Almanara Magazine

الإيمان عند مار أفرام السرياني

الإيمان بالثالوث الأقدس[1]

الأب يوحنا يشوع الخوري م.ل

في سنة الإيمان هذه التي أعلنها قداسة الحبر الأعظم البابا بنديكتوس السادس عشر، من 11/10/2012 إلى 24/12/2013، تتّجه وجوهنا وعقولنا الى كنيسة روما، لترى وتسمع ما يقوله قداسته عن الإيمان هذه السنة.

وفي الوقت ذاته تتّجه أفكارنا الى الكنيسة الشرقية السريانية، حيث عاش مار أفرام السرياني (306 – 373) لتستعيد ما قاله كنّارة الروح القدس، في نصيبين والرها، عن الإيمان المسيحي، في عهود الكنيسة الرسولية الأولى.

وإذا كان قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر قد لخّص أفكاره حول الإيمان المسيحي الكاثوليكي، في هذا العصر، في كتاب صغير، يوجز ما ورد في الكتاب الكبير عن التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية سمّاه You cat  وهو كتاب التعليم المسيحي الكاثوليكي للشبيبة، وقد أهداه للشبيبة التي اجتمع بها في بكركي في 15 أيلول سنة 2012، وهو يتضمّن 527 سؤالاً مع الأجوبة.

هكذا مار أفرام السرياني لخّص أفكاره حول الإيمان المسيحي الرسولي القديم، في كتاب سمّاه بالسريانيّة                             أيّ أناشيد في الإيمان، طبعه ونشره في لوفان العلاّمة الإلماني إدموندبك في مجموعة csco سنة 1955، بالنص السرياني مجلّد 154، وبالترجمة الإلمانية مجلّد 155، وهو يتضمّن 87 نشيدًا.

الى هذين الكتابين نعود في محاضراتنا هذه السنة، ونستخرج هذه المرّة ما قاله مار أفرام السرياني عن إيمانه بسرّ الثالوث الأقدس، ونقابله بما قاله قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر في كتابه هذا المذكور هنا.

أمّا ما جاء في كتاب أناشيد الإيمان لمار أفرام عن الثالوث الأقدس فهو كثير، لا يمكننا الإحاطة به، من كل جوانبه، انما نجمع الآن جانبًا من أقواله، ونلخّصها في هذه المحاضرة حول سبع نقاط كما يلي:

الأولى    : الثالوث الأقدس لا يُستقصى.

الثانية    : الثالوث الأقدس في عماد المسيح.

الثالثة    : الثالوث الأقدس في عماد المسيحيّين.

الرابعة    : ترتيب الأقانيم الثلاثة.

الخامسة : تمايز الأقانيم الثلاثة.

السادسة : الإيمان يكتمل بالثالوث الأقدس.

السابعة  : الشمس صورة للثالوث الأقدس.

بعد هذه المقدّمة نبتدئ بتفصيل هذه النقاط السبع.

النقطة الأولى: الثالوث الأقدس لا يُستقصى

إن التعليم المسيحي الكاثوليكي للشبيبة يحدّد الثالوث الأقدس بهذا القول:

“الثالوث (في اللاتينيّة Trinitas أي العدد ثلاثة). لا يوجد إلاّ إله واحد ولكنه في ثلاثة أقانيم. لذلك عندما نريد أن نركّز على وحدة الله نقول إنّ الله هو ثالوث، ونتكلّم على الوحدة الإلهيّة الثالوثيّة، وعندما نريد أن نميّز الأقانيم الثلاثة في الله نقول إنّ الله الواحد هو في ثلاثة أقانيم. الأقانيم الإلهيّة الثلاثة متمايزة حقًّا. وطريقة التكلّم والتعبير تدلّ على صعوبة تسمية هذا السرّ”.

وإنّ مار أفرام السرياني عندما يتكلّم على الثالوث الأقدس نجده كأنّه واقف أمام بحر كبير أو أوقيانوس أكبر لا يحدّه حدّ، ولا تصل الى نهايته يد. وأمام عظمة الله يجد ذاته غير قادر على الكلام فيلجأ الى التأمّل والصمت. فالله لا يُدرك بعقلنا البشريّ، وسرّ ثالوثه العجيب يفوق مدارك الإنسان. فعندما يردّ في أناشيده على خصومه، ومن بينهم جماعة آريوس الذين أنكروا لاهوت الابن وحقيقة الثالوث، يسمّيهم بالأغبياء، فيقول في النشيد 67/ 1، 3:

 راية الحقّ
فتركها الأغبياء

 وُضِعتْ في الكتب المقدّسة
وبدأوا يرشقون

  ربَّ الراية.

