الام أنياس مريم للصليب
مقدمة
ان السنة الحالية مخصصة من قبل الكرسي الرسولي لتعميق مفهوم الايمان. هدف هذه المقالة هو تحديد الايمان في حياتنا الشخصية ومن ثم تناول الخرافات التي تعيق تألق الايمان. لأنه، كما يقول البابا بولس السادس مذكرا بكلمات القديس أوغسطينوس “لا ينمو الايمان إلا بقدر ما يؤمن المؤمن”[1]. فكيف نقتل الايمان وكيف نقوّيه ؟
ماهية الايمان
يقدّم لنا الكتاب المقدّس أروع سرد لحب الله للإنسان. نلمس فيه الشوق الالهي لخلاص البشر. منذ البدء يتوق إلهنا إلى بت عهد أمانة معنا طوّره بعد سقوط آدم وأعطى فيه علامات لتثبيته: بت عهد مع نوح ونصب قوس قزح كعلامة من نوح إلى ابراهيم وصولا إلى داوود وسليمان الملك وكان الانبياء على مدى العصور يتنبّؤون بعهد جديد يكتب فيه الله شريعته في قلوبنا فنعرفه من الداخل ونخلص له فيكون لنا إلها ونكون له بنين. تحقّق هذا العهد بتجسّد الكلمة وايماننا به: إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ مِنَ اللَّهِ.(يو1،11-12).
والله كشف عن ذاته للبشر من آدم إلى نوح إلى ابراهيم إلى الاسباط والملوك والانبياء والرسل والقديسين حسب تدبير خلاصي يؤسس على عهد محبة بين الله وشعبه، يكون الله بموجبه إلهنا ونحن نكون له أبناء وورثة. وطوال تاريخ الخلاص بانت محبة الله الفائقة ورحمته للإنسان بأنه أرسل إبنه الوحيد ليس للإدانة بل للخلاص ولنيل الحياة الابدية. والحياة الابدية هي أن نؤمن بيسوع المسيح وبالآب الذي أرسله.
وللإيمان بالله أهمّية مفصلية تجعلنا شركاء له لا غنى عنا. فأي عهد، أي اتفاق، أي زواج لا يبرم إلا برضى طرفين على الأقل. وأي عهد يتضمّن ثلاثة مواد: مضمون المتفق عليه، الفرقاء المتفقين على المضمون، الشهود للتثبيت.
في قراءتنا للكتاب المقدّس نلاحظ فيه أنه عندما يبرم الله عهدا بينه وبين الانسان يكون ذلك غالبا في اطار خطر يحدق بالانسان من جرّاء الخطيئة. و لكل عهد مضمون خلاصي يتكرّس بعطية إلهية، كما ويوفّر الله علامة توضح ماهية العهد ومفاعيله.
فلنَرَ كيف أبرم الله عهدا مع نوح وابراهيم وموسى.
1- نوح: قرر الله إبادة البشرية نظرا للشر الذي انحرفت إليه (تك 6،1-3)، وإذ رأى أنّ نوحا بار خلّصه ونسله من الطوفان وبتّ عهدا معه[2] جعله فجرا لنظام كوني جديد. في العهد مع نوح يعد الله أنه لن يكون بعد طوفان على الارض ويعطي علامة قوس قزح كتثبيت لوعده ويسمح للإنسان أن يأكل من لحم الحيوان[3].
2- ابراهيم: أراه الله عبودية نسله بعد مماته على مدى 400 سنة وبت معه عهدا كانت العلامة له الحيوانات المنقسمة قسمين وهي ترمز إلى الشراكة الخلاصية بين الله وشعبه؛ وأعطى الله لإبراهيم أرض الكنعانيين ملكا أبديا، وكعلامة للعهد أوصى بختان كل ذكر في بيت ابراهيم وغيّر اسم ابرام إلى ابراهيم أي “أب لجمع غفير” واسم ساراي امرأته الى سارة أي “أميرة” ووعدهما بإبن يكون وارث البركة وفاتح رحم لنسل لا يحصى[4].
3- موسى: نزل الله ليرى بؤس شعبه (خروج 3،7) وطلب من موسى اجتراح العلامات العجائبية أمام لفرعون وقاد الله شعبه لتحريره من أرض العبودية وأغرق فرعون وجيشه في البحر الاحمر وخلّص شعبه منه وأبرم عهدا مع الشعب عبر موسى الذي قدّم ذبيحة على مذبح مكوّن من اثني عشر حجر، بعدد أسباط إسرائيل، وقسّم دم الذبيحة قسمين، سكب قسما على المذبح، وبعد قراءة كتاب العهد رشّ موسى دم الذبيحة على الشعب ليتمّ العهد بالرضى المتبادل[5] وصعد إلى الجبل ومكث أربعين يوما وأربعين ليلة في حضرة الله الذي نقش وصاياه على لوحين من حجر كعلامة هذا العهد.
والعهود الكتابية المتتالية هي صورة مسبقة وظل للعهد الجديد الذي بتّه الربّ يسوع المسيح بسفك دمه على الصليب حيث خلّصنا من خطايانا، هو حمل الله الحامل خطايا العالم.
هذا العهد يجعل منا أولاد الله بالتبني وورثة شرعيّين.
إن العهد بين الله والانسان هو أساس الايمان الذي هو، كما يقول القديس بولس، مضمون مَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى. وبعد سقطة آدم كلّم الله الآباء بشتّى الطرق وبعدهم كلمنا في الأيّام الأخيرة بأبنه الذي جعله وارثا لكل شيء (راجع عب 11،1).
أما القديس يوحنا الصليب فيعلّم أن الايمان اختبار أكيد وغامض في آن واحد، يُسكب في الانسان ويجعله يؤمن بالحقائق التي كشف الله عنها والتي تفوق أنواره الطبيعية وطاقة استيعاب عقله. لذا لا تستطيع أية وسيلة حسيّة أم أدبية أن تكون وسيلة للوصول إلى الله؛ ويؤكد أنه علينا أن نسمو بالايمان فوق الإنعامات الروحية بالذات التي تأتي من الله لأن الايمان هو الوسيلة المثلى للتواصل وللإتحاد بالله، به حصل الآباء على كل شيء وبه نستطيع نحن أيضا أن نحصل على كلّ شيء بأسم الرب يسوع.
