القاضي الشيخ محمد نقري[1]
من الإطلالات المريمية التي تلاحقت تباعاً قبيل بدايات هذا القرن، تلك الأحداث التي سبقت تكريس “عيد بشارة العذراء مريم عيدًا وطنيًا إسلاميًا ومسيحيًا جامعًا و”معطلاً”. سبق هذا التكريس الوطني إشارات ولطائف هادئة جعلتني في قلب هذا الحدث المريمي الجامع الذي انطلق من بلد الرسالة ليلف بلاد العالم وليجتمع تحت شعاره المسلمون والمسيحيون على حد سواء.
قبل أن استعرض هذه الإشارات، استحضر حياة العذراء مريم فأخفض جناح التواضع وأنحني بهامتي بخشوع ووجل لأتساءل فيما لو كانت هذه اللطائف الإيمانية المريمية التي صاحبتني منذ تسعينيات القرن الماضي، هي استجابة لإطلالات العذراء مريم من أجل تكريس عيد بشارتها ليكون عيداً وطنياً جامعاً للمسلمين والمسيحيين.
في بداية هذه اللطائف التي رافقتني في مسيرتي المريمية حُبّبَ إلي التحدث – في المحاضرات والندوات التي كنت أشارك فيها في فرنسا – عن السيدة مريم عليها السلام لأقول بأن لها مكانة عظيمة في القرآن الكريم، بل وأن لها المكانة الأولى من بين جميع نساء العالم ليس فقط وفق مقياس الأزمنة الدنيوية لحياة البشر وإنما تتجاوزها لتكون في الحياة السرمدية سيدة نساء الجنة.
وكنت كلما تعمقت في الحديث عنها بشغف واستطردت فيما كتبه القرآن عن حياتها وعن بتوليتها، كانت تظهر على أوجه الذين يأتون لسماعي من المسيحيين وبعض المسلمين علامات الدهشة والتعجب. فكنت أتساءل إذا كانت لمريم هذه المكانة العظيمة في الدين الإسلامي وهذه المحبة الصادقة والعميقة في الدين المسيحي فهل من الممكن أن نجتمع مسلمين ومسيحيين على محبتها وأن نستمع الى شهادات وخبرات كل منا؟ وفيما لو كان اجتماعنا يصادف مناسبة تجمعنا رمزيتها، ألا يكون ذلك حدثاً يرضاه الله والرسل والأنبياء والأولياء والقديسين وترتضيه مريم؟ كنت أحس بنسمة إيمانية تحيطني وتشعرني بأننا لو نظرنا الى معتقداتنا الإيمانية سواء الإسلامية أوالمسيحية نظرة من يتواضع لله تمام التواضع والتسليم فإن إشراقات الأنوار المريمية ستقودنا الى محبتها والإجتماع حولها، فمن مثل أمنا مريم القادرة على أن تجمعنا وتلمّنا؟
من هنا ابتدأت ترتسم لدي قناعة بأنه لا يوجد من ناحية العقيدة الإسلامية ما يمنع أن نتشارك مع إخواننا المسيحيين في مناسبة تحمل رمزيتها مريم ونتبادل الأحاديث حول محبتها ومكانتها في ديانتينا السماويتين. فأعلنت ذلك في إحدى الإجتماعات في مدينة ليون الفرنسية أثناء مشاركتي كعضو في إجتماعات فريق البحث الإسلامي المسيحيG.R.I.C الذي أسسه الآباء البيض Les pères blancs، وأتبعته مداخلة في قصر المؤتمرات في فرساي بمشاركة نائب المنطقة وبدعوة من Liban Message، ثمّ في مداخلة في المكتبة الوطنية في المغرب. إبتدأت في ذلك الحين أفكر بتلك الصفحات المضيئة في تاريخنا الإسلامي الحافل بكثير من العلاقات الودّية التي جمعتنا مع المسيحيين :
1. موقف الراهب بحيرة والحبر ورقة بن نوفل ابن عم خديجة زوجة النبي محمداً عندما أخبرا النبي محمد بأنه سيكون نبياً مرسلاً من عند الله، وأن يهوداً سيسعون إلى قتله وأن قومه من مشركي العرب سيطردونه من مكة لأنه يدعو الى عبادة الله الواحد الأحد رب إبراهيم وموسى والمسيح عيسى.
