Almanara Magazine

البطريرك الياس الحويّك

بَيانُ الانتماء إلى أرضٍ وسَمَاء

* الأخت نورا الخوري حنّا[1]

“ليسَ بالأمر الهيّن أنْ يحِبَّ الإنسانُ أرضَ وطنِهِ. تلكَ المحبّةُ هي مِن بابِ الإيمان. بل هي إيمان. والإيمانُ يتطلّبُ انقشاعًا باطنيًّا يدلّ على أنّ النّفسَ طاهرة. […] الأنفس الطاهرة، وحدَها، تصدُقُ نحوَ بلادِها. […] أجَل! الوطنيّةُ قداسة. قداسةُ حِسٍّ، وقداسةُ قلبٍ، وقداسةُ عقلٍ”[2].

          لا يُقرُّ فيلسوفُ القوميّةِ اللّبنانيّة، كمال يوسف الحاج، بترادُفِ الكلمات، فلكلِّ مبنى معنى خاصّ لا يُستَبدَل. والهيّنُ ليسَ البديهيّ ولا العفويّ، ولا هو الطبيعيّ. وإنْ كانَ تعلُّقُ الإنسانِ بأرضِهِ طبيعيًّا، ولا يُستَثنى من هذه القاعدة إلّا منَ شذَّ عن الطبيعة بحسب البطريرك الياس الحويّك[3]، فليسَت محبّتها – أيْ محبّة الأرض – بهيّنةٍ. محبّةُ أرضِ الوطن إيمانٌ، وطهارةٌ وقداسةٌ.

          ربّما عَلِقَ في ذِهنِ البعضِ وقناعاتهم أنّ القداسةَ هي الترفّع عن الأرضيّات إلى حدِّ إهمالِها أو حتّى ازدرائها، فاحتقروا الأرضَ وَعَدّوا محبَّتها والتعلّقَ بها والذودَ عنها منافيًا للتّوق نحو السماويّات. وربّما استنتجَ البعضُ ممّن يأخذون الأمورَ بظلالِها أنّ الإنتماءَ الملتزِم بأمورِ الأرض هو على شاكلةِ تَصَنُّعِ مَن يدّعون الوطنيّة من ساسةِ العالم الفاسدين المُفسدين.

ليسَ بالأمرِ الهيّنِ أنْ يُحبَّ الإنسانُ الأرضَ ويحنَّ إلى السّماء في آنٍ معًا، وأنْ تجتمعَ فيه المحبّتان خالصتين متكاملتين لا تضادّ بينهما. ليسَ بالأمرِ الهيّن أنْ تجتمع القداسةُ والوطنيّةُ في إنسانٍ. غيرَ أنَّ اجتماعَهما، على صعوبتِه وندرتِهِ، أفصحُ دليلٍ على وِحدةِ حياةٍ صادقةٍ، شفّافة، لا انفصامَ فيها ولا زَغَل.

“مُلْكُ الأَرْضِ فِي يَدِ الرَّبِّ، فَهُوَ يُقِيمُ عَلَيْهَا فِي الأَوَانِ اللاَّئِقِ مَنْ بِهِ نَفْعُهَا (يشوع بن سيراخ 10: 4). بهذه الآية من سِفرِ يشوع بن سيراخ افتتَح مجمع دعاوى القدّيسين في الفاتيكان المرسوم النهائيّ حول فضائل البطريرك الياس الحويّك، والّذي أُعلِنَ بموجبه مكرَّمًا. وأضاف في المقدِّمَة شارِحًا سببَ اختيارِه لهذه الآية: “إنّ حكمةَ يشوع بن سيراخ تُلائِمُ تمامًا شخصيّةَ خادمِ الله الياس الحويّك الإنسانيّة والرّوحيّة: فقد كان حقًّا الإنسان الّذي – على ضوء الرّوح القدس – عرفَ كيف يقود شعبَهُ في الأوقات المضطربة ويصبح شاهدًا وعاملاً للسّلام وللرّجاء أيضًا في المجتمع المدنيّ”[4].

وأبعدُ من هذا! ما وراءَ التعابير الرّوحيّة الوجدانيّة فلسفةٌ وجوديّة من صُلبِ لاهوتِ التجسّدِ المسيحيّ، تتخطّى تأثير ثنائيّة الدالّ والمدلول الأفلاطونيّة، أيْ ثنائيّة العالم الماديّ المحسوس وعالم المُثُل المحتجب عن الحواسّ. خلاصةُ فلسفةِ التاريخ المسيحيّة كما عاشَها وعلّمها البطريرك الحويّك: لا ثنائيّة بين الأرض والسّماء، فملكوتُ الله واحِد “كما في السّماء كذلك على الأرض”.

وفي الواقِعِ، جَمَع البطريرك الياس الحويّك بشخصِهِ التصوّف الزّاهد والالتزام المسؤول، فعاشَ منتميًا لملكوتٍ واحدٍ مكتمِلٍ في السّماء ضارب الجذور في أعماقِ أرضٍ التزَمَ بها انطلاقًا من إيمانِهِ وفهمِه لسرّ التدبير الخلاصيّ.

  • التصوّف الزّاهد: “ليس لنا هنا مدينة باقية بل نرجو الآتية”[5].

“ليس لنا هنا مدينة باقية بل نرجو الآتية”: آيةٌ إنجيليّة عبَرَت السنوات الثمانية والثمانين من حياة البطريرك الياس الحويّك، وعبّرَت عن موقفٍ باطنيّ إيمانيّ لَم تُبَدِّل فيه الأيّام ولا المهام شيئًا سوى أنّه ازدادَ مع تقدُّمِ العمرِ والمسؤوليّات انغراسًا في أرضِ الواقع وترابُطًا مع الانتماء الوطنيّ.

