Almanara Magazine

الإنسان مشروع الحبّ الإلهي

الخورأسقف كميل مبارك

تمهيد

تجعلنا النظرة التأّمُّليَّة في سلوك الإنسان الديني إلى أَيِّ ثقافة انتمى، نرى وجهًا من وجوه الله الذي يشكِّل سندًا لهذا الإنسان في حياته الشخصيَّة والإجتماعيَّة. وكأَنَّ الله قد وضع الخيور الضروريَّة لحسن مسار الحياة، وجعل من ذاته مقياسًا لكلِّ ما يجب أَن يكون، كي يصل الإنسان إلى استعمال هذه الخيور بشكل يبني بينه وبين الآخرين أَطيب العلاقات. وهذا دليل عملي واجتماعي على هبات الله ونعمه على كلِّ إنسان حتَّى إنْ أَحسَنَ التصرُّف، توصَّل إلى تدبير شؤون المجتمع بمسؤوليَّة، واستفاد من النعمة المعطاة له من أَجل خير الفرد والجماعة، عملاً بالقاعدة الذهبيَّة التي تقول إعمل بالغير ما تريد أَن يعمله الغير بك.

حين نقول إنَّ الله خلق الإنسان وما يرى وما لا يرى، فنحن لا نعلن إيمانًا نظريًّا بهذا الواقع، بل نعلن محبَّة الله للإنسان ورحمته القصوى التي ظهرت في عطاياه. فهو واهب الوجود والحياة. وما صورة الله التي في أَبوينا الأَوَّلين، إلاَّ دعوة للإنسان لكي يكون صورة الرحمة وآلة الحبِّ الإلهي الذي لا يستطيع أَمر أَن يخفيه حتَّى الخطيئَة الأُولى، التي تعني إلى جانب المعصية، استمرار التجربة في محاولة نسيان هذا الحبِّ، والرغبة في تدبير شؤون الخليقة انطلاقًا من المصلحة الشخصيَّة. لقد شوَّهت المعصية طيب العلاقة مع الله وبالتالي شوَّهت الطبع البشري وشكَّلت عائقًا في طريق العلاقات بين الناس كما بين هؤلاء وسائر الخلق. وهنا تكمن أُصول الشرور التي تقلب التضامن إلى تنافر، والعدالة إلى ظلم، والكرامة إلى إذلال، كما تجعل من التدابير الإقتصاديَّة والسياسيَّة والتشريعيَّة، بعيدة عمَّا يحقِّق الخير العام. لقد دفعت المعصية الناس إلى الإنعزال فنشأَت الخصومات بين الثقافات وتعدَّدت أَوجه الحقيقة، وأَصبحت النسبيَّة الأَخلاقيَّة هي المقياس، ونسي الإنسان وجه الله فبات يرى على وجه أَخيه الإنسان عدوًّا طمَّاعًا منافسًا مقاسمًا له على خيرات الأَرض فقتله، وكانت الحروب وكان الإرهاب وعمَّ الموت والأَلم وصارت الأَرض واقعًا لا يُطاق.

الوصايا العشر طبع ومقياس

حين طاب لله أَن يدخل علنًا تاريخ الناس وثقافاتهم، كشف عن ذاته لشعب أَراده تمهيدًا لإعلان تدبيره لكلِّ الأُمم. لقد تمَّ هذا الكشف عبر ثقافة الناس ولغتهم وعاداتهم وأَخطائهم. وكانت أُولى ثمار هذا الكشف أَن عَرَفَ الإنسان إلهه الحقَّ، الذي يعرف حاجاته وضروريَّات حياته انطلاقًا من التحرُّر من العبوديَّة إلى التحرُّر من كلِّ ما يشوِّه الحقيقة. أَوَلم يقل الله لموسى: لقد رأَيت بؤس شعبي في مصر وسمعت صراخه فأَتيت لأُحرِّره.