2. موقف ملك الحبشة المسيحي من المسلمين الأوائل عندما التجأ اليه صحابة النبي محمداً فأعطاهم الأمن والأمان والطمأنينة على كافة أراضي مملكته وقال لهم بعد أن أسمعوه نصاً قرآنيا مقتطفاً من سورة مريم بأن ما جاء به الإنجيل وما جاء به القرآن يخرج من مشكاة واحدة.
3. ما قام به عداس المسيحي من نينوى عندما رأى النبي محمدا في مدينة الطائف وهو يضرب ويهان ويرمى بالحجارة من قبل أهلها وقد ظهرت آثار الدم عليه لأنه دعاهم إلى نبذ عبادة الأوثان والعودة الى عبادة الله الواحد فقدم له الماء البارد والعنب. فكان هذا الغلام المسيحي وفياً ومبلسماً لجراح النبي وأقرب إليه من قومه وأقاربه الذين آذوه وقتلوا أتباعه وطردوه من موطنه مكة.
4. عندما استقبل النبي محمداَ وفد البطاركة من مسيحيي نجران في مسجده المسجد النبوي في المدينة ودخلوا بصلبانهم وأبهى حليهم وطلب منهم بعد أن استئذنوه للخروج من المسجد لإقامة قداسهم بأنه ليس عليهم الخروج وأنه باستطاعتهم أن يقيموه داخل مسجده، فكان المسلمون يصلون في جانب والمسيحيون يصلون ويرتلون قداسهم في الجانب الآخر من مسجده: المسجد النبوي الشريف.
5. موقف الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب عندما رفض الصلاة داخل كنيسة القيامة خشية أن يتخذها المسلمون مسجدا من بعده ويقولون : ها هنا قد صلى عمر.
6. مواقف الإمام الأوزاعي إمام العيش المشترك في لبنان المناصرة للوجود المسيحي في لبنان وثباتهم على أرضهم : منها مناصرته لمسيحيي المنيطرة في جبل لبنان ضد الوالي العباسي، في زمن كان فيه قطع الرؤوس يعصف بالعلماء والمعارضين والثائرين من مسلمين ومسيحيين.
7. مشاركة المسلمين والمسيحيين الأوائل نفس أماكن العبادة، أهمها مشاركتهم في دمشق للدخول عبر باب واحد الى المسجد والى الكنيسة لمدة تزيد عن سبعين عاماً، حيث كان المسلمون يصلون بجانب والمسيحيون بالجانب الآخر، إلى أن كثر عدد المسلمين فوافق المسيحيون على استبدال كنيستهم “كنيسة يوحنا المعمدان” بأراض أخرى يملكها المسلمون، فوسع المسلمون مسجدهم فكان المسجد الأموي وشيد المسيحيون كنيستهم فكانت كنيسة توما أو مريم.
هذه الإيجابيات في العلاقات التاريخية الإسلامية المسيحية منحتني الثقة بأنني أسير على نفس الخطى التي سار عليها القدماء، غير أنها ستكون هذه المرة خطوة مريمية جامعة ومؤسسة لعلاقات متينة بين المسلمين والمسيحيين.
في سنة 1998 دعاني مفتي الجمهوررية اللبنانية السابق للعودة الى لبنان فاستجبت لندائه وعيّنت أميناً للسر الخاص لمفتي الجمهورية اللبنانية ومديراً عاماً لدار الفتوى. قبل استجابتي لطلبه كتبت له رسالة مطوّلة ذكرت له فيها بأن عودتي سأكرّسها من أجل العمل لإعطاء صورة حقيقية عن الإسلام انطلاقاً من لبنان، بعد أن استشعرت من وراء متابعتي لوسائل الأعلام الأجنبية بأنها ترتكز على فكرة أن العدو القادم سيكون بعد انهيار الشيوعية هو الإسلام. وكان المحرك الأساسي لي في قبول العودة الى لبنان هو العمل على مشروع مريمي جامع.