فبين سنتي 1867 و1868، ألّفَ الخوري الياس الحلتاويّ، الإكليريكيّ الشابّ، “شرح أعمال الرّسل”[6]، وهو بعد تلميذ في روما، وعلى صفحاتِهِ تردّدت مرارًا هذه الآية تكشفُ عن ألحاظ الحويّك المتّجهة نحو السّماء كألحاظ الرّسل عند صعود المسيح: “يليقُ بنا أنْ نتعلّمَ من الرُّسُلِ أنْ نرفَعَ ألحاظَنا نحو العلا حيثُ نجدُ وطنَنا الحقيقيّ متذكّرين على الدّوام أنّنا غرباء في هذه الدّيار”[7]. هذا التّوقُ نستنتجهُ جليًّا عند قراءةِ كلّ تفسيرٍ له لأرضِ الميعاد: “فمثلما استمرّ بنو إسرائيل أربعين سنة ضالّين في البرّيّة قبلَ أنْ يبلغوا أرضَ الميعاد، هكذا استقامَ المخلِّصُ أربعينَ يومًا في هذه الدّنيا قبلَ أنْ يصعدَ إلى مقرِّهِ السّماويّ. فنتعلّم من ذلك أنّنا غرباء على الأرض ولا يليقُ بنا أنْ نتعلَّقَ بخيراتها، بل يجب أنْ نتوقَ دومًا إلى وطنِنا السّعيد ونتّجه إليه بالصّوم والتّقشّف وسائرِ أعمالِ التّوبة المسيحيّة”[8]. وفي شرحِهِ أيضًا لأمرِ الربّ لموسى: “أُخرُجْ مِن أرضِكَ ومن عندِ بني جنسِكَ وهلمَّ إلى الأرض الّتي أُريكَ”، يقول: “هكذا، يليقُ بالإنسانِ المسيحيّ الّذي يعلمُ أنَّ هذه الأرضَ هي أرضُ منفى وغربة لساكِنيها وأنَّ وطنَ النّصارى إنّما هو في السّماء أنْ لا يتعلَّقَ ببلدةٍ أكثرَ ممّا سواها راجيًا تلكَ المدينة السّماويّة الّتي الله بانيها وصانعها”[9].

رافقَت هذه الرّوحانيّةُ الزّاهدةُ المتجرِّدَةُ عن خيراتِ الأرض الحويّك في كلّ أطوار حياتِهِ، وطبعَت مسيرتَه الشخصيّة وعيشَه[10] وتعليمَه العامّ والخاصّ، كما نقرأ مثلاً في شرحِهِ لصلاة الأبانا، في رسالةٍ وجّهها لبناتِهِ راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات في 20 تمّوز 1917: “أمّا لفظةُ «السّماوات» فالمقصودُ منها إثارةُ الحنينِ في نفوسِنا إلى الوطنِ السّماويّ، وتَذكيرُنا أنّنا غرباءُ على هذه الأرض. ولهذا، لا ينبغي أنْ نعلِّقَ أهمّيةً على الأمورِ الأرضيّةِ الزّائلة، ولا نُعيرُها بالاً البتّة، بل ننزعُ دائمًا إلى الخيورِ السّماويّة الباقية، ونتطلّبُها وحدَهـا دون سواها”[11]. وفي رسالةِ أخرى كتبها لهنّ قبل أشهرٍ من وفاتِهِ، في  25 تمّوز 1931، يختمُ مسيرتَه بالتجرّد الّذي بدأها به، أمينًا لذاتِهِ، قائلاً: “نحنُ في هذه الدّنيا نَسعى لنؤهَّل إلى كَسبِ الأخرى؛ وليس الغرضُ من وجودِنا هنا لِنَثْبُتَ جالِسين نتمتَّعُ بهناءٍ ورغد، بأطايب هذه الحياة وبما هو متناهٍ وفانٍ: «إذ ليس لنا ههنا مدينةٌ ثابتةٌ بل نرجو الآتية»”[12].

ماتَ البطريرك الحويّك فقيرًا، متجرّدًا عن ممتلكات هذه الدنيا وغناها[13]، فتمَّت فيه شهادةُ جريدة الأخبار في العدد 696 الصادر في 28 كانون الأوّل سنة 1898 قبل الإجماع على انتخابِهِ: “كفاهُ فخرًا أنّه جمَعَ ما جمَعَ من المال وشيَّدَ ما شيَّدَ من المعالِم وتقلَّدَ ما تقلَّدَ من المناصِب وهو الآن صِفرَ اليدَين لا يملكُ غيرَ ثوبِه”[14].

  •  الإلتزامُ المسؤول:  “الله يريدُ منّا أنْ نحبَّ وطنَنا هذا منتظرين الوصول إلى الوطن السّعيد الثابت”[15].

إنّ التصوّف الزّاهد عند البطريرك الحويّك لا يؤسِّسُ للامبالاةٍ غير مسؤولة، والسيّانيّة الرّوحيّة[16] الّتي طبعَت روحانيَّته لا تُعفي المسيحيّ من واجِبِ التمييزِ والاختيارِ والالتزامِ الفعليّ. فبانتظارِ الوصول إلى الوطن السّماويّ، إلى حيث ننتمي، بحسب قول القدّيس بولس في رسالتِهِ إلى أهلِ أفسس: “أنتم من أبناءِ وطنِ القديسين ومن أهل بيت الله”[17]، يتجذّرُ انتماءُ المسيحيّ للسّماء ويتجسّد بانتمائِه إلى أرضِ وطنٍ ومجتمعٍ وعائلة: “كُلُّنا نَعلمُ، أيّها الأبناء الأعزّاء، أنَّ اللهَ وحدَهُ مُتفرِّدٌ بالثّبات، باقٍ على تَصَرُّمِ اللّيالي والأيّام، يقضي على أعمارِ خَلْقِهِ عندما يشاء وكيفما يشاء، وأنّ ليس لنا هاهُنا وطنٌ أو مدينةٌ ثابتةٌ وإنّما نرجو العَتيدة. غيرَ أنَّ الله الّذي أتى بِنا بأمرهِ إلى هذه الدّنيا، يريدُ منّا أنْ نُحِبَّ وطنَنا هذا، مُنتظرينَ الوصولَ بعدَ هذه الحياة إلى الوطنِ السّعيد الثّابت”[18].

وليس الالتزامُ من بابِ تمضيةِ الزّمنِ الأرضيّ بانتظارِ أبديّة منفصلة عنه، بل الالتزامُ “زرعٌ” في الأرض “وحصادٌ” في السّماء. والتشبيهُ من البطريرك الحويّك نفسه القائل: “قد مثَّلَ السيّد له المجد عمَلَنا على الأرض بالزّرعِ الّذي يُجمَع أخيرًا ويُودَع في الأهراءِ السّماويّة”[19]. وفي كلامِهِ دليلٌ على ارتباطٍ جوهريّ بين الأرضِ والسّماءِ: “ممّا يدلّ كلّه على العلاقة الجوهريّة الّتي تربط الحياة الدّنيا بالحياة الأخرى بنوع أنّ هذه تكون كما أعدّتها تلك”[20].