لقد تجلَّى واضحًا وعلنًا على طور سينا، العهد بين الله والإنسان، فبعدما حرَّره من ظلم الناس، أَعطاه الوصايا العشر، لكي ما يعمل بموجبها ردًّا على الحبِّ الذي بادره به الله، وشكرًا على نعمه، وانخراطًا في مشروع الله عبر تاريخ البشر(1). فالوصايا العشر التي تشكِّل نهجًا لحياة متحرِّرة من عبوديَّة الخطيئة، ليست إلاَّ إعلانًا للقانون الطبيعي الذي وضعه الله في كيان الإنسان ليعرف الخطأ من الصواب استنادًا إلى هذا القانون، إنْ لم يجد من يرشده من خارج ذاته إلى الخير. هي تدلُّنا على طيب طبع الإنسان، كما تشير إلى واجباته من ناحية وإلى حقوقه من ناحية أُخرى(2). هذه الوصايا هي تعبير عن شموليَّة القواعد السلوكيَّة الأَخلاقيَّة التي تجعل الحياة الإجتماعيَّة ممكنة ومقبولة(3). فهي إلى جانب كونها تمثِّل حسن العلاقة مع الله، تشكِّل أَيضًا مقياس الإلتزام بحسن العلاقة مع الناس في المجتمع. وكما في الوصايا كذلك نرى في تثنية الإشتراع دعوةً إلى التضامن مع الفقير والغريب لكي ما تسود العدالة.

اليوم تحقَّق هذا الكلام

عندما دُفع كتاب النبي أَشعيا الى يسوع في المجمع ليقرأَ، فتحه وقال: روح الربِّ عليَّ، ولهذا مسحني لأُبشِّر المساكين، وأَرسلني لأُنادي بإطلاق الأَسرى وعودة البصر الى العميان، وأُطلق المقهورين أَحرارًا وأُنادي بسَنَةٍ مقبولة لدى الربِّ(4). ثمَّ التفت الى الجمع وقال: اليوم تمَّت هذه الكلمة التي تُلِيَت على مسامعكم. لقد أَحيا يسوع في ذاكرة سامعيه ثمار السنة اليوبيليَّة، مقرِّباً إلى أَذهانهم صورة رحمة الله التي لا تغفل أَحدًا. فقد لامست هذه الرحمة عقل الإنسان وقلبه ومسار حياته، حتى توحدَّت مع شخص يسوع المسيح الذي به تمَّت رحمة الله.

وعندما قال السيِّد المسيح: مَنْ رآني فقد رأَى الآب، أَراد أَن يبيِّن لسامعيه، ومن خلالهم لجميع البشر، حقيقة الأُبوَّة الإلهيَّة وكيف تتصرَّف مع الناس.

أَمَّا الحبُّ الذي بدا في تصرُّفات المسيح، فما هو إلاَّ ذاك الحبُّ الذي تبادله الآب والإبن والروح القدس في وحدة الثالوث. والعهد الجديد زاخر بما يُثبت هذا الكلام. فحين أَعلن المسيح رحمة الله المحرِّرة بدأ بالمساكين المهمَّشين ودعانا لنتبعه ونفعل فعله.

وإذا كان وعيُ المسيح لبنوَّته الإلهيَّة كاملاً وفريداً، فهو لم يحرم أَحداً من هذه البنوَّة، لا بل كان من جوهر مهمَّته، في التجسُّد والموت والقيامة، أَن نشترك جميعنا في سرِّ البنُوَّة هذا. لهذا قال: لن أَدعوكم من بعدُ عبيداً، لأَنَّ العبد لا يعرف ما يفعله سيِّده، بل أَدعوكم أَصدقاء لأَنِّي أَخبرتكم بكلِّ ما سمعته من أَبي(5). كذلك بات الإنسان مدعوًّا ليعيش كما المسيح، وبعد القيامة، يحيا له وبه، وكلُّ هذا بنعمة الروح القدس الذي يُحيي فينا حياة المسيح ويُفْهمنا كلَّ ما قاله لنا. وعندها نستطيع أَن نكون مرسلين لننادي بإطلاق الأَسرى وبعودة البصر إلى العميان وبالتحرُّر للمقهورين، وبالخبز للجياع، وبالدواء للمرضى، وبالمنازل لمن لا بيوت لهم، وبالعمل للبطَّالين، وبالعدالة للمظلومين.