في السنين الأولى التي تلت عودتي الى لبنان دعيت إلى مدرسة سيدة الجمهور لإلقاء محاضرة عن الحوار الإسلامي المسيحي، وبعد الإنتهاء منها توجّه إليّ الأستاذ ناجي خوري (أمين عام قدماء خريجي الجامعات الكاثوليكية وأمين عام قدماء مدرسة الجمهور) قائلاً: هل من الممكن أن نجتمع مسلمين ومسيحيين في صلاة مشتركة؟ ( الصلاة هنا بمعنى اللقاء والدعاء وليست بالمعنى الليتورجي للكلمة ) أجبته على الفور: ” يا ناجي ليس لنا إلا مريم فهي الوحيدة التي تلمنا”. هنا ظهر السرور على وجهه وانبسطت أساريره. علمت بعدها بأنه يراوده حلم يتجدد في لقاء يجمع فيه وسط خيمة كبيرة أتباع ديانات مختلفة بحضور رجال دين وهم ينظرون جميعهم الى السماء من خلال فتحة الخيمة.
هنا أيقنت بأن إطلالات مريم ابتدأت تتحقق وتتلاحق. فبعد أن ضمّني ناجي الى اجتماعات اللجنة الروحية لمدرسة الجمهور، عرضت عليهم ما كنت اقترحه في فرنسا من اعتماد مناسبة مريمية ليتشارك بها المسلمون والمسيحيون في احتفالياتها. وكانت فكرتي تتجه أولاً إلى يوم الثامن من شهر كانون الأول أي يوم الاحتفال بمناسبة الحبل بلا دنس، حيث أن هذه العقيدة التي اعتمدتها الكنيسة الكاثوليكية سنة 1854 مذكورة أيضاً بالقرآن الكريم مع بعض التفصيلات اللاهوتية غير المتطابقة، فالقرآن ينظر اليها كاستجابة لدعوة أم مريم بأن يعيذها وابنها من الشيطان الرجيم. غير أن هذه العقيدة لا تتشارك بها الطوائف المسيحية الأخرى غير الكاثوليكية، فتم استبعاد هذه المناسبة، ثم اقترحت عليهم مناسبة البشارة باعتبار أنها متطابقة في النصوص الإسلامية والمسيحية، فتمّت الموافقة عليها بالإجماع. وتوالت الإجتماعات بعدها من أجل وضع خطط عملية لتنفيذ هذا المشروع المريمي الجامع.
كثفّت في هذه الأثناء مداخلاتي في المؤتمرات والندوات والإجتماعات لأروّج لهذه المناسبة، وأدعو الى اعتماد مناسبة البشارة عيداً اسلامياً مسيحياً مشتركاً، ولم أترك أي مناسبة أو أي احتفالية أو أي لقاء في لبنان وفي الخارج دون أن أتحدث عن موضوع الإحتفال المريمي المشترك. الى أن جاء زمن الإحتفال الأول في 25 آذار 2007، فقمنا بتنظيمه في كنيسة مدرسة سيدة الجمهور وتمّ نقله مباشرة من تلفزيون تلي ليميار، وألقيت فيه كلمة عن قصة البشارة في القرآن الكريم جاء فيها:
“يشارك المسلمون إخوانهم المسيحيين في فرحتهم عند استعراض قصة البشارة التي أرسل الله بها سيدنا جبريل إلى سيدتنا مريم ليبشرها بولادة حبيب الله ورسوله المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وهم حين يتذكرون هذه القصة يشعرون بأنهم في صميم هذا الحدث الكبير. فاستحضار هذه القصة لا يعتبر عند المسلمين شعوراً عابراً وموقتاً ينتهي بانتهاء هذه الذكرى، فبشارة ولادة المسيح التي حملها جبريل إلى سيدتنا مريم ورد ذكرها في القرآن الكريم في أكثر من مرة، والمسلمون في تلاوتهم الدائمة لسور القرآن الكريم يؤدّون عبادة يتقرّبون بها إلى الله تعالى.