          لا ينفكّ البطريرك الحويّك يذكّرُ أبناءَه بهذه الحقيقة، حقيقة انتمائِهم إلى وطنَين متكامِلَين: “هذا ونسألُكم أيّها الأبناء الأعزّاء أنْ لا تغفلوا عن أنّ لكم وطنين الأرضيّ والسّماويّ، الأوّل بعد الثاني والثاني يكمّلُ الأوّل، وأنّكم في الأوّل كعابري سبيل وأمّا في الثاني فتكونون في بيت أبيكم”[21]. ويحثّهم على الالتزام المسؤول في مجتمعهِم ووطنهِم، وفي توجيهاتِهِ تعليمٌ اجتماعيّ أخلاقيّ في السّياسةِ والاقتصادِ وكسبِ الأرزاق، لا مجال هنا للتوسّع فيه، إنّما مفادُه ما جاءَ في رسالته سنة 1924: “لا نريدُ أن يؤخَذَ قولنا حجّةً لما يزعمه البعض من أنّ التقيّد بالرسوم الدينيّة مُضِرٌّ بالمصالح الأرضيّة فإنّ الأسفار المقدّسة تعلِّمُنا أنّ الأمرين ليسا متناقضين بل هما جزءان متمِّمان بعضهما بعضًا وكلّ منهما ضروريّ للآخر”[22].

أعطى الحويّك الكنيسة والوطن بشخصِهِ مثالاً يُحتذى به في الالتزامِ المسيحيّ، فكانَ “الوكيل الأمين” المتّكل على عناية الله، و”البنّاء الحكيم” المتجرّد عن أمجادِ العالم. أحبَّ الأرضَ وعمِلَ بها، كاهنًا جديدًا في حلتا، ومن ثمّ دبّرَ شؤونَها وسهرَ على إنمائها مطرانًا وبطريركًا. حافظَ على أملاكِ الكرسيّ البطريركيّ، وابتاعَ لها أملاكًا جديدة، واستثمرَها[23]. أسّس أوّل جمعيّة رهبانيّة نسائيّة رسوليّة، شيّد الكنائس والمدافن، فتح المدارس، رمّمَ الأديار، وحقّق الكثير من المآثر العمرانيّة والاجتماعيّة في لبنان والعالم ممّا تزدحم به المراجع الّتي عُنِيَت بتسطيرِ إنجازاتِه[24].

ولعلّ أكبرَ دليلٍ على إيمانِ البطريرك الحويّك بالأرضِ نضاله في سبيل استعادة لبنان حدوده التاريخيّة وانتزاع اعتراف دوليّ بدولة لبنان الكبير في مؤتمر الصّلح، تُوِّجَ في الأوّل من أيلول سنة 1920، باعترافِ الجنرال غورو نفسه الّذي توجّه للمشاركين في الاحتفال في قصرِ الصنوبر بقولِهِ: “فلنشكر جميعًا هذا البطريرك الكبير الّذي ذهبَ لا يعبأ بثقلِ الأيام وأخطار السّفر وراءَ خيرِكم. أجل إنّ غبطة البطريرك الحويّك الذي كان سفيرَكم في معاركَ سياسيّة عقبت المعاركَ الحربيّة فاز منتصرًا، وكانت ثمرةُ انتصارِه حكم لبنان بنفسه”[25]. فلا يُناضِل إلاّ مؤمن. والبطريرك الحويّك ناضَلَ في سبيل استعادة هذا الوطن، هذا اللبنان.

الأوّل من أيلول يومٌ من عُمرِ مَن صرَفَ عُمرَه في محبّة الله ومحبّة الكنيسة والوطن كلّ يوم[26]. فالمحبّة عندَ البطريرك الحويّك واحدة، تمتدُّ “من الأرض إلى السّماء” بحسبِ قولِه، وهو الموصي: “لنَدَع محبّتنا لله تمتدّ إلى محبّة الوطن”[27]، ويوضحُ في موضع آخر: “على هذا المنوال تكون محبتكم الفائقة الطبيعة قد تناولت محبة الله ومحبة القريب ومحبة الكنيسة وامتدّت من الأرض الى السّماء حيث تثبُتُ معنا الى الأبد[28].

استنادًا إلى هذين البُعدَين المتكامِلَين، التصوّف الزّاهد والانتماء المسؤول، نفهَمُ مقاربةَ البطريرك الحويّك الفكريّة والواقعيّة للأرض ولأشكالِ الارتباط بها والانتماء إليها.

  1. إنتماءٌ طبيعيّ إلى الأرض-الأمّ : “هذه الأرض الّتي كانت على نحوٍ ما أمَّنا”. 

إنتماءُ الإنسان إلى أرضٍ إنتماءٌ طبيعيّ، تمامًا كانتمائِهِ إلى عائلةٍ مُحدّدة يتحدّرُ منها وينضمّ من خلالِها إلى العائلة البشريّة الكُبرى. وهذا الانتماءُ الطبيعيّ يولّدُ حبًّا طبيعيًّا وميلاً فِطريًّا يربطُ الإنسان بعائلتِهِ وبأرضِهِ: “بحيث يُقتضى لمقاومةِ هذا المَيْلِ أنْ يتغلَّبَ الإنسانُ على أشدِّ الفِطْراتِ نُزوعًا”[29].

يستفيضُ البطريرك الحويّك في شرحِ هذه العلاقة الطبيعيّة الّتي تربطنا بالأرض، علاقة يشبّهها بعلاقة الابن بأمّه الّتي تغذّيه ضامنةً له “الخير الأوّل”، وهو “قيام الحياة”: “ففي النّظامِ الطّبيعيّ، يقول الحويّك، قول الحويةال الحياة نرى في أرضِنا وفي الشّمسِ الّتي تنيرُها، والأنهارِ الّتي تسقيها، والجبالِ المنيعة الّتي تحميها، والبحرِ المتوسّط المنبسطِ أمامَها، ما يساعدُنا على إحرازِ الخيرِ الأوّل بينَ الخيور، وهو قِيامُ حياتِنا”. واستطرادًا، مُلفِتٌ كيف أنّ الحويّك يتكلّم عن أرضٍ معروفة، محدّدة المعالم، مرسومة الحدود، ودليلُه أنّه يذكُرُ البحر المتوسّط المنبسط أمام أرضِ هذا الوطن، وهو ليس منبسطًا أمام كلِّ وطن. فنحن ننتسبُ إلى أرضٍ واحِدة هي بابنا للانتماء إلى “القرية الكونيّة”. ويضيف: “هذه الأرضُ الّتي كانت على نحوٍ ما أُمَّنا، تُغذّي أولادَها من الأعشاب الّتي تنبتُها، والحيواناتِ الّتي تعيشُ على سطحِها، فَتُقدِّمُ لنا الأغذيةَ الملائمة مزاجَنا وصحّتَنا. والهواءُ العليلُ الّذي يهبُّ عليها هو الهواءُ الّذي تتطلّبُه رِئتُنا، والنّورُ الّذي يُنيرُها هو ما يأخذُ بمجامِعِ أبصارِنا وقلوبِنا فلا يَلَذُّ لنا سواه. هذا باعتبارِ النّظامِ الطّبيعيّ”[30].