الحبُّ في وحدة الثالوث مرتكز محبَّتنا

حين خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، أَراده، من جملة ما أَراده، أَن يكون علاقاتيًّا مع الناس الآخرين، لأَنَّ الله الواحد في الثالوث يجسِّد الشركة العلاقاتيَّة بين الآب والإبن والروح القدس. ولمَّا كشف لنا المسيح عن سرِّ حبِّ الله في وحدة الثالوث، كشف في الوقت عينه دعوة الإنسان إلى عيش الحبِّ بالكرامة والحرِّيَّة كما كشف دعوته الإجتماعيَّة الكامنة في كيانه. وعندما صلَّى السيِّد المسيح لأَبيه ليجعلنا واحدًا كما هو وأَبيه واحد، فتح لنا باب المقارنة بين وحدة الثالوث وبين وحدة المؤمنين. وبالتالي لا يصل الإنسان إلى كمال إنسانيَّته إلاَّ بالعطاء المجَّاني وبذل الذات(6)، ذاك أَنَّ الحبَّ في الثالوث تجلَّى واضحًا على الصليب حيث بذل المسيح ذاته عن الناس حبًّا بهم. بناءً على هذه الثوابت، يكون كلُّ نشاط بشري في أَيِّ ميدان اتَّفق، منسجمًا مع مشروع الله الذي لا يكفُّ عن إظهار محبَّته للناس، إذا ما اقترن هذا النشاط بالحبِّ والكرامة والحرِّيَّة والبذل وطيب العلاقات بالتضامن من أَجل الخير. وهكذا يكون الإنسان رجلاً وامرأَة صورة الله المشعَّة بين الناس، فيظهر أَنَّه قادر بنعمة الله على السهر على الخليقة وتنظيمها بحسب مشروع الله الخلاصي(7).

أَعظم الوصايا

حين سأَل الكتبة يسوع عن أَعظم الوصايا قال: الوصيَّة الأُولى هي: إِسمع يا إسرائيل، الربُّ إلهك هو ربٌّ واحد فأَحبب الربَّ إلهك من كلِّ قلبك وكلِّ نفسك وكلِّ فكرك وكلِّ قوَّتك والثانية التي تشبهها هي أَحبب قريبك كنفسك وليس من وصيَّة أُخرى أَعظم من هاتين الوصيَّتين(8).

يردُّنا كلام المسيح هذا إلى القول إنَّ الخلاص مشروع الحبِّ الإلهي الذي تجلَّى بموت ابنه على الصليب، هو خلاص يشمل جميع البشر ويطال كلَّ إنسانٍ في موقعه التاريخي حيث يعمل ويأكل ويصلِّي ويتزوَّج ولكنَّه لا يكتمل فعله إلاَّ في العالم الآتي. فالخلاص يبدأ هنا على الأَرض لأَنَّ كلَّ الخليقة حسنة يقول الله، ولأَنَّ الإبن تجسَّد وأَصبح واحدًا منَّا، من لحمنا ودمنا، يجوع ويعطش ويأكل ويشرب، فالتجسُّد قدَّس الطبع وقدَّس الطبيعة وقدَّس التاريخ. غير أَنَّ هذا الخلاص الذي يبدأ هنا ويكتمل هناك، يحتاج إلى تعاون الإنسان الحرِّ مع إرادة الله الخلاصيَّة. وهذا التعاون يكون باتِّباع الوصيَّتين اللتين قال عنهما المسيح: إنَّهما أَعظم الوصايا. فالأُولى تربطنا بالله والثانية تربطنا بإخوتنا البشر، عن طريق العلاقات والمعاملة بالعدل والتضامن والحبِّ إلى درجة بذل النفس حتَّى في سبيل الأَعداء. وهكذا يبدو واضحًا أَنَّ الخلاص الذي يشترط إرادة الإنسان الحرَّة، يشترط كذلك سلوكه المجتمعي الذي يبدأُ حدُّه الأَدنى بأَن يفعل بالغير ما يريد أَن يفعله الغير به.