يحظى المسيح وأمه مريم بمكانة عالية في الإسلام ، إضافة إلى المعتقدات الدينية المتعلّقة بالمسيح وأمه والمنصوص عليها في القرآن الكريم والتي قد يظن غير المسلمين بأنها حصراً هي معتقدات مسيحية. فالقرآن يؤكّد بأنّ سيدتنا مريم حملت بسيدنا المسيح عليه السلام بواسطة الكلمة التي ألقاها عليها جبريل بإرادة الله تعالى، فإن الله إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون. من هذا المنطلق فإن القرآن الكريم نص على تبرئة سيدتنا مريم من الاتهامات التي تناولها بها اليهود حينما ذكروا بأن ولادة المسيح من السيدة مريم كان نتيجة للعلاقة البشرية التي حصلت بين سيدتنا مريم ويوسف النجّار، فولد المسيح نتيجة هذه العلاقة. ويذهب القرآن إلى أبعدَ من هذه التبرئة، فرفع مكانة مريمَ ووصفها بأنها طاهرة وأن الله اصطفاها على نساء العالمين وأنها أفضل نساء العالمين، ورفعتها الأحاديث المروية عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى المراتب ووصفتها بأنها سيدة نساء أهل الجنة”.
وكان هذا الإحتفال ناجحاً جداً ومؤسساً لسلسلة الإحتفاليات التي ما زلنا نطلقها في كل مناسبة، إلا أنه لم يلق آذاناً صاغية لدى مفتي الجمهورية ومن قبل الحركات السلفية في لبنان، فوضعت بالخيار أمام الإستمرار بهذا المنهج المريمي الجامع أو التخلي عن منصبي الرسمي، فقررت في سنة 2009 أن أحذو حذو سيدتنا مريم التي صبرت وصامت على إيذاء قومها لها، فقرّرت التخلّي عن منصبي، ولعمري كم هي سهلة التضحيات التي تصيب الذين يسيرون وفق النهج المريمي إذا قيست بالتضحيات الكبرى التي شهدتها مريم خلال حياتهاالدنيوية.
واستمريت أثناء وبعد ذلك في مداخلاتي المريمية في المعاهد والجامعات والمؤتمرات، وكان أن دعيت الى مؤتمر في جامعة سيدة اللويزة في 19-20 تشرين الأول 2007 لأتحدث عن مريم عند المسلمين السنّة، فقلت في كلمتي التي طبعت مع الكلمات الأخرى في كتاب من منشورات الجامعة :
“إن كانت حواء أمنا في الجنس البشري، فقد شاءت إرادة الله تعالى أن تكون لنا أماً من نوع آخر، أماً حاضنة في العطاء والتضحية والوفاء على مر العصور والدهور، أماً مشفقة وساهرة ومتدبرة، بل أماً جامعة في المحبة بأرقى ما في الكلمة من معاني وأسمى ما فيها من قيم. أماً ليس فقط في حياتنا الدنيوية التي نحياها على هذه الأرض وأنما أيضًا أمًا لنا في الحياة الأخروية الأبدية التي وعدنا الله بها، هذه الأم التي تلمّنا وتجمعنا بحبها وببتولتها وتقرّبها إلى الله تعالى هي مريم العذراء والدة سيدنا المسيح عليهما من الله أتم الصلاة وأتم التسليم.
في البدء كانت البركة والهداية تحفّ والديها فكان الإصطفاء والإختيار والإنتقاء الإلهي لهذه الذرية المتعبدة المتفانية في حب الله تعالى . كما اصطفى الله آدم ونوحاً وإبراهيم من قبل كذلك اصطفى الله آل مريم وهم آل عمران على العالمين، وهو اصطفاء كما يذكر القرآن الكريم في معرض كلامه عن سيدنا ابراهيم عليه السلام ليس في النسب والحسب وإنما في الهداية لكل من آمن واتّقى وسار على درب الأنبياء والصالحين. وهذا الإصطفاء لمريم لم يكن وليد صدفة أو رغبة في الإنتقاء فتكون العفة والطاعة والهداية نتيجة لهذا الإختيار الإلهي وإنما سبق في علم الله تعالى الأزلي من أن البتول مريم ستكون منذ البدء طائعة عابدة في حياتها الدنيوية فكتب الله لها الإصطفاء والإنتقاء من بين نساء العالمين.
