفلا يحقّ لهم أن يجدوا من يسمعهم؟ أليس على كاهن الرّعيّة مسؤوليّة الإهتمام بالأنفس مباشرة؟ أو على الأقل معرفة خرافه عن كثب؟ “أنا أعرف خرافي وخرافي تعرفني” يقول السيد المسيح[4]. إنّهم أشخاصٌ يتألّمون إضافةً الى ما يعانون من اضطرابات لعدم وجود من يصغي إليهم ويفهمهم. وحين لا يجدون آذانًا صاغية من قبل كهنة أو متخصّصين في مجال الإصغاء والمرافقة، كما نوّه التعميم البطريركي متحدّثًا عن أهميّة إنشاء لجنة لهذا الأمر، يُصبح من البديهي أن يبحثوا خارجًا ويذهبوا إلى من يقسّم عليهم هنا وهناك، هذا إن لم يلجأوا إلى العرّافين والدّجالين الأمر الذي “يزيد الطّين بلّةً”.

فالمجمع البطريركي المارونيّ في نصّه السّابع، يلقي الضوء على مسؤوليّة خادم الرّعيّة لخلاص النّفوس، ما يُلزمه التعرّف على خرافه والاعتناء بهم بمحبّة أبويّة. ويحملنا على التفكير بجديّة التنشئة في هذا الموضوع وعدم تهميشه والتعامل معه بموضوعيّة سواء في الإكليريكيّات أم في كلّيات اللاّهوت. فما الّذي يمنع أن يكون ثَمَّةَ مادة اختياريّة في كلّيات اللّاهوت تتناول هذا الموضوع كما هو جارٍ في جامعة الغريغوريانا في روما؟[5] أليس هدف التنشئة اللّاهوتيّة تحصين الطّالب علميًّا وفكريًّا، فلسفيًّا ولاهوتيًّا ضدّ البدع والهرطقات كما يذكر ذلك أيضًا المجمع البطريركي الماروني الذي لحَظَ عدم رضى بعض الآباء عن التنشئة المكتسبة إن في الإكليريكيّات أو كلّيات اللّاهوت؟ يجب تعميق المواضيع الّتي تتعلّق بحاجات النّاس المستجدّة وفي مقدّمتها موضوع التقسيم فيُعالَج بطريقة واضحة في الأماكن الخاصّة وليس في وسائل الإعلام ولا عظات الكهنة بطريقة دائمة وعشوائيّة. فالإعلام والوعظ هما للتبشير بالمسيح وبتدبيره الإلهي، وفي ذلك جوابٌ على ما تطرّق إليه مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان في دورة 17-18 أيلول 2010. كما أننا نجد في الإرشاد الرّسولي للبابا القدّيس يوحنا بولس الثّاني “أعطيكم رعاة” Pastores dabo vobis، الرّابطَ الوثيق بين تنشئة الكهنة، الأنجلة الجديدة والبعد الرعوي. يقول البابا إنه من خلال التنشئة تُكمل الكنيسة عملَ المسيح مستشهدًا بالإنجيلي مرقس في مشهد اختيار يسوع للرّسل حين “صعد إلى الجبل ودعا الّذين أرادهم فحضروا إليه. فأقام منهم إثني عشرَ سمّاهم رسلاً يرافقونه فيرسلهم مبشّرين، لهم سلطانٌ به يطردون الشياطين…” (مر 3: 13-15). نستنتج من ذلك، الرابطَ بين اختيار الرّسل وإعطائهم السلطان لطرد الشياطين، كعلامةٍ للتبشير بالمسيح وسلطانه الفاعل في الكنيسة من خلال جماعة الرّسل بالذات. من هنا أهميّة البُعد الرعوي لدور المقسّم في الاصغاء والمرافقة الروحيّة والأنجلة الجديدة، بهدف بلسمة الجراح وعزاء النفوس فتتقوى في جهادها الروحي لكي تسلك في المسيح نحو الآب بقوّة الرّوح القدس وعون الكنيسة. فالمقسّم هو رجل كنسي بامتياز. وذلك يدفعنا للتحدّث عن بعدين مهمّين في خدمة الكاهن المقسّم ورسالته:

1.2 مكان إصغاء وأنجلة جديدة!