تتجذّر هذه المقاربة في مفهومٍ أنتروبولوجيّ، بيبليّ ولاهوتيّ، لعلاقة الإنسانِ بالأرضِ من جهة ولعلاقتهما بالله خالقهما من جهة أخرى. وهي مقاربةٌ تفضي في عالمنا المعاصر إلى تعليمٍ بيئيّ ما انفكّت الكنيسة تذكّرُ به وتشهدُ له، وآخر رسائلها حوله رسالة قداسة البابا فرنسيس العامّة “كُن مسبّحًا”: “علينا اليوم أنْ نرفضَ وبقوّة، إمكانيّة تبرير هيمنة مطلقة للإنسان على باقي الخلائق، انطلاقًا من أنّنا خُلِقنا على صورة الله وأنّنا قد فوِّضْنا لإخضاع الأرض. فمن المهمّ قراءة نصوصِ الكتاب المقدّس في سياقِها، مع تفسيرٍ صحيح، والتذكّر بأنّها تدعونا “لحرثِ وحراسةِ” الفردوس. في حين أن “الحراثة” تعني فلاحة التربة أو الاستصلاح أو العمل، “فالحراسة” تعني الحماية والعناية، والحِفظ، والسهر. وهذا يفترض وجود علاقة تبادل مسؤول بين الكائن البشريّ والطبيعة. فكلّ مجتمع يمكنُه الحصول على الخير الّذي يحتاجه من الأرض للبقاء على قيد الحياة، ولكن عليه أيضًا واجب حماية الأرض وضمان استمراريّة خصوبتها للأجيال القادمة. لأنّ بالنهاية، “الأَرضُ لِلرَّبِّ””[31].

          استنادًا إلى المنطق عينِهِ، يؤكّد البطريرك الحويّك على تبادليّة العلاقة بين الإنسان والأرض. فكما أنّ الأرض تخدم الإنسان، تغذّيه وتؤمّن له استمراريّة الحياة، فالإنسان مدعوّ – بكلّ ما في كلمةِ الدّعوة من معنى – إلى خدمةِ الأرض، وإلى تحويل هذه الخدمة إلى عملٍ ليتورجيّ غايته تمجيد الله: “لكم أن تروّضوا الحيوانات وتستخدموها لمنفعتكم وأن تقطعوا أزهار الحقل وتجنوا أثمار الأشجار وتستفيدوا من قوى الطبيعة كالرياح العاصفة والمياه الجارية إلى غير ذلك، لكن لا تغفلوا ولا تنسوا أنّ تسلّطكم على كلّ هذه إنّما هو بطريقة الانتداب منه تعالى فيحتّم عليكم والحالة هذه أن تحوّلوا خدمةَ المخلوقات لكم لتمجيدِهِ عزّ وجلّ كما تفعل هي إذ تخدُمُ الإنسان فإنّها لا تقفُ عند الحدّ بل تتجاوزُه وتذيعُ مجدَ مبدعِها لأنّه غايتُها. وما الإنسانُ إلاّ واسطة لبلوغ تلك الغاية”[32].

  • إنتماءٌ روحيّ إلى الأرض-مادّة الأسرار: “حلَّ فيها الرّوح القدس يومًا”.

“وما الإنسانُ إلاّ واسطةٌ لبلوغِ تلك الغاية”[33]: إنّ الولوجَ إلى كُنهِ هذه المقولة للبطريرك الحويّك هو دخولٌ في عمقِ فهمِهِ لسرّ الأرضِ والإنسانِ وعلاقتِهِما. فالغايةُ إنّما هي تمجيدُ الله. والإنسانُ “كاهنُ” هذه الغاية. هو “الواسطةُ”، وما هو إلاّ هذه الواسطة. الجملةُ الاستثنائيّة كاشفةٌ لدعوةِ الإنسان ولوظيفتِهِ الكهنوتيّة في العالم: “فيحتّم عليكم والحالة هذه أن تحوّلوا خدمةَ المخلوقات لكم لتمجيدِهِ”[34].

قمّةُ هذا التمجيد يعيشُه الإنسانُ المسيحيّ من خلالِ احتفالِهِ بالأسرارِ المقدّسة حيثُ “يتولَّى اللهُ الطبيعة، ويحوِّلها إلى وسيطة للحياة فَائِقة الطَّبِيعَة”[35]، وأوّل هذه الأسرار الإفخارستيّا، فعل الشكران، حيث “تجدُ الطبيعةُ سموّها الأعظم. فالنّعمة، الّتي تميل إلى الظهور بشكلٍ محسوس، تبلغُ تعبيرًا استثنائيًّا حين الله نفسه، المتجسّد، قد جعل من نفسه غذاءً لإطعام خليقته. لقد أراد الربُّ، في قمّة سّر تجسده، الدخولَ إلى أعماقِنا من خلالِ كِسرة مادَة”[36].

الأرضُ هي موقعُ عيشِ أسراريّة العلاقة مع الله ومادّةُ الأسرارِ، لذا يحبّها المسيحيّ ويحافظُ عليها: “الأنهارُ والينابيعُ الّتي تجري فيها وتسقيها هي عزيزةٌ لديه، لأنَّ مياهَها استُخدِمَتْ لِنَضْحِهِ مِنَ الأدرانِ بماءِ العِمادِ، الّذي ضَمَّهُ إلى جسدِ المسيح السّريّ. حقولُ بلادِهِ هي عزيزةٌ لديه، لأنَّها تُعطيهِ الحنطةَ والخمرَ اللّذَيْن يتحوّلان إلى جسدِ المسيح ودمِهِ، وبواسطتِهما تنمو فيه المحبّةُ الّتي تربطُه بالله. وِدْيانُ بلادِهِ وبِطاحُها وَوِهادُها هي عزيزةٌ لديه، لأنّها تُعطيهِ الزّيتَ الّذي يتكرّسُ مع البلسَمِ، فَتُدْهَنُ بهِ جبهتُه ويَثْبُتُ على حفظِ عهودِه لله. وإذا ما دَنا يومُ مُغادَرَتِهِ هذه الحياة، يُدهَنُ بذاكَ الزّيتِ، فَيُصبحُ بطلاً  يُصارِعُ قوّاتِ العدوّ الخفيّ، فلا يتحوّلُ عن صداقةِ المسيح مَلِكِهِ”[37]. بكلماتٍ مشابهة إلى حدِّ التّطابق، يتكلّم البابا فرنسيس عن “معانقة العالم من خلالِ العبادة”[38].