قصة الطاهرة المنزهة عن كل دنس ابتدأت من دعوة صادقة توجهت بها أم مريم ليكون ما في بطنها ذكراً وخالصاً لخدمة بيت المقدس، فلم تشأ منذ لحظة حبلها أن يكون هذا الولد قرّة عين لها ولا أن يرتبط بها ولا أن يحظى برعايتها إيثارًا منها ليكون خالصاً لله فنذرته إلى خدمة بيت من أقدس بيوت الله في حينها، والنذر هو مزاد عن عمل التكليف في الأمور التعبديّة دليلاً على الزيادة في التعبّد وكثرة عشق الإنسان لخالقه، فلما وضعت طفلها تبين لها أنه أنثى فتوجّهت إلى الله لتعلمه وهو العليم الخبير فأوحى الله لها بأن الذّكر الذي كانت تريده ليس مثل هذه الأنثى ، لأنه سيكون لهذه الأنثى شأنًا عظيمًا أعظم من شأن الذكور، فهي أرادت ذكراً بمفهومها في الوفاء بالنذر ليكون في خدمة البيت، والله جعلها أنثى ولكنه سيعطيها بهذه الأنثى آية أكبر من خدمة البيت، سيخدم بها العقيدة، لن يخدم بها رقعة تقام فيها الشعائر، بل سيخدم بها العقيدة على مر العصور حتى يحين وقت الدينونة، لأنه سيعطيها فيها آية ليست موجودة في غيرها من نساء العالمين، آية انطلاقة القدرة الإلهية وتحقق كلمة الله بأنه سيلد من هذه الأنثى من روح الله دون أن يمسّها بشر على الإطلاق نبي من أعظم أنبياء الله وعبد لله من أقرب المقربين إليه، سيدنا المسيح عليه أتم الصلاة وأتم التسليم. وبهذا المفهوم يتحقق معنى البشارة لدى المسلمين ومعنى اصطفاء مريم على نساء العالمين الذي أراد الله منه أن يشيع ويشع فضلها ومكانتها بين الناس أجمعين .
تقبل الله المولودة مريم في خدمته وجعلها في كفالة زكريا الذي وضعها في المعبد، وكانت أولى الحقائق التي تعلو فوق الأسباب التي تجلّت على مريم أنّ زكريا كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً. وهذا الرزق لم يكن من نوع الرزق الذي كان يأتيها به فلما سألها عن مصدره أجابته الطفلة مريم ببديهة إيمانية صادقة تعلّمه بها درساً لن ينساه أبداً بأن هذا الرزق هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. فتحرّكت عندها بديهة زكريا الإيمانية ودعا ربّه بأن يهب له ذريّة طيبة فبشرّه الله بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدًا وحصورًا ونبياً من الصالحين. وكان من البديهي أن تكون نتيجة هذا القبول الإلهي لمريم أن توجهت إلى الله راكعة ساجدة متعبدة خلال حياتها فهي مريم الطائعة العابدة البتول الصديقة .
وبينما كانت البتول مريم تكبر وتنشأ على العبادة والتفاني في حب الله تعالى، إذ جاءتها الملائكة ذات يوم وتنادت من كل صوب ومن كل جهة تبشّرها بأنّ الله اصطفاها وطهّرها واصطفاها على نساء العالمين، فكان الإصطفاء الأول ضمن اصطفاء آل عمران وهو الذي كان على عالَم زمانهم، والإصطفاء الثاني كان اجتباءً لها واختيارًا على نساء العالمين في أي زمان ومكان وذلك للمهمة التي لم تقم بها امرأة غيرها في العالم كلّه.
تلك هي مريم البتول سيّدة نساء أهل الجنة بل سيدة هذا الكون بما فيه وبمن فيه، سيّدة ذات حياء منقطع النظير، ذات إيمان وخلق تعلّمنا منها كيف تكون المحبة وكيف يكون الإمتثال والتواضع والخضوع لله الخالق. هذه المكانة العالية التي لم يبلغها أحد من النساء قبلها ولن يبلغها أحد من النساء بعدها ذكرها القرآن الكريم فكان اسم مريم إسماً لسورة بأكملها وكانت مريم هي المرأة الوحيدة التي ذكرها الله تعالى باسمها في القرآن الكريم حتى لا يشاركها أحد في هذا الشرف فتبقى لمريم شرفية الذكر الإسمي وحدها دون أية امرأة أخرى على الإطلاق.
هذه مريم المؤسِّسة والمؤسَّسة والتي سارت على منهجها قوافل المؤمنات الصادقات القانتات العابدات في كل زمن وفي عصر وفي كل حين. منهجها عنوانه: العفة والتعبّد والتسليم لمشيئة الله والإخلاص التام له.