 
3.    تلك هي الراية:
بلا انقسام.

 الآب واحد هو،
والابن واحد هو،

  بلا استقصاء.

 

وعندما يصل الى هذا السرّ العميق الذي لا يُسبَر غوره، يمجّد الآب المحجوب في أزليّته، والابن المحجوب في ولادته، ويشكر الثالوث الأقدس بأقانيمه الثلاثة، ويُعلن أنّ الآب لا يُحدّ، والابن لا يُفحَص، وكذلك الروح القدس. وفي ذلك يقول في النشيد 67/ 23- 24:

 المجد للآب
المجد للابن

 الخفيّ في جوهره،
الخفيّ في ولادته،

  بختم الصمت.

 
24.          الشكر للآب
الشكر للابن

 الذي لا يُحَدّ،
الذي لا يُفحَص،

  والشكر للروح القدس.

 

وإنّ التعليم المسيحيّ الكاثوليكي للشبيبة يُثبت أيضًا أنّ الإنسان لا يمكنه منطقيًّا أن يستدلّ على أنّ الله ثالوث، إنّما بواسطة يسوع المسيح قد أُوحِيَ لنا هذا السرّ. فالآب أرسل ابنه يسوع لخلاصنا، والروح القدس هو الذي يقدّسنا. وقد كلّمنا يسوع على أبيه مرارًا عديدة في الإنجيل، ووعدنا أيضًا بالروح القدس. وأبلغ آية قالها الإنجيلي يوحنا في هذا الموضوع هي هذه: “الله ما رآه أحد البتّة، الابن الوحيد الله، الكائن في حضن الآب هو الذي أخبر عنه” (يو 1/ 18). ونجد جوابًا قاطعًا لكل هذه المسائل في السؤال 36 من هذا الكتاب وفي الجواب عليه.

وهذا هو السؤال: هل بإمكان المرء أن يستدلّ منطقيًّا على أن الله ثالوث؟

وهذا هو جوابه على هذا السؤال: “كلا، ثالوث الله سرٌّ. إننا بيسوع المسيح وحدَه نعرف أن كيان الله ثالوثي”.

ويشرح هذا الجواب فيقول: “البشر لا يمكنهم بوسائِل عقلهم الخاص أن يستدلّوا على كيان الله الثالوثي. إنما يدركون عقلانيّة هذا السرّ، عندما يقبلون انكشاف الله في يسوع المسيح. إن كان الله وحيدًا ومنعزلاً، فمن غير الممكن أن يحبّ منذ الأزل. بفضل نور المسيح نجد في العهد القديم (تكوين 1: 2؛ 18: 2؛ 2 صموئيل 23: 2)، وحتّى في الخلق كلّه علاماتٍ عن ثالوثيّة الله.

النقطة الثانية: الثالوث الأقدس في عماد المسيح

هذا السرّ، سرّ الثالوث الأقدس، المغلَق على الجميع، قد ظهر في عماد المسيح، مع الأقانيم الثلاثة: الآب والابن والروح القدس. وفي الإنجيل المقدّس، نجد علامات واضحة لهذا السرّ الخفيّ. فالابن هو الذي يتعمّد، والآب هو الذي يتكلّم من السماء، ويدعو المعمَّد “ابني”. والروح القدس هو الذي يحلّ عليه بشكل حمامة. والأناجيل الأربعة تشهد بذلك. (راجع متّى 3/ 13 – 17، مر1/ 9 – 11، لو3/ 21 – 22، يو1/ 29 – 34).

ويرى مار أفرام هذه الكتب المقدّسة مثل مرآة ينظر فيها المؤمن الحقيقي الصورة الحقيقيّة للآب والابن والروح القدس. وفي ذلك يقول في النشيد 67/ 8 – 9:

 الكتب وُضِعَتْ
فمَن كانت عينه صافية

 مثل مرآة،
رأى هناك،

  صورةَ الحقّ.

 
9.    وُضِعَتْ  هناك
وصُوِّرَتْ هناك

 صورةُ الآب،
صورةُ الابن،

  وصورةُ الروح القدس.