فما هو الهلع الذي يطرأ على المسيحي كي ينسى محورية الايمان في حياته فيصدّق الخرافات ويذهب وراءها؟ اليوم ننسى الوصيتين الأوليين اللتين تطلبان منا الايمان بالله وتقديس اسمه. فنقع بخطيئة عبادة الاوثان التي تجلب على نفسنا الويلات وتبعدنا من كنف العناية الإلهية وتأسرنا وتعيدنا إلى أيام العبودية. لقد وردت أحاديث تعبّر عن الوثنية الجديدة في عصرنا أثرّت في مسلكية إنسان اليوم. كما وأننا نعرف الكثير من الخرافات دخلت على ذهنية شعبنا توارثتها منذ أجيال كان لها الوقع في مسلكيته الايمانية، فلنَرَ ما هي؟
الخرافات في التديّن الشعبي والباطنية عند مسيحيي لبنان
إن مسيحيي لبنان والشرق يتبنون منذ زمن سحيق ممارسات تنتمي إلى الخرافة ظانّين انها تعود للدين، أو يتعاطون الأمور الباطنية وكأنها لا تتعارض مع الايمان المسيحي. نتكلم في هذا الملف على الخرافة في التديّن الشعبي وعن الباطنية فيه، لأن هذه الممارسات مربوطة بعضها ببعض إلى حد كبير في الذهن الشعبي.
في خماسيته الانطاكية [6] يدرج الخوري يواكيم مبارك سلسلة مقالات ظهرت في مجلـّة “أنثروبوس” ما بين 1909 و1910 للمطران بشارة الشمالي الذي يرجع بنفسه إلى “العملين الضخمين للمونسنيور ميشال فغالي…وعمل لحد خاطر”. يؤكد المطران شمالي أن :”لبنان كان الأرض الكلاسيكية للتقاليد، حيث تتوارث من جيل إلى جيل آداب وعادات الاجداد ويحافظ عليها بدقة مفعمة بالتديّن.”
أما كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية فيؤكد على حقيقة الشعائر الدينية الليتورجية وغيرها عن التديّن الشعبي مفصلاً تعاليمه كالآتي:
“خارج نطاق ليترجيا الأسرار وأشباه الأسرار، لا بد للكرازة من أن تحسب حسابًا لبعض الأنماط التقوية لدى المؤمنين والممارسات التعبديّة الشعبية. فالحسّ الديني، لدى الشعب المسيحي، قد انعكس دومًا في أشكال متنوّعة من التقوى تحيط بالحياة الأسرارية في الكنيسة. من ذلك، مثلاً، تكريم الذخائر، وزيارة المعابد، والحج. والتطواف ودرب الصليب، والرقص الديني، وصلاة الوردية، والانواط، الخ”[7].
” هذه التعابير التقوية تنضاف إلى الحياة الليترجية في الكنيسة ولا تقوم مقامها:” لا بد لها من تنظيم يماشي الزمن الطقسي، وينسجم مع الليترجيا، ويصدر عنها بوجه من الوجوه، ويقود إليها، لأن الليترجيا بطبيعتها أسمى وأرفع منها”[8].
” لابد من حسّ رعائي يدعم ويساند التقوى الشعبية، ولا بدّ، إذا اقتضت الحاجة، من العمل على تطهير وتثقيف الحسّ الديني الذي يغذّي هذه العبادات وعلى تنمية ومعرفة سرّ المسيح. ولكن ممارستها تظل خاضعة لرعاية الاساقفة ورأيهم وللقواعد العامة المرعيّة في الكنيسة”[9]
أما “التعميم الاداري حول التقوى الشعبية والليتورجيا”، الصادر عن مجمع العبادة الالهية و انتظام الاسرار، في الفاتيكان سنة 2002، فيحدّد ما يلي في الفقرة التاسعة:
“إن كلمة “تديّن شعبي” تعني شتى المظاهر الشعائرية ذي الطابع الخاص او الجماعي ضمن أطر الايمان المسيحي التي يُعبّر عنها غالبا ليس من خلال مكيال الليتورجيا المقدسة بل عبر أشكال خصوصية منبثقة من الثقافة الخاصة بالجنية او بالعرقية”
ويضيف مستشهدا بفكر اثنين من الباباوات:
“يعتبر البابا يوحنا بولس الثاني التديّن الشعبي بمثابة كنز حقيقي لشعب الله. وأما البابا بولس السادس ي إرشاده الرسولي حول التبشير (عدد 48) فيكتب:”إن التعبد الشعبي يكشف ظمأ إلى الله يستطيع فقط البسطاء والفقراء معرفته، يحث المرء إلى السخاء والتضحية حتى البطولة عندما يروم إلى إعلان الايمان. يتضمن إدراكا سديدا بصفات الله العميقة مثل الأبوة، العناية، الحضور المحب والمستديم. يولد مواقفا داخلية نادرا ما توجد بنفس الحرارة في إطار آخر مثل الصبر ومفهوم الصليب في الحياة اليومية، التخلي، الانفتاح على الآخرين، التقوى.”
من المفيد التوقف عند مقدمة التعميم الإداري المذكور لأنه يعبّر بشمولية عن موضوع دراستنا:
“بغية ضمان نمو وترقية الليتورجيا التي هي “القمة حيث يتـّجه نشاط الكنيسة والنبع من حيث تتدفق كل نعمة” يسهر هذا المجمع على أن لا تـُهمل الاشكال الأخرى لتقوى الشعب المسيحي التي تثمر في الكنيسة اتحادا بين حياة المؤمنين وحياة المسيح.
“تختلف حالة التعبّدات الشعبية المسيحية في الفترة التي عقبت المجمع الفاتيكاني الثاني مع اختلاف البلدان والتقاليد المحلية. نلاحظ مواقف متباينة يجدر ذكر منها: التخلي الواضح والمتسرّع عن أشكال التقوى المتوارثة من الماضي مما يولـّد فراغا من المستحيل التعويض عنه، التعلق بأشكال ناقصة او مغلوطة من التقوى تبعّد المؤمنين من الوحي الكتابي العريق وتـُنافس التدبير الاسراري (économie sacramentelle)، انتقادات غير مبرّرة تجاه تقوى الشعب الوضيع بأسم “نقاوة” ايمان مزعومة، ضرورة المحافظة على غنى التقوى الشعبية التي هي تعبير شعور ديني عميق وناضج في مكان وفي زمان معيّنين، الحاجة إلى تطهير الالتباسات وضرورة الوقاية من أخطار التوفيقية (syncrétisme)، الحيوية المتجدّدة للتديّن الشعبي التي تعبّر عن ممانعة وردة فعل تجاه ثمّة ثقافة التكنولوجيا الواقعية والنفعية الاقتصادية، عدم اكتراث متنامٍ تجاه التديّن الشعبي الناجم عن ايديولوجيات الدنيوية وعن اقتحام البدع التي تعاديه.
“وهذه المسألة تتطلب انتباها مستمرا من قبل الاساقفة والكنهة والشمامسة وأيضا المؤمنين الملتزمين في الحياة الرعوية مع اهتمام الباحثين الذين يرومون ترسيخ الحياة الليتورجية عند المؤمنين كما نمو التقوى الشعبية.