مريم أمنا جميعاً مسلمين ومسيحيين، أمنا الجامعة لنا في المحبة، الحاضنة لنا في العطاء والتضحية والوفاء تستصرخنا نحن أبناء الوطن الواحد أن نستنهض ونتعالى عن أطماعنا الشخصية والفئوية والطائفية ونضع أيدينا بأيدي بعضنا بعض أخوة متحابين وشركاء وطن مؤمنين ومؤتمنين، لبناء لبنان الأمل والرجاء، لبنان النور والرسالة، لبنان الحب والتآخي بين مسلميه ومسيحييه، فهل لبيّنا هذا النداء وهذا الرجاء.
بقيت لي كلمة أخيرة وهي الكلمة التي آليت على نفسي أن أنادي بها في كل جمع وحفل ومؤتمر، وهي أنه إذا كان للعالم احتفال بعيد الأم، وفاء وتقديراً لها، فهل تواصينا بين بعضنا البعض وتنادينا أفراداً وجمعيات وأخويات ومؤسسات وهيئات ومدارس وجامعات من مختلف الأطياف والأديان لرفع شعار واحد ومطلب مشترك بأن يكون لأمنا مريم الجامعة لنا في المحبة ولسيّدتنا وسيّدة لبنان بل وسيدة العالم عيد وطني جامع يحتفل به المسلمون والمسيحيون على حد سواء في هذا الوطن الذي نحبه وننتمي إليه جميعاً”
وأما الدعوة الرسمية الى تكريس عيد البشارة عيدًا وطنيًا جامعًا، فكانت خلال كلمتي في الإحتفال الثاني لهذه المناسبة في مدرسة سيدة الجمهور سنة 2008، إذ جاء فيها:
“أن نحب مريم عليها السلام فلأن مريم أحبّت الله، وأن نحب مريم فلأننا نحن مسلمين ومسيحيين نحب الله، وأن نحب مريم فلأن الله أحبّنا. فلا يدخل حب مريم في قلب مؤمن بالله إلا وكانت المحبة والعبادة الخالصة لله تعالى هما المحرك الأقوى لهذا الحب، ولا يدخل كرهها في قلب إنسان إلا وكان البعد عن الإيمان والدعوة إلى نبذ العفة والطهارة وتغليب الشهوة والأنانية هي الدافع الأساسي لهذا الكره.
أن تحب مريم فلأنك تعترف بأن تمام الإخلاص والحب والتعبّد إلاّ يكون من الإنسان الا باتجاه الخالق فإن وصل المخلوق إلى هذه المرتبة بادله الله تعالى حبا وإخلاصاً أكبر من حبه وإخلاصه له. في حديث قدسي يقول الله فيه مخاطباً الإنسان: “أنا عند ظن عبدى بى وأنا معه إذا ذكرني: فان ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وان ذكرني في ملإِ ذكرته في ملإ خير منهم وإن تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إلى ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتانى يمشى أتيته هرولة.”
ولأنه سبق في علم الله الأزلي أن مريم عليها السلام ستصل إلى مرتبة الكمال في العبودية والحب والتبتل إلى الله فقد اصطفاها الله لتكون في خدمته وسخّرها لتكون في عبادته منذ ولادتها وهو أمر لم يحصل لأي امرأة على الأطلاق من قبلها. واصطفاها الله بعد ذلك بأن أسمعها بشارة الملاك جبريل لها بأنه سيولد من روح الله وبمقتضى كلمته وبدون أي علاقة مع أي بشر ابن لها هو المسيح عليه السلام فكان كلامها مع الملاك جبريل دون أي حاجز أو عائق سابقة لم تحظ بها من قبلها ولا من بعدها أي أمرأة على الإطلاق أيضاً.
وبعد أن اصطفاها الله لهذا الأمر طهرّها بأن برأها من اتهام اليهود لها بأبشع ما تناله المرأة من اتهام وطعن في شرفها وعفّتها، بل وطهّرها أيضاً من كل دنس ومن كل معصية. فكانت هذه الطهارة لصيقة لها منذ ولادتها وكانت إعاذتها من الشيطان لها منذ تلك اللحظة التي ولدت فيها تحميها وتحرسها هي وابنها المسيح عليهما السلام وهذا ما أخبرنا به القرآن الكريم حين ذكر دعاء والدتها حنة لها حين ولادتها: “وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم”. وتصديقا لما قاله النبي محمد عليه الصلاة والسلام : ” كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها عيسى ” .