 

وردًّا على بعض الهراطقة، ينفي مار أفرام عن ابن الله كلّ اسم غريب غير الاسم الذي به دعاه الآب السماويّ عند العماد، إذ ناداه من السماء: “أنتَ ابني الحبيب” (مر 1/11). ويصرّح أيضًا أن الأقانيم الثلاثة اشتركوا في العماد: الآب بصوته، والابن بقوّته، والروح القدس برفرفته. وفي ذلك يقول في النشيد 51/7:

  جسارة هي أن ندعوك

 
 باسم غريب
انه دعاك فقط “ابني”
وحيثُ اعتمدتَ أنتَ
الأسرارُ الثلاثـة:
والابنُ بقوّته،

 عن ذاك الذي دعاك به أبوك.
على نهر الأردنّ.
عَمّدَتْ ناسوتَك
الآبُ بصوته،
والروحُ برفرفته.

  التسابيح لرفرفتك!

 

ويتساءل التعليم المسيحي في السؤال 37 لماذا الله هو أب فيُجيب:

“نعبد الله في الأساس وحده كأب، لأنه خالق ولأنه يُعنَى بخليقته بمحبّة كاملة. يسوع، ابن الله، علّمنا علاوة على ذلك أن ننظر الى أبيه على أنّه أبونا وأن نخاطبه باعتباره “أبانا” “.

وفي السؤال 38 يعرِّف التعليم المسيحي بالروح القدس فيقول:

“الروح القدس هو الشخص الثالثُ من الثالوث الأقدس وله العظمة الإلهيّة نفسُها مثل الآبِ والابن”.

وفي السؤال 39 يؤكّد التعليم المسيحي أنّ يسوع هو الله وهو ينتمي الى الثالوث الأقدس فيقول:

“يسوع الناصري هو الابن، الأقنوم الثاني، الذي نتكلّم عليه عندما نصلّي: باسم الآب والإبن والروح القدس”.

النقطة الثالثة: الثالوث الأقدس في عماد المسيحيين

إنّ عماد المسيح هو رسم سابق لآلامه وموته وقيامته. فبعد أن تعمّد يسوع وتألّم ومات وقام، ظهر لتلاميذه بمجد عظيم وسلَّمهم سرّ العماد المقدّس بقوله لهم: “لقد أُعطيتُ كلّ سلطان في السماء وعلى الأرض. إذهبوا إذًا فتلمذوا كلَّ الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متّى 28/ 18 – 19).

أما التلاميذ فاستلموا سرّ العماد المقدّس من فم سيّدهم بكلّ إيمان، وراحوا يعمّدون المؤمنين، في كل جهات العالم، باسم الآب والابن والروح القدس.

ومار أفرام، السرياني الذي ورث هذا الإيمان في كنيسته منذ الأجيال المسيحيّة الأولى، تغنّى بسر العماد المقدّس مع المؤمنين، وأنشد للثالوث الأقدس أناشيد الحمد والشكران.

ففي لازمة النشيد الثالث عشر من أناشيد الإيمان يشكر الله على نعمة الإيمان بسرّ الثالوث الأقدَس فيقول:

الشكر للآب

 والابن

 والروح القدس.

وينوِّه بأسماء الأقانيم الثلاثة المبنيّة عليها معموديّة المسيحيين والتي هي أولى عقائد إيمانهم، وهي علامة انتصارهم، وهي التي استلمها الرسل الاثنا عشر من فم الربّ يسوع فيقول في النشيد 13/5:

 بثلاثة أسماء معلّقة معموديتنا.
بثلاثة أسرار انتصر إيماننا.
ثلاثةَ اسماءٍ أسلم ربُّنا الى رسله الاثني عشر،
وإليها التجأنا.

ويبيّن أنّ العماد المسيحي، لكي يكون عمادًا حقيقيًّا، يجب أن يوسَم باسم الثالوث الأقدس، وإلا فيكون عمادًا في طريق الضلال. وهذا السرّ المقدَّس يقوّي المؤمنين ومهما اشتدَّت عليهم الصعوبات والاضطهادات، فلا أحد يقدر عليهم. وفي هذا يقول في النشيد 13/3:

 كلّ إيمان غيرِ موسوم بالعماد ضالّ هو.
نُعدّ نفسَنا للضيق إذا أتى.
إذا تألّمتْ روحُنا، وانفصلتْ نفسُنا، واحترق جسدُنا،
فمَن يستطيعُ أن يقوى علينا؟

ويستشهد مار أفرام بكلام مار بولس الى أهل رومه 8/ 35 – 39 فيقول في النشيد 13/4:

 هذا هو المكتوب: “لا علوٌّ ولا عمق،
ولا سيفٌ يستطيع أن يقطع إيماننا”
من يقطعُ الأشعّة التي لا تُقطَع
عن شمس الحق؟

ويعود مار أفرام فيوضِح أنّ هذه الأسماء الثلاثة: الآب والابن والروح القدس هي اسماء متساوية ومتّحدة في رفرفتها على المعمودية فيقول في النشيد 77/ 20 – 22:

 أسماء الآب
متساوية هي

 والابن والروح
في رفرفة

  المعمودية.