“إن المجمع الفاتيكاني الثاني عبـّر عن التواصل الموجود بين الليتورجيا والتمارين التقوية في الوثيقة المجمعية حول الليتورجيا المقدّسة. وقد تناول موضوع التقوى الشعبية بشمولية أكبر الكرسي الرسولي ومجلس الاساقفة وقد قدّمها يوحنا بولس الثاني بنفسه في رسالته الرسولية Vicesimus Quintus Annus: في إطار التجدّد الليتورجي قائلا: “لا يجب تجاهل أو التعامل بعدم الاكتراث او الفوقية مع التقوى الشعبية لأنها غنية بالقيم وبنفسها تعبّر عن خلفية الانسان المتدينة أمام الله ولكنها بحاجة أن تـُبشّر بتواصل حتى الايمان يُعلَن عبر فعل متعقـّل وأصيل باستطراد. فإن “التمارين التقوية” للشعب المسيحي كما غيرها من أشكال التعبّد مرحب بها وموصى بها على الاّ تحلّ مكان الإحتفالات الليتورجية ولا تمتزج بها. فإن رعوية ليتورجية صحيحة تعرف كيف تتـّكل على غنى التقوى الشعبية فتطهرها وتوجهها نحو الليتورجيا كقربان الشعوب.” [10]
وإذا أردنا الارتقاء إلى محاور الفكر العالمية يجدر بنا ذكر مسوّدة دراسة أجرتها أبرشية ميلانو حول “التعبّدات الشعبية والتمييز الرعوي واقتراحات لتربية صحيحة على الايمان”[11] حيث نقرأ: “لا نستطيع النفي ان التدين الشعبي يكشف ضروريات ومشكلات معاصرة مثل التعبير عن الثقافة الخاصة في إطار ايماني، الرغبة في ليتورجيا متجددة وحيوية، في سلوكية أكثر ليونة، البحث عن أوقات شراكة شعبية في جو من البهجة والعيد، التضامن وفك العزلة في عصر تغيّرت فيه العادات الريفية وتقلـّصت فرص التعاطي مع الآخرين. كما لا نستطيع النفي أن التدين الشعبي يقف كتحد عظيم أمام الدهرية المنتشرة بشدة (sécularisation)، أمام الفكر ما بعد الحديث الضعيف (pensée faible post moderne)، أمام التفسيرالملحد (الماركسي مثلا) أو السيكولوجي (الفرويدي مثلا) للدين، ولكن هذا التديّن يمثل تحدّيًا ايضا لللاهوت المدرسي، للرعائيات الرسمية وحتى للبنيان الكنسي الكلاسيكي.”
نكتفي بما سبق لنقول إن التديّن الشعبي هو في صلب اهتمام الكنيسة الرعوي بل يشكل قطبًا من اللاهوت الرعوي. “والكنيسة التي هي أم ومعلمة تقوم بذلك من خلال الاسرار والتعليم الصحيح ولكنها ايضا خادمة فتنزل إلى حياة أبنائها اليومية لتتعرّف معرفة دقيقة وصحيحة على واقعهم أولا، فتحلل أسس ومنهجية عملها ثانيا. وهذه الخدمة هي رعوية بامتياز ويعبر عنها وينظم أطرها اللاهوت الرعوي، والمصطلح حديث المنشأ. فالكنيسة بحاجة الى ردم الهوّة الموجودة بين ما تقوله وما يعمله الشعب”.[12]
فالدكتور منير شمعون يقول في أطروحته حول علم النفس :”كان من المستحيل عمليا إيجاد موارنة محليين لا يؤمنون بالخرافات”[13].
في جلسته السنوية العادية في بكركي من الاثنين 25 تشرين الثاني إلى الجمعة 6 كانون الاول 1996، غداة السنودس من أجل لبنان لحظ مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان تكاثر الخرافات وممارسات الشعوذ.ة
ويحذّر كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية من ناحيته المؤمنين من هذه الممارسات:
- الخرافات
“إن الخرافة هي انحراف في الحس الديني والممارسات التي يفرضها ويمكن ان تطال العبادة التي نؤديها للإله الحق، مثلا عندما نعطي أهمية شبه سحرية لممارسات معينة رغم انها شرعية وضرورية. فنحن نقع في الخرافة عندما نعلّق الفاعلية على الوجه المادي في الصلاة أو في الصلوات الأسرارية، دون الاستعدادات الداخلية التي تقتضيها”[14]
- الباطنية (العرافة والسحر)
” يجب نبذ جميع أشكال العرافة: اللجؤ الى الشيطان أو الأبالسة ، اسثحضار الأموات أو الممارسات الأخرى المفترض خطأ أنها “تكشف” عن المستقبل. استشارة مستطلعي الأبراج والمنجّمين و قارئي الكف، و شارحي الفأل أو الشؤم أو الحظ ، و ظاهرات الرائين واللجؤ الى الوسطاء ، أمورتخبىء ارادة التسلط على الوقت ، وعلى التاريخ وأخيرا على البشر ، وفي الوقت عينه الرغبة في استرضاء القوى الخفية.إنها على تناقض مع ما لله وحده علينا من واجب الاكرام والاحترام الممزوج بالخشية المُحِبَة”.
” جميع ممارسات السحر أو العرافة التي يزعمون بها ترويض القوى الخفية لجعلها في خدمة الانسان ، والحصول على سلطة فائقة الطبيعة على القريب – حتى وإن قصد بها توفير الصحة له –إنما هي مخالفة مخالفة جسيمة لفضيلة الدين. ويكون الحكم أقسى على هذه الممارسات عندما تصحبها نيّة إيذاء الآخرين ، أو تلجأ الى مداخلات شيطانية. وحمل التعاويذ هو أيضا ملام. ومناجاة الأرواح تنطوي مرارًا على ممارسات عرافة أو سحر. ولذا تنبه الكنيسة المؤمنين الى تجنّبها. واللجوء الى أنواع الطب المدعوة تقليدية لا يسوّغ استدعاء القوى الشريرة ولا استثمار ما عند الآخرين من سرعة تصديق”[15].
فالمسيحي يتهافت من جهة لحضور الظهورات والظواهر الخارقة “المسيحية” و يمارس من جهة أخرى بوتيرة عالية التعبّدات المجبولة بالخرافة ويستعمل التعاويذ والخرافات المنزلية التي سوف نأتي على ذكرها، ويتردد عند الحاجة على المشعوذ او “الشيخ”. كل هذه المواقف تلحق الضرر الجسيم بحياة الايمان التي بموجبها “يحيا البار”.