إن كانت هذه هي مريم أمنا جميعاً في المحبة والتبتّل والإخلاص لله تعالى نشترك نحن المؤمنين مسلمين ومسيحين بمحبتها وطهارتها وصدقها، بل ونشترك بمحبة ابنها المسيح عليه السلام، يسرنا ما نسمعه عنهما وما نقرأه من محبة المؤمنين لهما ويسعدنا ما نلحظه من تكريم وتبجيل لذكرهما ويسيئنا ما تتناوله الأقلام الحاقدة وغير المؤمنة عنهما ويعتصرنا الألم لسماعنا ما يؤذي ذكراهما ويشكّك في طهارتهما وينال من سيرتهما سواء في الكتب أو في الأفلام أو في الأغاني. إن كانت هذه أمنا مريم الجامعة أفلا نشترك جميعاً بإحياء ذكراها وبذكرى بشارة الملاك جبريل لها بأنه سيولد منها ابن هو من روح الله و بمقتضى كلمة الله المتمثّلة في القدرة الإلهية بالكاف والنون “كن”. إن كنا نفتخر دائماً ومهما كانت الصعاب بأن لبنان هو”رسالة” أي رسالة الإسلام والمسيحية مجتمعين إلى العالم أفلا تكون مريم هي من تجمعنا وهي الأم التي تلمنا مسلمين ومسيحيين.
لقد آليت على نفسي منذ سنين عديدة أن أسير على هذا النهج المريمي الجامع مؤمناً بأنه بمثل هذا اللقاء المشترك حول سيدتنا مريم يشع نور لبنان إلى العالم، ويكون مثلاً يحتذى في العيش الواحد الإسلامي المسيحي. ولإن كنت أحرص في كل لقاء وفي كل اجتماع على الدعوة بأن يحتفل المسلمون والمسيحيون بذكرى بشارة الملاك جبريل لسيدتنا مريم، فإني أجدد دعوتي معكم إلى المسؤولين في الدولة وعبر لجنة الحوار الإسلامي المسيحي أن يكون يوم الخامس والعشرين من آذار يوم اللقاء الإسلامي – المسيحي حول سيدتنا مريم عليها السلام مناسبة جامعة لعيد وطني جامع. إذا كان للأم عيد تحتفل به الأسرة وللمعلم عيد تحتفل به المدرسة، وللإستقلال عيد يحتفل به الوطن، وللمسلمين عيد يحتفلون به دون غيرهم وللمسيحيين عيد يحتفلون به وحدهم، أفلا يكون لنا مسلمين ومسيحيين مجتمعين عيد مشترك نحتفل به بمناسبة نجمع عليها كافة، ومن مثل العذراء مريم أمنا جميعاً في المحبة والتضحية والطاعة أفضل وأرقى من يحتفل به لهكذا مناسبة”.
في الأيام التي تلت هذه الإحتفالية وبعد أن نقل أمينا عام اللقاء الإسلامي المسيحي محمد السمّاك وحارس شهاب هذا النداء الى دولة الرئيس فؤاد السنيورة اجتمع مجلس الوزراء وقرّر الموافقة على تكريس عيد البشارة عيداً وطنياً جامعاً. كتب محمد السماك مقالا بعنوان: التقليد السنّي في الحوار جاء فيه:
من أجل ذلك فان تجربتنا المعاصرة تجمع بين الحوار والعلاقات. ولعل أهمّ تجسيد لهذه التجربة يتمثلّ في إعلان عيد البشارة (الخامس والعشرين من آذار-مارس من كل عام) عيداً وطنيًا للبنانيين جميعًا، مسلمين ومسيحيين. فالحوار حول هذا الامر قام على قاعدة ما تتمتع به السيدة مريم من تقدير واحترام في الاسلام ، كما في المسيحية
ولقد نشرتُ دراسة عنوانها ” مريم في القرآن” لإبراز هذه المعالم الإيمانية التي تشكل جزءاً من العقيدة الاسلامية.