ينظر البطريرك الحويّك للأرض انطلاقًا من كهنوتِهِ فيرى فيها، بعينِ الإيمانِ، أرضَ تجسُّدٍ وموقعَ عبادةٍ، تشتركُ مادّتُها في الاحتفالات الأسراريّة، ويكشفُ ما يُرى منها عظمةَ الخالقِ وما لا يُرى من تدبيرِه الخلاصيّ.

الأرضُ حافظةُ الحياةِ الطبيعيّة هي أيضًا حاضنةُ أجسادِ القدّيسين للحياةِ الموعودة على رجاء القيامة: “وماذا نقولُ عن المقابرِ وأجداثِ الأجداد؟ إننا لا نرى فيها رُفاتَ الأجساد التي اهتزَّتْ أعصابُها لأفراحِ وأحزان الوطن فَحَسْبُ، بل هي رفاتُ أجسادٍ حلَّ فيها الرّوحُ القدس يومًا، فكانَت هيكلاً له، وهي مُعَدَّة لأنْ تنهضَ في يومِ المَعادِ من صغائرِ الأرض، فتصيرَ جسدًا مُختارًا مُمَجَّدًا يُسبِّحُ اللهَ إلى دهر الدّاهرين”[39].

  •  إنتماءٌ إيمانيّ إلى الأرض-الميراث: “ميراثًا وُهِبَ له مِن لَدُنِ الله”.

إنّه الإيمان. بِهِ يعترِفُ البطريرك الحويّك بالأرض على أنّها صُنعُ يدِ الله وأمانةٌ بيدِ الإنسان، تخدمُهُ ويخدمُها، ينظرُ من خلالِها عنايةَ الله ويمجّدُ فيها الخالق. الإيمانُ مسألةُ نظرٍ، والمسيحيّ لا يرى في الأرضِ ثروة طبيعيّة وإمكانيّات اقتصاديّة تمكنّه من تأمين معاشهش فحسبمةلقلحويالأطياب”[ والتقدّم فحسب، إنّه “يرى فيها، فَضلاً عمّا تقدَّمَ، أرضًا قَسَمَها اللهُ له، فلا يَحتِقرُها دونَ أنْ يحتقرَ ما وَهَبَهُ الله”[40].

يذكّرنا المجمع البطريركيّ المارونيّ بهذه الحقيقة المسيحيّة-المارونيّة الثابتة، فيقول: “الأرض قيمة إيمانيّة عند المسيحيّين عامّة وعند الموارنة خاصّة، نابعة من إيمانهم بالتجسّد. وذاكرتهم الجماعيّة تدرك أهميّة التراكم الحضاريّ والتاريخيّ على أرضهم. فالأرض، في نظرهم، إرث وليست رزقًا للتجارة به أو مُلكًا للتصرّف فيه بهوى”[41].

ارتباطُ الوطنيّ بشكلِ عامّ، والمسيحيّ بشكلٍ خاصّ، بأرضِهِ هو ارتباطٌ إيمانيّ: “إنّ المسيحيّ الحقيقي والوطنيّ الحقيقيّ، يرى في الأرض التي يكتسب منها معاشه أرض الله ومَن خانها فقد خان الله”[42]. إنّه ارتباطٌ ظاهرٌ يقولُ الحويّك “على كلِّ صفحاتِ الكتابِ الكريم”[43]. فهو يقرأ الكتب المقدّسة من التوراة[44] حتّى المكّابيّين[45] وصولاً إلى يسوع نفسِهِ مستدلاًّ بالشواهد الكتابيّة على العلاقة بين الأمانة لله والتفاني في خدمة الأرض الّتي  قَسَمَها الله له والدّفاع عنها والتضحية في سبيلها: “ولمّا أتى المخلِّصُ، عَمّمَ إلى العالمِ كلِّه، تلكَ البركات الّتي كانَ اختصَّ بها في القديم الأُمّة الإسرائيليّة: فأصبحَ كلُّ مسيحيٍّ يرى في الأرض الّتي توطَّنَها، ميراثًا وُهِبَ له مِن لَدُنِ الله، وبالتالي إذا تنزَّلَ عنها فَقَدْ ترَكَ الله”[46].

أمّا الفكرُ الاشتراكيّ القائلُ بالمُلكيّة الاجتماعيّة للأرضِ وخيراتِها، فقد تصدّى له الحويّك، وهو بعدُ طالبٌ إكليريكيّ، مُستندًا إلى مفهومِ الميراثِ في الكتاب المقدّس من جهة وإلى اختبارات الإنسانيّة العملانيّة من جهة أخرى: “ثمّ قَسَمَ [الله] الأرضَ بين أبناءِ البشر، فأعطى لكلّ قبيلة محلاًّ ولكلّ إنسان قسمًا يسكن فيه بهذه الحيوة الفانية […]. فمهما قالَ بعض الاشتراكيّين الّذين يدّعون أنّ الأرض كلّها لكلِّ البشر ولكلٍّ من أفراد الجنس البشريّ، فإنّ الحسَّ العامَّ وحقَّ الأممِ المسلَّم به عند الجميع لم يَدَع هذه المبادئ الفاسدة أنْ تجري فعلاً ودرى أنّها لو سَلَكَ النّاس بموجبها لَخَرِبَت الأرض وبادت خيراتها، فلو انتفى حقُّ التّملُّكِ، لَمَا عاد عني أحدٌ بإتقانِ أرضٍ أو عَملٍ واستَنَد كلُّ فردٍ على غيره بتحصيلِ معاشِه فيكون المصير إلى خرابِ النّظام العالميّ وبِئسَ المصير”[47].

  • إنتماءٌ حضاريّ إلى الأرض-التاريخ والقيَم: “جُبِلَت بعَرَقِ الأجدادِ ودمائهم محافظةً على إيمانهم ووطنيّتِهم”.

الأرضُ مادّةٌ وروحٌ. هي بقعةٌ جغرافيّة ومدى حضاريّ – تاريخيّ. وانتماءُ الإنسانِ إلى أرضٍ هو ارتباطٌ ماديٌّ طبيعيّ أوّلاً، ولكنّه أيضًا وبالأخصّ ارتباطٌ روحيّ: “من خلال هذه العلاقة [أي العلاقة مع الأرض]، نؤكّد هويّتنا الخاصّة ونتواصلُ مع تاريخنا”[48].