وتقدّر ميزانية البلاد العربية وحدها في ممارسة السحر والباطنية بخمسة مليارات دولار. والخرافة والتصديق السريع للخوارق يمّيزان المسيحي المشرقي. ومن المعروف أن الكثير من السياسيين حتى من الصف الاول يتعامل مع فاتح او عراف يسمى “المستشار الروحي”. أما الطبقة الوسطى والفقيرة فهي أيضا تدفع جزية العرافة والسحر الأسود والسحر المضاد، معتقدة أنها بهذه الطرق سوف تحسّن قدرها.
أولاً: التعبدات الزائفة
يتزايد التعاطي مع ممارسات خرافية تضفي عليها عامية الشعب صفة “الروحية”. يلجاء إليها الكثير من المؤمنين بحثًا عن حل لمشكلاتهم أو تحقيق لرغباتهم.
لهذه الممارسات أوجه متعددة:
– في التعبّد المفرط والانصياع الأعمى للإيحاءات الخاصة حتى قبل أن تصدر الكنيسة الرأي المؤيد النهائي فيها (مثل ظاهرة الرائين وظهورات العذراء غير المعترف بها..).
– في التشبث بالايحاءات الخاصة بعد أن تكون قد أصدرت الكنيسة رفضها النهائي لها.
– في الهرع إلى مكان يزعم فيه حدوث خارقة قبل التأكد من صحتها: مثل ظاهرة الأيقونات والصور التي ترشح زيتًا اوالصور التي يتحرك فيها محياها الخ…
– وهنالك من يخترع تعبدّات خاصة وايحاءات لا تمت إلى الحقيقة بِصِلة مثل الايحاءات المزعومة للأم أوجينيا أليصابات رافازيو التي توّزع في كتيّب تقوي تحت أسم :”الاب يخاطب أبناءه” حيث نقرأ عن رؤية مزعومة اختبرتها الام رافازيو. وقد ذكر مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان ما نشره مجمع الايمان في الفاتيكان لإعتبار هذا التعبّد معاكس للإيمان المسيحي.
– في الاهمية الكبيرة المعطاة للتساعيّات كمنفذ لنيل ما يرغبه المؤمن من الخيرات وضمانة خرافية لنيل الحماية من العلى وتجنّب المصاعب. فكم من سيدة تعترف انها تكثّر التساعيّات لتحظى على رضى قدّيس معيّن وأنها كلما سمعت عن تساعية جديدة لا يطاوعها قلبها على إهمالها وإلا غضب منها هذا القديس ! يقول الدكتور منير شمعون بهذا الشأن:
“ان طقسية هذه الممارسات والاطار العقابي التي تضع فيه ممارسها، تحملنا على أن نعدُّها ضمن مجموعة الخرافات الدينية” [16].
– بعض المعابد التي تنسب إليها فعالية خرافية ناتجة عن ممارسة وثنية:
منها معبد مار جريوس الباطية. يتكلم عليه المطران بشارة الشمالي كما أورده الخوري يواكيم مبارك في ” خماسيته المارونية”، إذ يعتبره كعادة تقليدية راسخة في ذاكرة اللبنانيين. نورد ما يقوله حرفيًا الخوري يواكيم مبارك في خماسيته ومفاده: الخبصة مرض غريب يضرب الطفل في سريره ويضنيه ويسبب موته عاجلا أم آجلا…كل دواء ضد الخبصة عديم الفاعلية، ولكن هنالك وسيلتان فاعلتان: الاولى تتمثل بأن عذارى تحمل الطفل إلى مجرى ماء حتى “يفقش” عليه الموج والثاني هو أن يؤخذ إلى معبد مار جريوس الباطية[17].
هذه الخرافة ما زالت تمارس في هذا المعبد حتى يومنا، ويكتمل الطقس الوثني برمي “إثر” من الطفل في المياه. وهذا الاثر كناية عن قطعة من الملابس الداخلية. وقد تجد راهبات ينصحن الاهل بممارسة هذا الطقس الوثني دون تمييز. وقد أصدر المطران غي بولس نجيم تعميما رعويا يشرح فحوى هذه الممارسة.
– في الفعالية الوهمية المنسوبة للأحجبة او “كتب”. وقد أتى على ذكرها المطران بشارة الشمالي في مقالته الآنف ذكرها. والاحجبة هي طلاسم سحرية استبدلت فيها الصيغة السحرية بصلاة مسيحية.
إن حمل الاحجبة من العادات الخرافية المتوارثة في لبنان والمشرق. غاية الحجاب حماية حامله. نتساءل هل دخل إلى الكنيسة استعمال الأحجبة؟ وهل يمكن لحجاب استعمل باسم المسيح وشفاعة القديسين أن “يحمي” حامله، حتى لو لم يكن في حال النعمة؟ وهل ثمّة فعالية للصلاة المكتوبة على ورق والمحمولة عفويا، أم إن فعالية الصلاة تأتي من القلب الذي يلفظها وهو مفعم بالايمان ؟
– في الفعالية الوهمية المنسوبة لصلوات “خرافية” هي خليط من صيغ مسيحية وتعاويذ وثنية (نورد على سبيل المثال صلاة القديس كبريانوس وعيّنة عن صلوات تتداول بين المؤمنين).
هنا لا بد من لفت النظر إلى أن كثيرًا من الصلوات المتداولة بين المؤمنين كأحجبة أو كتب لها فعالية قصوى، والمّوزعة أحيانا في الاديرة والمعابد من كهنة أو من رهبان و راهبات وهي ليست إلا تعاويذ تستعمل المقدسات للحصول على “مساعدة” لا تكون إلا غيبية أو خرافية. ما نستلخصه من النص. وكمثل بليغ نؤتي بكتاب أو حجاب القديس كبريانس. هذه الصلاة التقسيمية معروفة في الغرب وقد وردت في كتاب معمودية المسيحيين. الملفت أن النص المتداول في الشرق يختلف كل الاختلاف عن النص الاصلي إذ يخلط بين العبارات اللاهوتية المسيحية والعبارات الوثنية. نورده كملحق لمن يريد مقارنة النصين ونكتفي بنقل بعض العبارات الوثنية او الخرافية.