وأثناء الاحتفال بذكرى عيد البشارة في كنيسة مدرسة الجمهور في آذار من عام 2008 دعاني الشيخ محمد النقري، وكان أميناً عاماً لدار الفتوى (وهو في الاساس صاحب فكرة الاحتفال المشترك بالعيد)، الى العمل، كأمين عام للجنة الوطنية الاسلامية – المسيحية للحوار، مع السلطات الرسمية من أجل تحويل هذه المناسبة الدينية الى عيد وطني. وإيماناً مني بأهمية الفكرة، وبانعكاساتها الإيجابية على العلاقات المسيحية – الاسلامية، بادرتُ الى الاتصال برئيس الحكومة في ذلك الوقت السيد فؤاد السنيورة الذي أبدى قبولاً وتجاوباً فورياً. وعرض الأمر على مجلس الوزراء حيث لاقى قبولاً عامًا؛ غير ان استقالة حكومته حال دون صدور قرار حكومي بذلك. فأعدت طرح الموضوع على الرئيس سعد الحريري الذي ترأس الحكومة الجديدة؛ وقد بلغ من شدة حماسته للفكرة أنّه تمكن من الحصول على موافقة إجماعية من مجلس الوزراء بعد يومين أو ثلاثة فقط، وصدر القرار الحكومي باعتبار عيد البشارة عيدًا وطنيًا .
لقد تلاقينا مع مبادرة الشيخ محمد النقري على الجمع بين الحوار الديني حول موقع السيدة مريم في الاسلام والمسيحية والعمل على تعزيز العلاقات الوطنية بين المسلمين والمسيحيين. ومن خلال هذا الجمع لم يعد الحوار مجرد نزهة فكرية، ولكنه تحول الى منظومة اجتماعية تتعلّق بأسس مقومات حياتنا اليومية. ذلك أنّ إبراز المشترك القيمي والإيماني في المسيحية والاسلام، يبدّد التصورات الخاطئة، ويصحّح الصور النمطية السلبية ، ويرسي قواعد لعلاقات وطنية ولحياة مشتركة تقوم على الاحترام والثقة والمحبة”.
إن ثقافة مريم المشتركة بين المسلمين والمسيحيين قد أصبحت عالمية بعد أن تنادينا إليها في احتفالياتنا الوطنية الجامعة، وطالبنا بها لتصبح عيدًا وطنيًا جامعًا ليس من شأنه إقامة صلوات مشتركة بل أدعية من أجل صون البلاد ودعم عيشه الوطني، وليس من أهدافها إنشاء دين جديد بل تعريف الآخر بما يحمله دينه من مكانة ومحبة وتقدير لسيدة نساء العالمين. وقد أدخلت هذه الثقافة بفضل ما قمنا به في لبنان من جهود في مناهج مدرسية وجامعية في كثير من البلدان الأجنبية.
إن تكريس الدولة اللبنانية لعيد بشارة العذراء مريم عيداً وطنياً جامعاً هو من إشراقات مريم التي أطلّت بها في القرن الواحد والعشرين على شيخ لبناني مسلم أحبّها أجلَّ وأسمى حب ونادى بها لتكون شعاراً يجمع المسلمين والمسيحيين، وأطلّت على ناجي خوري ذلك المسيحي اللبناني الذي كان يحلم بهذا الجمع الحاشد من المؤمنين فكرّس وقته وجهده كلّه من أجل الإحتفاليات بهذه المناسبة، وأطلت على الجمعيات التي ساندتنا في احتفالياتنا السنوية، وعلى الوزراء وعلى رأسهم الوزير ميشال إدّه وإبراهيم شمس الدين، وعلى رؤساء مجلس الوزراء: نجيب ميقاتي الذي تحمل نفقات الإحتفاليات لسنين عديدة وفؤاد السنيورة والشيخ سعد الحريري، وعلى رؤساء الجمهوريات وعلى رأسهم فخامة الرئيس ميشال عون الذي دعانا في آذار الماضي 2018 للاحتفال بهذه المناسبة في قصره الجمهوري، والى الأمراء والمسؤولين السياسيين وعلى رأسهم الأمير الحسن بن طلال.
إشراقات مريم انطلقت من لبنان بلد الرسالة كما ناداه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني وسينتشر نورها في بلاد العالم لتكون سيدة الأرض كما هي سيدة البحار.
[1] أمين عام اللقاء الإسلامي المسيحي حول مريم.