الأرضُ رابطةٌ بين المادّة والرّوح، وبين “الأحياء والأموات”، وبيننا نحنُ الأحياء اليوم والموتى غدًا. والانتماءُ يتطلّبُ إنعاش ذاكرتِنا الجماعيّة، في حين أخطر ما تعاني منه أوطاننا هو الألزهايمر الجماعيّ. الذاكرةُ فضيلةٌ. إنّها وصيّةٌ إلهيّة، بل مدخلُ الوصايا الإلهيّة: “تذكّر يا إسرائيل”[49]؛ “إصنعوا هذا لذكري”[50].

يدعونا البطريرك الحويّك أنْ نكرّم الأرضَ ونُحِبَّ الأرض، وندافع عن الأرض الّتي ضَمَّتْ رفات أجدادِنا[51]، وجُبِلَت بعَرَقِهم ودمائهم محافظةً على إيمانهم ووطنيّتِهم[52]، وقبورهم ما زالت قائمة في أرضِنا، تحت أنظارنا، تُذكِّرنا بهم. نتذكّرهم لنقتفي آثارهم، ونتعلّم في مدرستهم، “أمثلةَ التّديُّنِ والشّهامةِ والصِّدقِ والعدلِ والبطولة”[53]. وبذلك نحملُ الأرضَ الّتي حملتنا، أكنّا فيها أم خارجَها، مبادئ وقيمًا تربّينا عليها.

في النهاية، من الطبيعةِ إلى الطبيعةِ نعودُ، والأرض الّتي غذّت وحملت الحياة هي الأرض-المثوى الأخير الّتي ستضمّ أجسادنا، فمن الطبيعيّ أن يشعرَ البشر “برابطةٍ قويّةٍ، عندما يفتكرونَ بأنَّ الأرضَ الّتي حَمَلَتْهُم وَغَذَّتْهم وهم أحياءٌ، سَتضمُّهم في حَشاها بعد المماتِ، فَتَخْتَلِطُ رُفاتُهم مع بعضِها. فَمَنْ لا يُحِبُّ وطنَهُ، هو عَدُوُّ أجدادِهِ وعدوُّ مُعاصريه وعدوُّ ذُرّيّتِه. هذا ما تَقضي به الطّبيعة”[54].

خاتمة : ملكوت الله… في الأرض كما في السّماء

جمَعَ البطريرك الياس الحويّك محبّةَ سماءٍ اشتاقَها وهو في الجسدِ بمحبّة أرضٍ بذل في سبيلِها الغالي والنفيس، فجسَّدَ بشخصِهِ لاهوتَ الانتماءِ المسيحيّ ومفهوم المواطنيّة المارونيّ، فغدا مثالاً لقداسةِ العملِ السياسيّ والاجتماعيّ، وبيانًا للانتماءِ إلى أرضٍ وسماء. 

أحبَّ الأرضَ ميراثًا إلهيًّا وعملَ من موقعِهِ على تحويلها إلى ملكوت، وتحويل الالتزام السياسيّ إلى فعل عبادة. هكذا فهِمَ االبطريرك الحويّك التدبير الخلاصيّ في تاريخ البشريّة. وهكذا فهِمَ التكامل بين السلطتين المدنيّة والرّوحيّة: “وبهذا التعاون وهذا التعاضد الّذي يجدر أن يكون بين الإثنين، تعمل الاثنتان على تحقيق ملكوت الله على الأرض إعدادًا لملكوتِهِ تعالى في السّماء طبقًا للخطّة التي رسَمَتها العناية الإلهيّة لسيرِ الشؤون الأرضيّة”[55]

أحبَّ البطريرك الحويّك الله وشعبه محبَّةً متجسّدة، فاشتاقَ ما صلّى، “ليأتِ ملكوتُكَ”: “أيْ أنْ يَملِكَ اللهُ بنعمتِهِ في قلوبنا [… ] وأنْ يمتدَّ هذا المُلكُ إلى جميعِ الأممِ والشّعوب”[56]. وسعى لإرساءِ هذا المـُلك “كما في السّماء كذلك على الأرض”. فبوسعِ الأرض أن تصبحَ سماء، نعيشُ فيها الاعتراف بسيادةِ الله كأبناء-إخوة.

هذه كانت رغبة قلبِ البطريرك الحويّك حتّى في أحلكِ الأوقات، وصلاةُ قلبِهِ ترسمُ ملامح الفردوس الأرضيّ، كما كتبَ سنة 1915 في خضمّ الحرب العالميّة الأولى وما رافقها من ويلاتٍ على العالم وعلى لبنان وأهله: “فيا حبّذا لو كانَ البشر كلّهم يسمعون كلام الله ويحفظون وصاياه فيصبح العالم فردوسًا أرضيًّا لا حربَ فيه ولا خصام ولا بغضَ ولا حسدَ ولا شرّ ولا ضيق ولا فقر ولا جوع، بل كانت البركات والخيرات طافحة فيه وكانَ الأمان والسّلام مستوليين عليه وكانت الراحة والطمأنية والرّفاهية شاملة كلّ الجنس البشريّ”[57].

          هذا على الأرض. وفي السّماء، كلّنا إيمان بأنّ البطريرك الياس الحويّك، المكرَّم اليوم، والطوباويّ في وقتٍ قريب، لا يزالُ يشفعُ لهذه الأرض الّتي أحَبَّ، الأرض الّتي تنشّق هواءَها، وشرِبَ من مائها، وأكلَ من ثمرِ أرضِها، وصلّى بين جدران هياكلها، وسجَدَ فوقَ ترابِها، واحتفلَ بالأسرارِ المقدّسة من قمحِها وخمرِها وزيتِها، وجسدُهُ يرقُدُ اليوم بين حناياها، وقد انضمّ إلى قافلةِ قدّيسيها وأبطالِها وعلمائها، كاتبًا صفحات ذهبيّة من تاريخها.

          ونحن على هذه الأرض نواصلُ السعي في تحقيق الملكوت جاعلين الله دومًا “نُصْبَ عيونِنا في كلِّ ما يحدُثُ لنا”[58]. نقدّسُ الزّمانَ والمادّة والمكان، “فتُصبحُ الحوادثُ لدينا بمثابة أعراضِ الأوخارستيّا المحتجب تحتها إلهُ الحبّ. فلا نعودُ نرى في الخليقة سوى الخالقِ الحنّان”[59]، لمجدِ الجود الإلهيّ الاعظم وخير النّفوس. نواصِلُ السعي على الأرض متّكلين على صلاةِ البطريرك الحويّك، ووعدُهُ فينا رجاء، أنْ “هناك لا نتحوّل عن حبّ هذا الوطن وعن مواصلة طلب البركات له”[60].