قبل صلاة التقسيم يُصغي المقسّم بدوره إلى قاصديه[6]، هو ليس ساحرًا ولا تاجرًا[7]، إنّما رجل إصغاء وإيمان ورجاء. وهذا أوّل ما يجب أن يزرعه في قلبهم وفكرهم[8]. علمًا أن الّذين يقصدون المقسّم يرغبون أن يبدأ مباشرة بالتقسيم عليهم. ولكنه يستمع ويصغي إليهم ليس إرضاءً لرغبتهم[9]، وعليهم أن يعوا أن خدمته لا تنحصر في التقسيم،  فهو كاهنٌ أوّلاً وفي خدمة الإصغاء والأنجلة الجديدة[10]. لذلك على من يقوم بهذه الخدمة أن يكون شخصًا موهوبًا ومؤهلاً للإصغاء والمرافقة الرّوحيّة، عليه أن يكون لاهوتيًا بامتياز، مطّلِعًا على العلوم الإنسانيّة وبخاصة علم النفس، من دون أن يضطلع بدور المعالج النفسي. لذلك على من يأتمنه الأسقف لهذه الخدمة أن يتحلّى بالنضج: الإنسانيّ، النفسيّ، الروحي، العاطفي والإجتماعي، إلخ. ونستطيع القول إنّ على الكاهن المقسّم أن يتّصف بمزايا حُسن الإستقبال، الإصغاء، الرأفة، المرافقة الروحيّة، وإتقان صلاة التحرير. بإختصار هو مدرسة في الإيمان والصلاة، بهِ  وبأمثالهِ تقوم أهميّة دور المُقسّمين حتّى  يومنا هذا[11].

2.2 وسيلة تقودنا الى معرفة المسيح!

معروفٌ أن هدف الحياة الرّوحيّة هو الاتحاد بالله في المسيح وبواسطة الروح القدس. وكلنا نؤمن أنّ المسيح هو الطريق والحق والحياة (يو 14، 6) وأن لا أحدَ يستطيع أن يأتيَ إلى الآب إلّا به. فالوسيط بين الله والإنسان هو يسوع المسيح الّذي بذل نفسه من أجلنا (1 تيم 2، 5). ومركز حياتنا هو المسيح وليس الشيطان. لذلك على المقسّم أن ينتبه جيّدًا لهذا الأمر لئلّا يقع في فخ التحدّث عن الشيطان أكثرَ منه عن المسيح[12]. وعليه أن يعيَ أنّه أداة في خدمة الكنيسة يحرّكها الروح القدس، ومكمّل لعمل المسيح الذي وحده يبقى المثلَ والنموذج. كلُّ ذلك يجعلنا نُدرك أهميّة خدمة المقسّم من حيث أنّها عملُ المسيح في الكنيسة، ما يجعل منها عملاً كنسيًّا بامتياز. فمن خلال التعاقب الرسوليّ إلى يومنا هذا عبر الكنيسة لا يزال سلطان المسيح المعطى لرسله مستمرًّا وفاعلًا. هذا ما يجعل من إذن الأسقف أمرًا ضروريًا. فالمقسّم هو خادم للمسيح ولكنيسته، وسلطانُه ليس منه بل من المسيح بواسطة الكنيسة. وتفويض الأسقف حمايةٌ له ودرعٌ لأنّه يصلّي على قاصديه ليس باسمه ولا بقوّته ، بل بقوّة الكنيسة والسلطان المعطى له منها. و زينةُ دعوتِه أن يتحلّى بروح التواضع والشجاعة بالإضافة إلى الصفات الأخرى المهمّة والضروريّة، فعليه ألّا يكون مُحبًا للإعلام وإذا إضطرّ له فليتجنّب التطرّق  إلى الموضوع في عظاته و في محاضراته بإستثناء ما يدرّ على النفوس بالخير ويقوّي الإيمان والرّجاء مُحذّرًا من المزالق، مُركّزًا حديثه على ما تعلّمه أمُنا الكنيسة، وليمتنع عن توثيق الحالات التي يُعالجها بالصورة، مدركًا أنّ كل ما يتمّ من تحرير ونِعَم خدمتِه  إنّما يعود لمجد المسيح  بفضل قوّة انتصاره على الصليب وقيامته وحضوره الحقيقيّ والفعليّ من خلال جسده السّري. ذلك كلّه يجعل من هذه الخدمة مكانًا تظهر فيه قوّة قيامة المسيح الحيّ في الكنيسة. إضافةً الى تحلّيه بحسّ التمييز، بروح المحبّة الرعويّة، كأمر ضروريّ نحتاج إليه اليوم أكثر من أيّ يوم مضى. وهكذا ننتقل لمعالجة النقطة الثالثة والأخيرة من موضوعنا.