… واجعل ان يكون لجيئون محروسا مخزيا هو وكل قواته ومطرود من امام عبد الله هذا (فلان )، اصلح يا رب تدبيره او طرقه وسبله وجسده وجميع مفاصله وقوته وحركاته كلها بقوة الاله العظيم وروح القدس والستة والستين ملاكا الذين نزلوا على ابي فانوس …. ولا يستطيع شيء من الجنس البشري ان يثبت بين يدي حامل كتابي هذا (فلان ) بشيء من الاشياء لا في الليل ولا في النهار ويكون لجيئون محروما وهو وكل اعوانه وجنده بحرم مار بطرس وبحرم كل الرسل الاطهار بصلاوات العلويين، بتضرع السفليين بكمال القديسين بكمال الغرباء بكمال ابينا ادم بقربان هابيل بحسد شيت بكمال انوس بتواضع مهالمائيل بقداسة نوح بمولود سيم بأمانة ابراهيم بتقرب اسحق الذي فداه من الذبح بكهنوت ملكيصاداق بنبوة يعقوب بكمال يوسف بمحبة بنيامين باتضاع موسى بجبروت يشوع بن نون بكهنوت داود بتهليل اليشع ببشارة اشعيا بنبوة ارميا بقيامة زخريا بنبوة الانبياء وبعطف الذين لا ينامون الليل. بعمق من الاعماق بصوت الرعد بانسحاب السحاب من السماء بصفوف الملائكة … إن كان في باب أو في رصاص ….الخ… ينحل ذلك جميعه وكل ما يصنعه الناس الاشرار بحق ابراهيم واسحق ويعقوب بالملك العظيم ينحل ذلك جميعه عنه وعن من في منزله ويفتح الله عليه الرحمة ويعمل له المحبة في قلوب بني آدم وبنات حواء بحق شعاع الشمس وضوء القمر ونور الكواكب بحق الاربعة الانجيلين متى ومرقس ولوقا ويوحنا بشفاعة ذات الشفاعة سيدتنا والدة الاله مريم العذراء والرسل القديسين الاثنى عشر وجميع الشهداء ورئيس الشمامسة استفانوس الخ….
ونورد أيضا نموذجا من صلوات توزعها “روحانية” باسم جميلة في مناطق مسيحية:
صلاة للقديس جاورجيوس
أقسمت عليك أيها الشهيد العظيم القديس جاورجيوس، بحق أدونا الصباؤت وبحق نورك وعرشك الالهي، بحق الثالوث الاقدس وأسماء أقانيمك الالهية الثلاثة أن تأخذني بيدك وترفعني على ظهر جوادك وتكون لي عوني وشفيعي ورفيق دربي. صلي إلى الله من أجل عبيدك…وجميع أفراد هذه العائلة كي يزيل عنهم كل ألالام والصعوبات. أنهض با رب كل هذه العائلة من التعاسة إلى السعادة ألابدية لكي تعيش بأمان وأستقرار بحق الصليب المكرّم أبعد عنهم كل روح نجسة بشفاعة سيدتنا أم النور وجميع القدّيسين آمين.( ثم نضع البخور ونقطع بشكل صليب وثم نضع اشارة الصليب ونطلب طلبتنا وثم نقول أبانا والسلام والمجد وندور حول البخور ثلاث مرّات ثم نطلب السيدة العذراء أم النور العجائبية ونتلو صلاتها.)
- ويتداول المؤمنون بكم هائل من هذه الصلوات التعويذية.
- كما ان الكثير من التعبدات بحاجة إلى مراقبة وإعادة صياغة إذ الكثير منها ما زال وليد المجمع الفاتيكاني الاول وقد بالت بعض الاعتقادات حول الغفرانات والخوارق. وهنا نورد مثلين:
- الصلوات الخمس عشرة الملهمة من سيدنا يسوع المسيح للقديسة بريجيتيا(وهذه الوعود موجودة نفسها مع الصلوات “المعطاة من السيد المسيح إلى القديسة ماتيلدا)
“اعلم أيّها المؤمن ان هذه الصلوات الخمس عشرة قد ألهمها ربنا يسوع المسيح للقديسة بريجيتيا ، بينما كانت تخاطبه ملازمة السجود أمام صورة صليبه المقدس في كنيسة مار بطرس بمدينة روما. وكانت بعد أن تناولت القربان المقدس تصلي بحرارة، تائقة لتعلم كم ضربة احتمل فادينا وقت آلامه الخلاصية. فظهر لها مخلصنا يسوع المسيح وخاطبها من صورة صليبه قائلا: ” اعلمي يا ابنتي اني احتملت وقت آلامي في جسدي خمس آلاف واربع مائة واربع وثمانين ضربة. وان شئت أن تكرّمي هذه الجراحات ببعض العبادات ، اتلي كل يوم خمس عشرة ابانا الذي في السماوات ، وخمس عشرة السلام عليك يا مريم ، مع الصلوات التالية (التي علـّمها اياها بنفسه) طيلة سنة كاملة. وعندما تكون السنة قد انقضت، تكونين أنت قد كرّمت جميع جراحاتي واحدة فواحدة “.
وأضاف بعدئذ بقوله :
” ان كل من صلّى هذه الطلبات مدة سنة كاملة:
أولا : انه يخلّص خمسة عشر نفسا من ذريته ويعتقهم من عقوبات المطهر. ثانيا: خمس عشر شخصا من ذريته يحفظون ويثبتون في نعمة الله تعالى. ثالثا : يرجع من ذريته خمس عشر خاطئا الى التوبة. رابعا : كل من صلى هذه الطلبات نال الدرجات الأولى في الكمال. خامسا : قبل موته بخمسة عشر يوما امنحه جسدي الثمين قوتا، حتى بفضله، يخلص من الجوع الأبدي، وأمنحه ليشرب دمي الثمين حتى لا يعطش الى الأبد. سادسا: وقبل مماته بخمسة عشر يوما يندم بمرارة على جميع ذنوبه وتصبح له معرفة كاملة بها. سابعا: أمامه أضع علامة صليبي الكلّي الظفر لنصرته وللدفاع عنه ضدّ وثبات أعدائه. ثامنا : قبل موته، آتي مع والدتي المحبوبة جدا. تاسعا: وأتقبل ببركة روحه وأمضي بها الى السعادة الأبدية. عاشرا: واذ اصطحبته الى هناك أسقيه كأسا من ينبوع لاهوتي وهذا، ما صنعته لآخرين، الّذين يصلّون هذه الطّلبات. حادي عشر: ويجب معرفة أن من عاش ثلاثين سنة في الخطيئة المميتة وقرأ بخشوع هذه الطلبات أو وطّد العزم على أن يتلوها، غفر له الربّ جميع ذنوبه اثنا عشر: ونجّاه من التجارب الشريرة. ثالث عشر: ووقّى وحفظ حواسه الخمس. رابع عشر: ونجاه من موت الغفلة. خامس عشر: وخلّص نفسه من العقوبات الجهنمية. سادس عشر: وينال من الله تعالى ومن العذراء الفائقة القداسة كل ما يسأل . سابع عشر: وإن كان عائشا فيما مضى على هواه وغدا سيموت فإن حياته تطول. ثامن عشر: في كل مرة تتلى هذه الطلبات يربح غفران مئة يوم . تاسع عشر: ويتحقق أنه ينال الرتبة العالية بين الملائكة. عشرون: كل من يعلّم هذه الصلوات الى غيره، أجره وسعادته لا ينقصان أبدا وانما يدومان ثابتين الى الأبد. واحد وعشرون: حيث تتلى هذه الصلوات يكون الله حاضرا بنعمته.