[1] الأخت نورا الخوري حنا من جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيات، حائزة على شهادة دكتوراه في الفلسفة، أستاذة جامعية وباحثة في حقل التراث المسيحي – الاسلامي. 

[2]  كمال يوسف الحاج، “لبنان في اللهب… هل يحترق؟“، المحاضرة الرابعة: لبنان كما يجب أن يكون، في كمال يوسف الحاج – المؤلّفات الكاملة، المجلّد السابع، بيت الفكر – أَسَسيّة كمال يوسف الحاج، جونيه، لبنان، 2014، ص 644-645

[3]  راجع الياس الحويّك (البطريرك)، “محبّة الوطن”، بكركي في 8 كانون الأوّل 1930، في الأب فيليب السمرانيّ، “الذخائر السنيّة”، مطبعة المرسلين اللبنانيّين، جونيه 1931، ص 798 :”فمَنْ لا يُحِبُّ وطنَه، يرى فيه النوعُ البشريّ مِسْخًا يَكرهُهُ الجميع”.

[4] من مرسوم إعلان بطولة فضائل البطريرك الياس الحويّك، في 5 تمّوز 2019.  

[5]  عبرانيّين 13: 14

[6] راجع  الياس الحويّك، “شرح أعمال الرّسل” (للإكليريكي الياس الحويّك ألّفَهُ إذ كانَ تلميذًا في روميه بين 1867 و1868)، سلسلة “من تراثنا الرّوحيّ” (12)، جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، عبرين 2015.

[7]  المرجع السّابق نفسه، ص 34.

[8]  المرجع السّابق نفسه، ص 22.

[9]  المرجع السّابق نفسه، ص 231.

[10]  راجع الأب ابراهيم حرفوش، “دلائل العناية الصمدانيّة”، مطبعة الكريم، جونيه، 1934، ص 345-346.

[11]  الياس الحويّك (البطريرك)، رسالة إلى بناته راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات في 20 تمّوز 1917، في “أيّتها البنات المباركات“، سلسلة “من تراثنا الرّوحيّ” (2)، جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، عبرين 2009، الجزء الأوّل، ص 57-58.

[12]  الياس الحويّك (البطريرك)، رسالة إلى بناته راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات في 25 تمّوز 1931، في “أيّتها البنات المباركات“، سلسلة “من تراثنا الرّوحيّ” (2)، جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، عبرين 2009، الجزء الأوّل، ص 168.

[13] راجع الأب ابراهيم حرفوش، دلائل العناية الصمدانيّة، ص 294 : “رغم كونِه بطريركًا، بقي بيتُه الوالديّ فقيرًا، كبيتَ لحم. زار يومًا رجلٌ من عيلة الإكليروس بيتَ لاوون بك في حلتا قيامًا بواجب التّعزية بعد وفاة الحويّك، ولمّا عاد منه سأله أحدُ المقرّبين : أين كنتَ اليوم؟ أجاب: كنت في مغارة بيتَ لحم. فدُهش السّائل وعاد يطلب إليه أن يَصدُقَه الخبر فأجاب: إنّ البيت الذي وُلد فيه البطريرك الياس لم يتغيّر فيه شيء عن الحالة التي كان عليها يوم وُلد فيه هذا الرّجل العظيم، فهو ذكّرني بمغارة بيتَ لحم وفقرِ المسيح”.

[14]  إبراهيم عقل، لهجة الحقّ في تهاني غبطة بطريرك الشّرق، مطبعة الأرز، جونيه 1900، ص 74.

[15] الياس الحويّك (البطريرك)، “محبّة الوطن“، في “الذخائر السنيّة”، ص 796.

[16] السيّانيّة الرّوحيّة هي موقفٌ باطنيّ لدى آباءِ الكنيسة والقدّيسين، يقومُ على التّسليم المطلق بين يدي الله حتّى الاستكانة التامّة، تاركين له حريّةَ القرار والتّصرّف في كلّ شيء.

[17] أفسس 2: 19.

[18]  الياس الحويّك (البطريرك)، “محبّة الوطن“، في “الذخائر السنيّة”، ص 796

[19]  الياس الحويّك (البطريرك)، “آفة العصر الحاضر“، بكركي في 8 كانون الأوّل 1924، في الأب فيليب السمرانيّ، “الذخائر السنيّة”، مطبعة المرسلين اللبنانيّين، جونيه 1931، ص 605.

[20]  المرجع السّابق نفسه، ص 605.

[21]  الياس الحويّك (البطريرك)، “حياة الشعوب“، بكركي في 11 كانون الثاني 1922، في الأب فيليب السمرانيّ، “الذخائر السنيّة”، مطبعة المرسلين اللبنانيّين، جونيه 1931، ص 595-596.

[22]  الياس الحويّك (البطريرك)، “آفة العصر الحاضر“، بكركي في 8 كانون الأوّل 1924، في الأب فيليب السمرانيّ، “الذخائر السنيّة”، مطبعة المرسلين اللبنانيّين، جونيه 1931، ص 604.

[23] راجع جورج هارون، تاريخ البطاركة الموارنة، معاناة ستة عشر قرنًا، عمشيت، لبنان، 2009، ص 473-474.

[24]  راجع القسّ أغوسطين البستاني الديراني، الكوكب السيّار، جريدة الأرز، بيروت 1906، ص 15-18.  

[25]  الأب ابراهيم حرفوش، دلائل العناية الصمدانيّة، ص 605- 606

[26]  راجع الياس الحويّك (البطريرك)، “محبّة الوطن“، في “الذخائر السنيّة”، ص 797: “ومذ استخلفنا الله في هذا الكرسيّ البطريركيّ كما استخلَفَ مَنْ سَبَقَنا مِن سلفائنا البطاركة، قد آلينا على نفسِنا القيامَ بعونِه تعالى بما استودعناه من الأمانة في سبيلِ خدمةِ الكنيسة وخدمةِ الوطن. ونعمةٌ من فضلِهِ قَضَتْ بأن أيَّدنا، تمجَّدَ اسمُه، بهدايتِه وإرشادِه، وأحاطنا بلطفِهِ وعنايتِهِ، فلم نُغمض جفنًا على مصاب الوطن بل توخّينا في كل ما قدّرنا الله عمله ما عادَ بأمنِهِ ونجاحِهِ واستقلالِه وإعلاء محلِّهِ ورفع أذى من يُعاديه، بعد أنْ قاسى ما قاساه من المحَنِ والنكبات المؤلمة. وفي صلواتِنا كلَّ يوم نضرعُ إلى الله أنْ يرفعَ عن هذه البلاد الضربات والنكبات ويرمقَها بعينِ عنايتِهِ ويمنَّ عليها بالخيرات ليمجِّدَه الجميع في هذه الدنيا وفي الآخرة”.