 
 أسماء متَّحدة،
وإرادة واحدة،

 سعي متساوٍ،
كأنها حاملة نيرًا واحدًا،

  في مجيئها.

 
 وكما هي متساوية
على المعمودية،

 في الرفرفة
هكذا هي متساوية

  في اتحادها أيضًا.

 

والتعليم المسيحي للشبيبة في السؤال 194، يحدّد المعموديّة بكلام بليغ نحبّ أن نذكره هنا فيقول:

“المعموديّة هي الخروج من سيطرة الموت الى الحياة؛ وبابُ الدخول في الكنيسة، وبدء الشركة الدائمة مع الله”.

ويبيّن أيضًا في السؤال 195، كيف تُمنَح المعموديّة وكيف توسَم باسم الآب والابن والروح القدس، فيقول:

“إن تغطيس المعمَّد ثلاث مرات في الماء هو الشكل التقليدي لمنح المعموديّة. وغالبًا يُسكَبُ الماء ثلاثًا على رأس المعمَّد، فيما المعمِّدُ يقول: “(يا فلان)، أنا أعمِّدك باسم الآب والإبن والروح القدس”.

النقطة الرابعة: ترتيب الأقانيم الثلاثة

عندما سلّم الربّ يسوع تلاميذه سرّ العماد المقدّس، أمرهم بتعميد المؤمنين باسم الثالوث الأقدس، وقد لفظ اسم الآب أولاً، واسم الابن ثانيًا، واسم الروح القدس ثالثًا، بهذا الترتيب: “باسم الآب والابن والروح القدس”.

والكنيسة المقدّسة على مرّ الأجيال حافظت على هذا النظام في رتبة العماد. وهذا ما شهد به مار أفرام في النشيد 23/ 13 – 14 إذ قال:

 إنّ الآب هو الأوّل، دون جدال،
والابن هو الثاني، دون شكّ،
واسمِ الروح هو الثالث،
فلا تُفسِد نظام الأسماء.

 تلمذوا وعمَّدوا بالأسماء الثلاثـة،
باسم الآب والابن والروح القدس.
فاسم الابن لا يمكن أن يكون
قبل اسم الآب، لئلا تقع البلبلة.

وكذلك في النشيد 67/10 يكرّر هذا الكلام ويحافظ على هذا النظام، بالنسبة الى الأقانيم الثلاثة، أثناء العماد فيقول:

 وُضِعَتْ  أسماء
واحدًا بعد الآخَر

 الأقانيم الثلاثة
في الإيمان،

  لأجل المعموديَّة.

 

والشهادة الكبرى، في ترتيب هذه الأقانيم الثلاثة، هي إشارة الصليب المقدّس التي اعتاد المؤمنون على تلاوتها، منذ الأجيال المسيحيّة الأولى، حتى هذه الأيام، فيقولون في بداية صلواتهم وفي نهايتها هذه البسملة والمجدلة هكذا:

باسم الآب والابن والروح القدس.

والمجد للآب والابن والروح القدس.

ولإثبات وَحدانيّة الله مع تثليث أقانيمه يُزاد أحيانًا، في آخِر البسملة “الإله الواحد” فيقال: “باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد. آمين.”

وللتأكيد على وَحدانيّة الله يجيب كتاب التعليم المسيحي للشبيبة على  السؤال عدد 35: أنؤمن بإله واحد أم بثلاثة آلهة؟ فيقول:

“نؤمن بإله واحد بثلاثة أشخاص. الله ليس عزلة بل شركة كاملة”. (بنديكتوس السادس عشر)

“لايعبدُ المسيحيّون ثلاثة آلهةٍ مختلفة، بل جوهرًا واحدًا، يتفرعُ عنه ثلاثة، ومع ذلك يبقى واحدًا. أن يكون الله ثالوثًا، هذا ما نعرفه من خلال يسوع المسيح، وهو الابن يتكلم على أبيه في السماء (“أنا والآب واحد”، يو10: 30). يدعوه ويهبُ لنا الروحَ القدس الذي هو محبّة الآب والابن. لذلك نُعمَّد “على اسم الآب والابن والروح القدس” (متّى 28: 19).