كل هذه الامتيازات وعد بها سيدنا يسوع المسيح المصلوب القديسة بريجيتيا شرط أن تصلّي كل يوم هذه الطلبات مدة سنة كاملة بكل خشوع .
وقد اتخذ مجمع الايمان تدابير بخصوص هذه الصلوات ونهى عن المقاربة الخرافية لوعود لا تمت إلى مفهوم الخلاص بصلة.
2. حجاب قبر المخلص (الوعود)
إن هذه الصلاة وجدت سنة 1505 تحت قبر سيدنا المخلص يسوع المسيح وأرسلت من قبل قداسة البابا الى الامبراطور شارلكان عندما سار بجيشه لمحاربة أعداء المسيح ومن ثم أرسلت الى كنيسة مار مخائيل في فرنسا. إن كل من يقرأ أو يسمع أو يحمل هذه الصلاة لا يموت فجأة ولا يحترق ولا يغرق مهما كان جنسه ولا يقع بين أيدي الأعداء ولا يكون خاسرا في المعارك. وعندما تكون الامرأة في حالة الولادة عليها أن تسمع هذه الصلاة وتقرأها بنفسها وتحملها فتكون أما رحيمة، وعندما يولد المولود توضع هذه الصلاة على الجهة اليمنى فيكون المولود محفوظا من كثير من الحوادث. كل من يحمل هذه الصلاة يكون محفوظا من الشلل وعندما ترى شخصا يتألم من المرض ضع هذه الصلاة على جانبه اليمين فيشفى. قال المسيح: إنني أبارك كل من يكتب هذه الصلاة. وإن كل من يرذلها او يحتقرها يلقى جزاءه، عندما توضع هذه الصلاة في البيوت تكون هذه البيوت محفوظة من الصاعقة ومن الخطر، وكل من يقرأ يوميا هذه الصلاة يصير موته معلوما منه بثلاثة أيام قبل وفاته وذلك بواسطة إشارة ربانية، وفي كل مرة يقرأ هذه الصلاة ويدع الغير يقرأها يكون قد خلّص خمسة أنفس من المطهر ويباركه الله وإنّ هذه الأنفس تتشفع له لكي لا يموت ميتة رديئة. آمين.
(على الصفحة الثانية:….فالذين يعلقون هذه الصلاة او يكرّمونها لا يهلكون أبدا بل أنجيهم من كافة التجارب)
توجد مطبوعات تقوية متعددة، لا تحظى في أغلب الاحيان بأي رقابة كنسية، أو “يختلس” مروّجوها إمضاء الاسقف بأساليب تخفي على الحبر الجليل حيثيات النص المزمع طباعته.
ثانياً: ممارسات باطنية وغيبية
الممارسات التي نوردها هي تقليدية، وراثية، نطلق عليها اسم “السحر المنزلي” (magie domestique):
- صيبة العين وحرزها
يؤمن المشرقيّون بصيبة العين. ولردء هذه الاذية يحمل الاولاد أحجبة على أنواعها منها ما له طابع مسيحي ومنها ما له طابع تعويذي. مثلاً: نثبيت نصلة حصان فوق عتبة الباب، تعليق حذاء طفل في اسفل السيارة، أو أي مركبة…الخ. أما اذا تعرّض الانسان لصيبة العين فليس له إلا الرقوة وصب الرصاص.
فإحدى العوارض الاكثر رواجا في الخرافات الشعبية هي الاعتقاد بان بعض التوعّكات الصحيّة مثل حرارة مباغتة ومرتفعة أو صداع حاد او إغماء غير مبرّر إلخ… هي نتيجة “صيبة العين”. والدواء التقليدي لهذه الحالات هو “الرقوة” و”صب الرصاص”.
لا تذكر “الخماسية الانطاكية” [18] إلا عادة صب الرصاص بينما الدكتور منير شمعون يتناول الظاهرتين [19].
- الرقـــوة
من كلمة “رقية” ومعناها تعويذة، تعزيم، أو تقسيم. إنها عادة تقليدية قيل فيها بأنها صلاة مسيحية ولذا تمارس بين العائلات المسيحية المتدينة وحتى عند الكهنة المتزوجين. وللرقوة عدّة نصوص هي مزيج من التعاويذ الخرافية بعضها يحمل طابعًا إسلاميًا. وما يميّزها انها تنتقل بشكل تنشئة باطنية (initiation occulte) من شخص لآخر من الجنس المعاكس، ولا يجوز أبدا الافساح عنها. وتمارس كلما دعت الحاجة بتلاوتها تكرارا على كوب من الماء حتى التثاؤب بشدة حينئذ يعطى الماء للمريض فيشرب ويشفى. وللرقوة مفعول شفائي في بعض الأحيان مراده الإرتباط الغيبي بهذه الممارسة. أما مفعول الرقوة الروحي فيتسم بنتائج سلبية على المدى البعيد. وحسب شهادات موثوقة موثقة بالاختبار، تؤتي الرقوة، بالاخص تلك التي مورست مباشرة من قبل الاهل على اولادهم، المفاعيل التالية:
- انهيار عصبي يعصى على الاوية ولا يشفى إلا بصلاة تحريرية مسيحية.
- تسلل روح خبيث يظهر في كوابيس متتالية، وفي “روح عرافة” الذي يعتري الكثير من الاشخاص وسوف نتناوله لاحقا.
- إضعاف ترس الايمان فيصبح الشخص سريع التأثر بالسحر والعرافة وقابل للإختراق من قبل ظواهر خارقة زائفة مثل الظهورات ورشح الزيت وجروحات المسيح إلخ…
- صب الرصاص
هذه العادة ترجع على الأرجح إلى القرن الخامس عشر حيث كان يصب الرصاص المذوّب في كوب من الماء. فإذا تصوّر فيه انسان كان تدخّل السحر واضحا [20].
أما في الشرق فصب الرصاص يفترض أن يذيل مفعول صيبة العين وغالبا ما يكشفها إذ تبرز في الرصاصة المذوّبة والمصبوبة في الماء البارد صورة عين.
وحسب شهادات موثوقة موثقة بالاختبار الرعوي فإن صب الرصاص يسبّب سرساب مدمن من الممكن أن يصل حتى الانتحار. فمن خضع لهذه الممارسة يمكن أن يعاني من مرض نفساني عضال لا يشفى منه إلا بصلاة مسيحية تحريرية.