3. أهمّية التّمييز والحس الرّاعوي

إنّ التمييز والحكمة أي الحس الرّعوي أمران لا يمكننا إهمالهما في موضوع التقسيم. ويقيننا أنّ المقسّم هو كاهن مثلُه مثلُ أخوته الكهنة وليس إنسانًا خارقًا أو أكثر قداسة، مع ضرورة اتصافه بالتقوى وأن يكونَ  صاحبَ روحانيّة وإتّزان نفسيّ وإنسانيّ، وهي الصفات الواجبة  لكل كاهن، مع الأخذ في الإعتبار أن المُقسّم كاهن انتدبه الأسقف ليقوم بهذه الخدمة في الأبرشيّة، ما يمنحه ثقةَ إخوته الكهنة إذ ما يؤدّيه  امتدادٌ  لعمل الأسقف وفي حاجةٍ دائمة إلى صلاة هؤلاء. هذا البعد يعطي خدمته طابعًا رعويًّا بامتياز. أنّه كلّما يرسل اليه أحد إخوته الكهنة مؤمنًا أو مؤمنة ًيعيشان إضطرابات تستوجب التمييز، عليه هو بدوره أن يعيدهما إلى رعيّتهما ليمارسا فيها حياتهما الإيمانيّة والأسراريّة. وهكذا يُنتِجُ التنسيق بين كاهن الرّعيّة والمقسّم خيرًاعلى الجماعة المؤمنة. المقسّم لا يأخذُ  دور كاهن الرّعيّة. أو يسعى لخلق  شعبيّة لشخصِهِ واجتذاب المؤمنين، بل يعيدهم إلى رعيّتهم التي أتوا منها ويشجّعهم على الإلتزام الإيمانيّ بها. وبغير هذا التنسيق، يقع المؤمنون، الذين تقع مسؤوليّة تنشئتهم على عاتقنا، في التشرذم وإضاعة الإنتماء. هذا الواقع يجعل من دور الكاهن المقسّم ضرورة في كلّ أبرشيّة، لأنّ عمله الرعوي يدخل في بُعد البشارة والأنجلة الجديدة. ولا بدّ من عرض بعض معايير هذا التّمييز تأديَةً ناجحة لهذه الخدمة.

1.3 معايير التمييز

للتمييز معايير مهمّة وأساسيّة نستطيع اختصارها في أربعة أبعاد: الفضائل الإلهيّة الثلاث: الإيمان والرّجاء والمحبّة؛ عطايا الرّوح القدس وبخاصة السّلام والفرح؛ الاضطرابات النفسيّة والجسديّة؛ الخبرة وصلاة التقسيم.

  1. 1.1.3      الفضائل الإلهيّة : الإيمان والرّجاء والمحبّة

أولى نقاط التمييز ترتكز على الفضائل الإلهيّة الثلاث. فالله زرع فينا الإيمان والرّجاء والمحبّة لكي نبادله حبّه الّذي ظهر لنا بابنه يسوع المسيح. وسعيُ المجرّب وهدفُهُ تجريدُنا من هذا السلاح[13]. وليس للعوارض غير الإعتياديّة أن  تكون نقطة الإنطلاق إذ يجدر في البداية أن تكون حديثًا يبدأُه من يأتي الى المقسّم فيستمع هذا اليه بحب وفرح ورجاء، آخذًا الأمور في مجراها الصحيح فيسأله عن حياته الإيمانيّة كي يضعهُ أمام مجهر الفضائل الإلهيّة كمعيار أوّل لهذا التمييز. حتّى إذا تبيّن للمُقسّم أنّ المُلتجىء اليه لا يُصلّي ولا يعيش الأسرار، عمِدَ الى  تشجيعه أوّلًا على الإلتزام وتنمية الإيمان. فعلى كلّ كاهن والمقسّم على غراره أن يتحلّى بما سمّاه البابا في رسالته أعطيكم رعاة “بالمحبّة الرعويّة” التّي هي مصدر خدمته الكهنوتيّة وروحُها، علمًا بأن الرّوح القدس هو مصدر هذه المحبّة الرعويّة، وهو الّذي يقود الكاهن في خدمته إتمامًا لمشيئة الله وعمله الخلاصي. إنّ خدمة  المقسّم ليست سحرًا ، بل عملٌ رعويّ مُتَمِّم.