النقطة الخامسة: تمايُز الأقانيم الثلاثة

هذه الأقانيم الثلاثة يتمايز أحدها عن الآخر. فالآب يتمايز بأبوّته، والابن ببنوّته، والروح القدس بتقديسه الكلّ. وهذا ما عبَّر عنه مار أفرام في النشيد 13/2:

 قدّمتُ إيماني الى الآب، فوسَمَ فيه أبوَّتَه،
قدَّمتُه الى الابن، فمزجه بولادته،
وقدَّمتُه الى الروح القدس، فقدّسه،
وصوّر فيه السرّ الذي يقدّس الكلّ.

ونجد في التعليم المسيحي للشبيبة كلامًا بديعًا لقداسة البابا بنديكتوس السادس عشر حول أبوّة الآب وبنوّة الابن، نذكره هنا. وهذا هو كلام قداسته:

“عندما يتذكّر البشر أبوّة الله تتضح أمامهم هويتهم العميقة: من أين نأتي؟ من نحن؟ ما هي عظمة كرامتنا؟ نحن بالطبع أبناء أهلنا ولكننا من الله آتون أيضًا. لأنه خلقنا على صورته، ودعانا لأن نكون بنين له. لذلك لا توجد صدفة في أصل كلّ إنسان وليس الإنسان احتمالاً من الاحتمالات. ولكنّه يجسّد مشروع حبّ الله لنا. هذا ما كشفه لنا يسوع المسيح، الابن الحقيقي للآب والانسان الكامل. وهو يعرف ممّن أتى وممّن نأتي نحن كلّنا لله الآب أبيه وأبينا”.

وفي التعليم المسيحي للشبيبة صلاة جميلة من الليتورجيّة البيزنطيّة حول ميزة الروح القدس وهي التقديس نذكرها أيضًا هنا. وهذه هي كما وردت هناك:

“أيّها الملك السماويّ، المعزّي، روح الحقّ، الحاضر في كل مكان والمالئ الكل، كنـز الصالحات ورازق الحياة، هلمَّ واسكن فينا وطهّرنا من كل دنس وخلّص أيّها الصالحُ نفوسنا”.

والشكر الجزيل لجميع الحاضرين والسامعين آمين.

النقطة السادسة: الإيمان يكتمل بالثالوث الأقدس

يشبّه مار أفرام الإيمان بفَرخ الطائر. فإذا لم يكتمل فَرخ الطائر لا يستطيع أن يشقّ قشرة البيضة. ويكتمل فَرخ الطير على ثلاث مراحل: من البطن الى البيضة فإلى العشّ. وبعد ذلك يغرِّد ويطير. كذلك الإيمان لا يكتمل إلاّ بالثالوث الأقدس. فعندما آمن الرسل بالآب والابن والروح القدس حملوا البشارة الى كلّ الجهات. فكما يحلّق الطائر في الجوّ بشكل صليب، هكذا الرسل أوصلوا بشارة المسيح الى كل الأقطار بقوّة الصليب. وفي ذلك يقول في النشيد 18/ 1- 3:

 فَرْخ الطائر إذا لم يَكتَمِل
لا يستطيع، بسبب نقصه، أن ينقُف قشرة البيضة،
والإيمان المغلّف بالصمت
هو ناقص أيضًا، فكمّله يا مكمّل الكلّ.

 الطائر يمرّ في مراحل ثلاث:
من البطن الى البيضة، ومنها الى العُش حيث يغرِّد،
وعندما يكتمل يطير في الهواء،
فيبسط جناحيه بشكل صليب.

 والإيمان أيضًا يكتمل  على مراحل ثلاث:
فعندما آمن الرسل بالآب والابن والروح
طارت البشارة الى الأقطار الأربعة،
بقوّة الصليب.

ويقارن مار أفرام فرخ الطائر ومراحله الثلاث: البطن والبيضة والعشّ، بالإنسان وتكوينه من ثلاثة عناصر: الروح والنفس والجسد. فإذا وُسِمَ الانسان بسرّ الثالوث الأقدس، وأقانيمه الثلاثة: الآب والابن والروح القدس، حصل على نِعَم وافرة. فإذا تألّمتْ روحه ونفسه وجسده نال قوّة سامية من الآب والابن والروح القدس. وفي ذلك يقول في النشيد 18/ 4 – 5:

 الأسماء الثلاثـة تُزرَع ثَلاثًا:
في الروح والنفس والجسد بصورة سريّة.
وعندما يكتمل ثالوثُنا بالأسماء الثلاثـة
يملكُ على الأقطار.