[27]  المرجع السّابق نفسه، ص 807.

[28] الياس الحويّك (البطريرك)، “محبّة الكنيسة“، بكركي في 5 كانون الأوّل 1929، في الأب فيليب السمرانيّ، “الذخائر السنيّة”، مطبعة المرسلين اللبنانيّين، جونيه 1931، ص 790.

[29]  الياس الحويّك (البطريرك)، “محبّة الوطن“، في “الذخائر السنيّة”، ص 798.

[30]  المرجع السابق نفسه، ص 798-799.

[31]  البابا فرنسيس، “كُن مسبّحًا“، رسالة عامّة بابويّة حول العناية بالبيت المشترك، روما في 24 أيّار 2015، فقرة 67.

[32]  الياس الحويّك (البطريرك)، “آفة العصر الحاضر“، بكركي في 8 كانون الأوّل 1924، في الأب فيليب السمرانيّ، “الذخائر السنيّة”، مطبعة المرسلين اللبنانيّين، جونيه 1931، ص 605.

[33]  المرجع السابق نفسه، ص 605.

[34]  المرجع السابق نفسه، ص 605.

[35]  البابا فرنسيس، “كُن مسبّحًا“، فقرة 235.

[36]  البابا فرنسيس، “كُن مسبّحًا“، فقرة 236.

[37]  الياس الحويّك (البطريرك)، “محبّة الوطن“، في “الذخائر السنيّة”، ص 805.

[38] راجع البابا فرنسيس، “كُن مسبّحًا“، فقرة 235 : “إنّنا مدعوّون، من خلال العبادة، إلى معانقةِ العالم على صعيدٍ مختلف. فالماءُ، والزيت، والنّار والألوان توخذ بكلّ قواها الرمزيّة وتنضمّ للتسبيح. واليدُ الّتي تبارك هي أداة محبّة الله وانعكاس لقُربِ المسيح الّذي جاءَ ليرافقنا على دربِ الحياة. والماءُ الّذي ينسكبُ على جسدِ الطفل المُعمَّد هو علامة حياة جديدة. إنّنا لا نهرب من العالم ولا ننكر الطبيعة حين نريدُ اللّقاء بالربّ. إنّ هذا يمكن رؤيته خصوصًا في روحانيّة الشرقيّ المسيحيّ: إنّ “الجمال، الّذي هو أحد الألفاظ المفضّلة في الشرق للتعبير عن التناسق الإلهيّ ومثال البشرية المجدَّدة، يتجلّى في كلّ مكان: في أشكال المعبد، في الأصوات، في الألوان، في الأضواء، في الأطياب”. إنّ كلّ كائنات الكون الماديّ، بحسب الخبرة المسيحية، تَجدُ معناها الحقيقيّ في الكلمة المتجسّد، لأنّ ابن الله أخذَ في شَخصِهِ جزءًا من الكون الماديّ، حيث أدخل بذور تحوُّلٍ نهائيّ”.

[39]  الياس الحويّك (البطريرك)، “محبّة الوطن“، في “الذخائر السنيّة”، ص 809.

[40]  المرجع السّابق نفسه، ص 802.

[41]  المجمع البطريركيّ المارونيّ، النصوص والتوصيات، الملفّ الثالث، الكنيسة المارونيّة وعالم اليوم، النصّ الثالث والعشرون: الكنيسة المارونيّة والأرض، بكركي 2006، ص 834.

[42]  الياس الحويّك (البطريرك)، “محبّة الوطن“، في “الذخائر السنيّة”، ص 805.

[43]  المرجع السابق نفسه، ص 803. 

[44]  راجع المرجع السابق نفسه، ص 802-803.

[45]  المرجع السابق نفسه، ص 803:  “لا يجوزُ لكم أنْ تتركوا وطنَكم فريسةً للأجانب، فإنْ فَعلتُم تركتُم الرّبَّ الّذي وهبَكُم إيّاه، وأنتم لَمُلتزِمونَ بهذا الأمر باعتبارِ ذواتِكم، ومُلتزمون بهِ بنوعٍ أخصّ لأجلِ الله. فعليكم أنْ توقِفوا هجماتِ العدوّ وتحفظوا هذا الميراثَ للأمتِكم”.

[46]  المرجع السابق نفسه، ص 804.

[47]  الياس الحويّك، “شرح أعمال الرّسل“، ص 532.

[48] المجمع البطريركيّ المارونيّ، النصوص والتوصيات، الملفّ الثالث، الكنيسة المارونيّة وعالم اليوم، النصّ الثالث والعشرون: الكنيسة المارونيّة والأرض، بكركي 2006، ص 832.

[49]  تثنية الاشتراع 5: 15؛  8: 2؛ إلخ.

[50]  لوقا 22: 19.

[51]  راجع الياس الحويّك (البطريرك)، “محبّة الوطن“، في “الذخائر السنيّة”، ص 802.

[52]  راجع المرجع السابق نفسه، ص 801.

[53]  المرجع السابق نفسه، ص 800.

[54]  المرجع السابق نفسه، ص 802.

[55]  الياس الحويّك (البطريرك)، “السلطة“، بكركي في 3 كانون الأوّل 1905، في الأب فيليب السمرانيّ، “الذخائر السنيّة”، مطبعة المرسلين اللبنانيّين، جونيه 1931، ص 645.

[56]  الياس الحويّك (البطريرك)، رسالة إلى بناته راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات في 20 تمّوز 1917، ص 59.

[57]  الياس الحويّك (البطريرك)، “التوبة“، بكركي في 20 كانون الأوّل 1915، في الأب فيليب السمرانيّ، “الذخائر السنيّة”، مطبعة المرسلين اللبنانيّين، جونيه 1931، ص 461-462.

[58]  الياس الحويّك (البطريرك)، رسالة إلى بناته راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات في 25 تمّوز 1931، في “أيّتها البنات المباركات”، سلسلة “من تراثنا الرّوحيّ” (2)، جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، عبرين 2009، الجزء الأوّل، ص 173.

[59]  المرجع السابق نفسه، ص 173.

[60]  راجع الياس الحويّك (البطريرك)، “محبّة الوطن“، في “الذخائر السنيّة”، ص 834.

Scroll to Top