2.1.3 عطايا الرّوح القدس : السلام والفرح

يقول الكاردينال جوزف رتزنغر بأن فاضح العالم الشيطاني، هو الأقنوم الثالث في الثالوث الأقدس أي الروح القدس[14]. هو الذي يزرع فينا الفرح والسلام، وهاتان العلامتان تساعداننا على التمييز: الإنسان الّذي يعاني اضطراباتٍ آنيةً حقيقية روحيّة، والّتي يرجّح أن يكون مصدرها تأثير شيطانيّ، يمكن أن ينعم بالسلام والفرح، على عكس من يتخبّط مثلاً في الإحباط النفسي أو غيره من العوارض النفسيّة. غير أنّ ذلك لا يُدرَك، أحيانا، إلاّ بالخبرة والمرافقة.

3.1.3 الإضطرابات الروّحيّة والنفسيّة والجسديّة المتعذّرة التفسير

إنّ معظم الّذين يبحثون عن مقسّمين يعرضون عليهم أوّلا الإضطرابات الّتي يعيشونها. فيأخذ الكاهن المقسّم ما يُعرض عليه على محمل الجد من دون التّسليم بأن هذه هي الركيزة المُستَنَدُ. فالبداية للفضائل الإلهيّة، ثمّ لعطايا الرّوح القدس، ثمّ للعوارض والإضطرابات النفسيّة والجسديّة غير الإعتياديّة. فالمُقسم لا يأخذ مكان عالم النفس، والتمييز النفسي  يجب أن يكون قد حصل قبل وصول الشخص إلى المقسم وذلك بواسطة مركز الإصغاء أو على الأقل الإصغاء الأوّل (la première écoute) من قبل الأبرشيّة. لكن هناك  بعض الحالات الّتي يصعب التمييز فيها خارجًا عن صلاة التقسيم بالذات كمعيارٍ وحيدٍ وأخير للتمييز.

4.1.3 الخبرة في حدّ ذاتها و صلاة التقسيم

إنّ خبرة المقسّم تلعب دورًا كبيرًا وبارزًا في التمييز، إذ إن بعض العوارض خلال صلوات التقسيم لا تعني بالضرورة أنّ الشخص ممسوس. لذلك ثمّة معايير للتمييز خلال صلاة التقسيم هي:

العلامات الّتي ترافق التقسيم مثل: التعب المفاجىء والمتعذّر تفسيرُه، حالة ُنعاس لا يمكن السيطرة عليها، شعورٌ أو إحساس قويٌ بالبرودة أو الحرارة، خفقانُ القلب، عدم القدرة على التنفّس، صداعٌ عنيف، ألمٌ في الحنجرة، وجعٌ أو حريق في العينين أو أي جزء آخر من الجسم، الألمُ المفاجئ، شعور بالتقيُّوء، شعور بوخزات في مناطق مختلفة من الجسم، اهتزازٌ لا يمكن السيطرة عليه، شعور بالاختناق، الخ[15].

كما أنّ تمييزًا أوّليًا يمكن أن يبدأ مع كاهن الرّعيّة عبرَ أسئلةٍ يطرحها على ابن(ة) رعيّته، قبل أن يوجّهه إلى أيّ مكان آخر. سواء إلى مركز الإصغاء والتمييز أو إلى الكاهن المقسّم. من هذه الأسئلة: كيف ومتى بدأت تظهر هذه العوارض؟ هل مارستَ الشعوذات وقصدت العرّافين؟ هل سقاك أحدهم سائلاً بقصد رُقيةٍ أو ما شابه؟ ما الظروف التي تُضعف وتُقوّي هذه العلامات؟ هل هناك أوقات تختفي فيها؟ هل تظهر هذه العوارض بشكل مفاجئ وغير متوقّع أم بشكل تدريجي؟ أتظهر هذه العوارض بصورةٍ أقوى في الأوقات المخصّصة للصلاة و المناسبات الروحيّة؟ هل قصدت طبيبًا نفسيًا؟ وماذا قال لك؟ هل استطاع تشخيص الحالة أم عجز عن شرحها؟ كيف تشرحُ أنت وضعك؟ أترى أسبابًا للعوارض التي تعيشها؟[16]