 إن تألّمَت الروحُ وُسِمَتْ كلّها بالآب،
وإن تألّمت النفسُ اتّحدت كلها بالابن،
وإن آمن الجسدُ واحترق
فهو شريك بكلّيته مع الروح القدس.

النقطة السابعة: الشمس صورة للثالوث الأقدس

في هذه النقطة السابعة والأخيرة، يقدّم لنا مار أفرام صورة للثالوث الأقدس من خلال الشمس. فالشمس بحدّ ذاتها تمثّل الآب، والشعاع الصادر عنها يمثّل الابن، والحرارة المتدفقة منها تمثّل الروح القدس.

وهنا كلام مار أفرام سهل وجميل، لا يحتاج الى شرح أو تفسير. فنشيده في سرّ الثالوث العميق واضح ومفيد. وهذا هو كلامه عن الثالوث الأقدس في النشيد 73/ 1 – 12، 15 – 19:

 ها هي الرموز:
الشعاع والابن،

 الشمس والآب،
الحرارة

  والروح القدس

 
 وإذ هو واحد
ثالوث،

 يُشاهَد فيه
لا يُدرَك،

  فمن يفسِّر؟

 
 الواحد كثير،
والثلاثة واحد،

 الواحد ثلاثة،
حيرة عظمى،

  وعَجَب ظاهر!

 
 الشمس منفصلة
وموصولة به،

 عن شعاعها،
كما أنّ شعاعها

  هو الشمس أيضًا.

 
 لا أحد يقول:
مع أنّ شعاعها

 هناك شمسان،
هو شمس أيضًا

  على الأرضيّين.

 
 ونحن لا نسمِّي
مع أنّ ربّنا

 إلهَين،
هو إله أيضًا

  على البرايا.

 
 مَن يفحص الشمس؟
مرتبط شعاعُها،

 كيف وأين؟
ومرتبطة وطليقة

  حرارتها.

 
 وإن كانت الشمس وشعاعها وحرارتها
فهي منفصلة ومتّصلة،

 غير منقطعة وغير موصولة
مرتبطة وطليقة

  يا للحيرة العظمى!

 
 من يستطيع أن يجسّها،
وإن حسبناها

 ويمسّها،
بسيطة

  سهلة؟

 
 جُسَّ لي الشمس،
حدِّق وانظر

 جُسَّ شعاعها،
 الى حرارتها،

  إن تمكَّنتَ.

 
 ميِّز لي الشمس
ومن كليهما

 من شعاعها،
 ميِّز الحَرارة،

  إن استطعتَ.

 
 وإن كانت الشمس
إلا أن حَرارتها وشعاعها

 عند العُلويّين،
هما عند الأرضيين.

  يا للسرّ الظاهر!

 
 وكيف يلج النور
لا أحد يدرك هذا الأمر،

 الى العين؟
كذلك حلَّ مخلّصنا،

  في الحشا.

 
 يلبس النور،
منظرًا جميلاً،

 من داخل العين،
ويخرج فيزور

  كلّ البرايا.

 
 مثل مخلّصنا
ذلك الجسد الضعيف

 الذي لبس
وخرج وحلَّ

  في البريّة كلّها.

 
 وإذ انتقل
الى ينبوعه،

 ذلك الشعاع
لم ينفصل

  عن والده.

 
 ترك هنا
كما ترك ربُّنا

 حرارته،
الروح القدس

  عند التلاميذ.

 


الخاتمة

ويختم مار أفرام نشيده هذا مؤكِّدًا على وَحدانيّة الله وتثليته بجوهر واحد، ومحذِّرًا المؤمن من أن يشكّ بالثالوث الأقدس لئلا يهلك. ونحن معه وبكلامه نختم هذه المحاضرة ونقول لكلّ مؤمن وسامع (73/ 20 – 21):

 إختبِر الصور
ولا تشكّ

 في البرايا،
في الأقانيم الثلاثة،

  لئلا تهلك.

 
 ها قد بيّنتُ لكَ
الواحد ثلاثة

 ما كان صعبًا عليك،
والثالوث

  جوهر واحد.

 

[1] هذا نص محاضرة ألقاها حضرة الأب يوحنا يشوع الخوري المرسل اللبناني في مزار سيّدة لبنان في حريصا بتاريخ 4 كانون الثاني، وهي ضمن سلسلة محاضرات في سنة الإيمان.

Scroll to Top