ب- العرافــــــة
كثيرا ما يلتفت الانسان بفضول مريب نحو المستقبل لترويضه ناسيا انه بهذا يخرج تلقائيا من كنف عناية الله المحبة بالقلق على الغد وبمحاولة وضع اليد عليه.
من المهم التذكر ان أفلاطون (Phèdre, 244b-d) يميّز بين نوعين من العرافة: الاولى عرافة الوحي والثانية هي عرافة العلامات.
وسوف نبدأ بالنوع الثاني من العرافة وهو ينخرط تحت عنوان “السحر المنزلي”.
- العرافة بالعلامات او التبصير (mancie):
هي مبنيّة على ملاحظة علامات فجائية او محرضّة واسمها الآخر هو التبصير (mancie).
إنها كثيرة التشعّب ولن نذكر جميع تشعّباتها. نكتفي بالقول إنه في الشرق راجت ممارسات التبصير التالية:
فيها الليل كي يعالجوا عبر الحضون (incubation) أي تدخل روح حاضن يولّد الحلم او الرؤى. وعند الاستفاقة كان الحالم يستعين، مقابل مبلغ من المال، بالكاهن-القارىء المسمى في الوثائق المسمارية “خاريهيبي” (kharihibi)، وعند الاغريق “قارىء الاحلام” (onirocrite).
ما زال مسيحيّو الشرق يولون أحلامهم أهمية كبيرة. فهنالك تفاسير متعارف عليها ومن يجود في استعمالها بما يشبه العرافة اليومية. وتتسم الروحانية الشعبية المشرقية بدور بارز للأحلام وجب تنقيته وإدخال عليه مبادىء تمييز الارواح والوقاية الروحية كي لا تؤدي إلى تفاقم في السرساب والخرافة.
- ما تبقى من أنواع التبصير
كلها تضع المؤمن في ذهنية وثنية لتدارك أموره من ناحية المعرفة الغيبية التي لا تقرأ قصد الله بل تتكهن الاحداث “خلسة” عنه. فالانسان يتعوّد على العيش المادي البحت و تدبّر أموره والبحث عن مخارج لمشكلاته بمفرده، دون شراكة مع خالقه ولا قراءة نبوية لقصد الله الخلاصي. وهذا يعني موت الايمان البطيء والتعبد لروح العالم.
ج) الشعوذة أو السحر الاسود
نتوقف عند أول نوع من العرافة وهو “روح العرافة”:
- روح العرافة (Esprit Python)
هو روح سفلي يشارك من يسكنه أو يتواصل معه قدرة العرافة، والمثل الأكثر رواجا لهذه العرافة هو منجّمة ديلف او الديلفيّة (Pythie de Delphes) وهي مشعوذة كانت تمارس العرافة باسم أبولون، الاله الوثني الذي كان يتملك جسدها، وكانت تعمل في هيكله الشهير في جزيرة ديلف، علما أنه، حسب قول القديس بولس: (1كور 19:10-20)، لا وجود للآلهة الوثنية إنما هي شياطين.
لذا يعتبر الكتاب المقدس العرافة جرم يستوجب الموت لأن من يمارس العرافة لا يستطيع التكهّن إلا بعلاقة مريبة مع عالم الغيب الذي يدنّس الانسان. نقرأ في سفر الاحبار: ” وأي رجل أو امرأة كان مستحضر أرواح أو عرّافًا، فليقتل قتلاً، بالحجارة يرجم، دمه عليه” ( أح 20/27).
لقد واجه القديس بولس روح عرافة في مدينة قيليبي كما يروي في أعمال الرسل ( 16:16-19)
تعجّ بلادنا بمئات بل بآلاف من العرافين، من مسيحيين ومسلمين، يبنون عرافتهم بالتعامل المباشر مع عالم الأرواح. يتهافت الناس إليهم، هم من يسمّون أنفسهم “روحانيين” أو يطلق عليهم اسم “شيخ” يلتمسون منهم قدرة غيبية سحرية تحلّ مشاكلهم، غير متنبهين أن هذا المسعى يخالف الوصية الالهية الأولى ومبادىء الايمان بالله والاتكال على عنايته الابوية والاستسلام لإرادته. وكما تقوم محطتان تلفزيونيتان فضائيتان ببث برامج العرافة بشكل متواصل هما محطة ” شهرزاد” ومحطة ” الكنوز” ومركز بثهما لبنان.
نكتشف كل يوم أشخاصًا عاديّين يعانون من “روح العرافة” المتسلل إليهم من الممارسات الغيبية المنزلية مثل “الرقوة” أو “قراءة الفنجان” أو “استشارة العرافين”. فالشخص الذي يعاني من هذه الآفة “يعرف” ما سوف يحصل. عندما تتكرر هذه المعرفة تحدث انزعاجا وقلقا يصلان أحيانا إلى اليأس، “فمعرفة” الغيب لا تدخل في مشورة العناية الالهية، لذا فإنها تتسم بالقدرية وعلى مثالها، تجهل تدبير الله الخلاصي. إنه لمن السهل التخلّص من روح العرافة بقوة الكنيسة التحريرية.
2-حيثيات التعاطي بالسحر الاسود
ثمانون بالمئة من المسيحيين تعاطوا أو يتعاطون السحر الاسود ولو مرة في حياتهم، والاسباب متعددة: سحر مضاد لتعطيل “كتيبة” أو “نحس”، تحسين :”الرزقة”، “ربط” قلب شخص بغية الزواج منه، العرافة، لإلحاق الأذية بداعي الحسد أو الكره الخ….مثل هذه الممارسات كثر التعاطي بشأنها عن جهل أو ضعف، والملفت للنظر أن من يمارسها ليس فقط من فئة الناس العلمانيين العاديين، إنما وللأسف من فئة الاكليروس، بحيث استخدم بعضهم القدسيات لاغراض عرافة وشعوذة، مما يستدعي تدخل السلطة الكنسية لمنع مثل هذه المنكرات.
د) ممارسة الباطنية وتسلل بدعة النيو-آيج في الأوساط المسيحية
لقد قدّم الأب انطوان لطوف دراسة موسعة حول هذه البدعة الاخطبوط. لسنا هنا بصدد عرضها كاملة الا أننا نكتفي بالقول: ان المسيحيين ينجرّون أكثر فأكثر وراء الباطنية، خصوصا التابعة للشرق الأقص: من يوغا ومشتقاته الروحية (كريا يوغا – أغني يوغا – راجا يوغا)، والتأمل التجاوزي والطنطرا، والشفاء بالبرانا والبراهما كوماري والرايكي الخ…. فلا يرون في هذه الممارسات أي تناقض مع المسيحية. لكنها بالواقع تولّد فتورًا وتفرّدًا في عيش الايمان ونوعًا من التأليفية (syncrétisme) وتركيز أناني على الذات وتأليهها وتصديق عقيدة التقمّص والابتعاد عن خلاص يسوع المسيح وتقليص دوره إلى دور أفاتار واعتناق مذهب الخلاص الذاتي (auto-salvation). أما بعض الممارسات، مثل الرايكي والشفاء بالبرانا، فليست إلا تحضير أرواح منمقة. وممارسة الباطنية تؤدي إلى أختلال في الاتزان الطبيعي وطغيان السرساب والظلم والقلق في النفس، مما يجعل الحياة عقيمة.