خاتمة

حان الوقت لِنَضَع موضوع التقسيم في مكانته السّليمة! ورأيُنا أنّ ما ينقص هذا الموضوع هو بعدُه الرعويّ. وعدم إعطائه حقّه في الإكليريكيّات وجامعات اللاهوت، جعل منه موضوعًا تتداوله وسائل الإعلام بشكلٍ مبتذل كما بالغ بعض الكهنة في التحدّث عنه، بطريقة لا تساعد المومنين على تقوية إيمانهم وتزرع الخوف والرّعب بدلاً من التبشير بحبّ الله وافتدائه لنا وعنايته الأبويّة بنا، والتركيز على قوّة كلمته وتأمّلها.

إنّ دراستنا لا تعدو كونها محاولةً متواضعة وآليّةً عمليّة نُقدّمُها لتبقى الكنيسة قريبة من هؤلاء الأشخاص ومرافقتهم، تعيَ آلامهم وتحرّرهم بواسطة السلطان الذي خصّها به سيّدها ومعلّمها وفاديها ومخلّصها وعريسها. فالكنيسة مالكة هذه الأسلحة االمقدّسة لا ينقصها إلاّ مقاربة الموضوع بالنظرة الإيمانيّة الرعويّة التبشيريّة. نُبادر فنضع أمامَ عيوننا مثالَنا الوحيد يسوع المسيح وأسلوبَه الرعويّ، إن صحّ التعبير، في تعاطيه مع النّاس. فهو يدرك تمامًا الفرق بين المريض والممسوس، فيلمس الأوّل ويشفيه والأمثلة كثيرة؛ أمّا الممسوسون فكان يتوجّه إليهم بكلام مباشر وبسلطان قائلا: “أخرج منه أيّها الروح النجس…” (مر 5،8). و من المهمّ معرفةُ أنّ للشرير حدودًا لا يستطيع تخطّيها هي: سيادة الله، حرية الإنسان وإرادته، انتصارُ المسيح على الصليب، حماية الملائكة والقديسين وشفاعتهم، صلاة الآخرين والجماعة.

إستنادًا وإضافةً الى كل ما ذُكِر سابقًا نقدّم بعض الإقتراحات العمليّة:

1 – ترجمة رتبة التقسيم الموجودة في أرشيف بكركي[17]، من اللّغة السّريانيّة بخطّها الكرشوني الى اللغة العربيّة وذلك من قبل اللجنة الليتورجيّة المختصّة.

2 –  إنشاء جمعيّة للكهنة المقسّمين يلتقون مرّة في السنة، تحت إشراف الكنيسة من أجل تبادل الخبرات والتنشئة المستمرّة.

آنَ الأوان للكفِّ عن الإنقياد وراء معتقداتنا الخاصّة حول هذا الموضوع فنُقارب أخطارَهُ بالإستناد الى إختبار الكنيسة والآباء القدّيسين. ولعلَّ خير ما أُنهي به مقالتي كلماتٌ للقدّيس يوحنّا الذهبي الفم، يومَ خَتَم إحدى عظاته في موضوع الشيطان قال ما معناه: ليس لديّ بالطبع أيةُ رغبة لأحدّثكم عن الشيطان، ولكنها العقيدة تتيحُ لي فتَدفعني فأوصل اليكم فوائدها الكثيرة[18].


[1] Cf. M. Paul, L’exorcisme dans l’Eglise Maronite, ministère et accompagnement spirituel, Teresianum, Roma 2013.

[2] Cf. Forget J., «Exorcisme», in Dictionnaire de Théologie catholique », V, Letouzey & Ané, Paris 1924, 1762-1780. ID., «Exorciste», in Dictionnaire de Théologie catholique », V, Letouzey & Ané, Paris 1924, 1780-1786.

[3] راجع “التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة”، عدد 1673؛ راجع أيضًا الحق القانوني اللاتيني، القانون 1172.  راجع أيضًا “المجمع الّلبناني 1736”، القسم الثالث، الباب الثّاني، العدد السّادس منه والمخصّص للمقسّمين، ص. 315-320.

[4] يو 10/ 14.

[5] «Démonologie, exorcisme et discernement des esprits Avoir une vision anthropologique des craintes et des besoins humains ; Faire une analyse des textes bibliques concernant les démons et les anges ; Faire une lecture des textes ecclésiaux (Conciles, textes patristiques, liturgiques et enseignement de l’Église Catholique, etc) concernant la question du mal, du démon et de l’exorcisme ; Acquérir une lecture critique et scientifique des situations de possessions, etc. En effet, à l’institut de la spiritualité de l’université de la Grégorienne à Rome, on trouve une matière intitulée : «Angeli, demoni e fenomeni straordinari nell’esperienza religiosa» (AO 2179), cf., Istituto di Spiritualità, Programma degli studi, anno accademico 2013-2014.  

[6] Cf., I. FROC, « Le ministère d’exorciste: accompagner », in Prêtres Diocésains, janvier-avril 1992, 182-186.

Picard, «Journal d’un exorciste », in Études, mars 1988, 395. [7] Cf. A.

[8] R.CHENESSEAU, « Journal d’un prêtre exorciste », Ed. Bénédictines, 2007, 133. Cf.

[9] «Il est important alors, d’écouter la personne avant tout et de ne pas répondre trop vite à son désir d’exorcisme ou de délivrance», R.CHENESSEAU, Journal d’un prêtre exorciste, Ed. Bénédictines, 2007, 13.

[10] «Le Seigneur Jésus Christ a confié à ses disciples la mission d’être témoins de son amour, de son pardon, de sa victoire sur le mal, les ténèbres, le péché, la mort. Cette mission, l’Église l’accomplit spécialement par les sacrements de la foi et de compassion fraternelle, par des prières d’intercession et de supplication. Parmi ces actes, l’exorcisme prend place de manière exceptionnelle…», m. Brulin, «L’exorcisme dans l’Église : une parole de guérison et de salut», in Esprit et Vie, 188, février 2008, 2.

[11] «Accueil, écoute, compassion, chemin spirituel, prière de libération, invitation à la prière et à avoir foi en quelqu’un ; le but de l’exorcisme […], est d’éduquer à la foi et à la prière ; les exorcistes se consacrent à accueillir, à compatir, conseiller, c’est pour cela que les exorcistes sont encore utiles», Dr. P. de Labriolle, «Exorcisme et psychiatrie» dans Cedrus Libani, n˚72, 2006, 48. Cf. De boucaud M., «Les phénomènes de possession en psychiatrie. Psychopathologie et exorcisme», in Esprit et Vie, n˚189, mars 2008, 1-9.

[12] «Il faut veiller à regarder le Christ et à s’attacher à Lui. C’est une des ruses du démon que de chercher à s’attirer le regard vers lui. C’est un danger de l’exorcisme, et il faut être très conscient de ce péril», R. CHENESSEAU, « Journal d’un prêtre exorciste », Ed. Bénédictines, 2007, 140.

[13] Cf. Études carmélitaines, « Satan », Desclée de Brouwer, 1948; L-J. GONZALEZ, Stimolazione spirituale, Tecniche e risorse di spirituelità pastorale, Ed. OCD, 2004, 44; C. POIRIER, Guérison et combat spirituel, petit traité des pathologies de l’âme, Salvator, 2011, 30.

[14] Cf. Cardinal J. Ratzinger, Entretien sur la foi, in R. Chenesseau, Journal d’un exorciste, Ed. Nova millenium, Paris 2007, 207.

[15] Cf. R.CHENESSEAU, «  Journal d’un prêtre exorciste », Ed. Bénédictines, 2007, 246-258.  

[16] Cf. R. CHENESSEAU, « Journal d’un prêtre exorciste », Ed. Bénédictines, 2007, 141-145.

[17] لدينا خمس مخطوطات في أرشيف بكركي تتحدّث عن موضوع التقسيم. راجع: المطران فرنسيس البيري،” التقسيم في تعليم الكنيسة وفي المخطوطات المارونيّة”، جامعة سيّدة اللّويزة، بيروت – لبنان 2004.

[18] Cf. J. CHRYSOSTOME, De diabolo tentatore, homil. II, 1 P.G., 49, 257-258, in Congrégation pour la doctrine de la foi, « Foi chrétienne et démonologie », dans Cedrus-Libani, n˚72, 2006, 7.

Scroll to Top