خاتمة
نختم بكلمات البابا بينديكتوس السادس عشر بمناسبة سنة الايمان علّنا جميعنا “نرجع إلى الله من كل قلبنا ولا نقبل سيدا آخر في حياتنا ولا نتكل على أي شيء غيره فأنه هو مصدر خلاصنا وعزائنا ورجائنا”.
في هذا المنظور، تكون “سنة الإيمان” دعوة الى اهتداء أصيل ومتجرد الى الرب، المخلص الوحيد للعالم. ففي سر موته وقيامته، كشف الله عن ملء المحبة التي تخلّص وتدعو البشر الى اهتداء حياتهم بمغفرة الخطايا (انظر أع 31:5). اما القديس بولس، فيرى ان هذه المحبة تُدخل الانسانَ الى حياة جديدة : “دُفنا معه في موته بالمعمودية لنحيا نحن ايضاً حياة جديدة، كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب” (روم4:6). بفضل الإيمان، تصوغ هذه الحياة الجديدة الوجودَ الانساني كله حسب الجِدّة الجذرية للقيامة. وفي مقياس تفرّغ الانسان الحر، تنقي افكاره ومشاعره، وذهنيته وتصرفه بهدوء وتتغير، على طريق لا ينتهي تماماً في هذه الحياة. ان “الإيمان العامل بالمحبة” (غلاطية6:5) يصبح معياراً جيداً للعقل والعمل ويغيّر حياة الانسان كلها (انظر روم 2:12، قولسي 9:3-10، أفسس 20:4-29، 2كور 17:5).
(..) فان الإيمان ينمو حينما يُعاش كخبرة محبة تلقاها الانسان، وحينما يُعطى كخبرة النعمة والفرح. انه يُخصب، لانه يوسع القلب في الرجاء ويتيح تقديم شهادة قادرة على الانجاب. بالفعل، انه يفتح القلب والفكر عند جميع السامعين لكي يتلقوا دعوة الرب الى الانضمام الى كلمته ليصبحوا تلاميذه. يقول القديس أوغسطينوس إن المؤمنين “يتقوون اذ يؤمنون”. وكان لاسقف هيبون القديس اسباب جيدة للتعبير هكذا. فنحن نعلم ان حياته كانت بحثاً متواصلاً عن جمال الإيمان الى ان يجد قلبه راحة في الله. وكتاباته العديدة التي فيها تُشرَح أهمية الإيمان وحقيقة الإيمان، ما تزال الى ايامنا هذه تراثا لا يُضاهى غناه، وما تزال تتيح للعديد من الناس الذين يبحثون عن الله أن يجدوا المسيرة الصحيحة للوصول الى “باب الإيمان”[21].
فالإيمان اذاً ينمو ويتقوى إذ يؤمن الانسان. فلا امكانية أخرى لاكتساب تأكيد عن حياته إلا حينما يستسلم المرءُ، بقوة متزايدة، بين يدي محبة تُختَبَر دوماً بشكل اكبر، لأن أصلها في الله.
[1]ذكرها البابا بنيديكتوس السادس عشر في رسالته “باب الايمان”، المقدمة
[2] راجع تكوين 9، 1-11
[3] راجع 9،12
[4] راجع تكوين 18،10
[5] خر 24/3-11
[6] Pentalogie Antiochienne , domaine Maronite المجلد الاول الصفحة 410 في الفصل المسمى “عادات وتقاليد في لبنان”:
« Le Liban a toujours été la terre classique des traditions, on se transmettait d’âge en âge les mœurs et les usages des ancêtres et on les observait avec une religieuse exactitude ».
[7] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، منشورات الرسل، المكتبة البولسية، لبنان، 1999، العدد 1674
[8] المرجع السابق، عدد 1675.
[9] المرجع السابق، عدد 1676.
[10] مجمع العبادة الالهية وإنتظام الاسرار في الفاتيكان، التعميم الإداري حول “التقوى الشعبية والليتورجيا”، 2002، المقدمة
[11] Arcidiocesi di Milano, CONSIGLIO PRESBITERALE – IX MANDATO , XI Sessione – 21 – 22 Aprile 2008: Forme autentiche e distorte di “devozione popolare”: discernimento pastorale e proposte per una vera educazione alla fede
[12] الاب مارون اللحام، رعية اللاتبن في القدس، نبذة تاريخية عن اللاهوت الرعوي، شباط 2002
[13] “الخرافات في لبنان”، الحاشية 25، صفحة 31 :
“…Il a été pratiquement impossible de trouver des citadins maronites, non superstitieux ».
[14] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد 2111.
[15] المرجع السابق عدد 2116 – 2117.
[16] Les superstitions au Liban, aspects psycho-sociologiques, Darl El Machreq Editeurs, 1973, p. 91
« C’est la ritualité de telles pratiques et le contexte sanctionnel dans lequel elles placent le pratiquant qui nous portent à les situer parmi le groupe des superstitions religieuses »
[17] الخماسية (الانطاكية ) صفحة 417: “« Al-Kabsé est un mal étrange qui frappe l’enfant au berceau, le fait languir sensiblement et cause tôt ou tard sa mort….Tout remède contre al-kabsé est inutile ; deux moyens, pourtant sont réputés efficaces. Le premier serait de faire prendre au malade un bain de mer, à l’aurore, avant le lever du soleil. Un jeune et une jeune fille célibataires doivent porter l’enfant et le placer sur le parcours d’une vague qui se brise en roulant sur le malade. Un endroit, reconnu dans le pays d’une grande efficacité pour ces sortes de bain est le rocher d’Al-Batieh, situé dans la baie de Djounié, au sud-est, et on dit couramment laver quelqu’un à Bat’ieh ou simplement le mener à Bat’ieh. »
[19] Les superstitions au Liban, Aspects psycho-sociologiques – Dar El Machreq Editeurs, 1973
[20] Mozzani, Eloïse : Le livre des superstitions, mythes, croyances et légendes, p.1424
[21] البابا بندكتوس السادس عشر، ” باب الايمان”، عدد 6-7.