 موقع الأُمور الزمنيَّة في مشروع الحبِّ الإلهي

يطالعنا المجمع الفاتيكاني الثاني في فرح ورجاء قائلاً: إذا كنَّا نعتقد أَنَّ استقلاليَّة الأُمور الزمنيَّة تعني أَنَّ لا علاقة للمخلوقات بالله وأَنَّ الإنسان قادرٌ على التعاطي في شأنها دون الرجوع إلى الخالق، فنحن أَمام خطأٍ لا يُخفى على أَيِّ مؤمن، لأَنَّ الخليقة تصل بلا خالقها إلى الإضمحلال والتلاشي(9).

هذا يعني أَنَّ لا تضارب بين ما هو لله وما هو للإنسان، بل هناك علاقة محبَّة كما بين الآب وأَبنائه، حيث يكون نشاط الإنسان مباركًا من الآب الذي يفرح بجهد ابنه، ومقدَّرًا من الناس جميعًا لأَنَّهم إخوة شركاء بخيرات الأَرض وبميراث السماء، كلُّ هذا بالمسيح الذي يعطي للعالم معناه الصحيح وللإنسان دعوته المميَّزة. وهكذا يسود الإنسان على الأُمور الزمنيَّة مع تمام علمه أَنَّ الله سلَّطه عليها، فهي له ولكنَّها أَتته من عند الله. نستنتج أَنَّ هويَّة الإنسان وحرِّيَّته يزدادان رساخةً كلَّما قرأناهما على ضوء مشروع الله، وعشناهما بشركة معه. كما نستنتج أَنَّ القانون الطبيعي والإنتظام العام اللذين وضعهما الله في خليقته كلِّها، إنَّما هما لكي يستطيع الإنسان أَنْ يفهمها بالعلم والتقنيَّة والملاحظة، وبالتالي عليه أَن يحترم هذا القانون وذاك الإنتظام لئلاَّ يشكِّل خللاً في الخليقة مع سابق علمه أَنَّه أَعجز من أَن يصحِّح هذا الخلل.

لقد وهب الله الإنسان شرفًا يميِّزه عن سائر المخلوقات ويجعله يتجاوز أُفق العالم المخلوق، والمجتمع والتاريخ، ليصل إلى غايته القصوى التي هي الله نفسه(10)، وفي كلِّ مرَّة ينسى الإنسان أَو يتناسى هذه الحقيقة، يقع في القيود التي تجعله يظنُّ نفسه قادرًا وحده على المبادرة في أَيِّ مشروع زمني بعيدًا عن قيم الإيمان وعقائده. وكما الإنسان الفرد كذلك المجتمع البشري برمَّته، يتيه عن غايته القصوى حين يعتقد أَنَّ سعادته في الإنتاج والإستهلاك، وهذا ما يقف عائقًا في طريق تجسيد هبات الله وعطاياه في مسيرة التاريخ، ليس لأَنَّ الإنسان قادر على تفشيل مشروع الله بل لأَنَّه بحرِّيَّته التي ركبت موجة الخطأ، فَشِل هو في دخول مشروع الله الذي أَراده الله لأَجله. من هنا ضرورة أَن يعي الإنسان تمام الوعي، أَنَّ كلَّ نشاط اجتماعي أَو اقتصادي أَو سياسي يعبِّر عن مجتمعيَّة هذا الإنسان، هو نشاط مؤَقَّت لا يحمل في جوهره الديمومة والإستمرار. فالذين يستفيدون من هذا العالم كأَنَّهم لا يستفيدون لأَنَّ شكل هذا العالم زائل.

كلُّ ما قلناه أَعلاه يضع في خانة الخطأ جميع الأُوطوبِّيَّات والعقائد الإجتماعيَّة الطوتاليتاريَّة والنظريَّات التي تبني سعادة الإنسان على أُمور هذا العالم لأَنَّها تتعارض مع حقيقة الإنسان ومع مشروع الله للتاريخ. فحقيقة الإنسان تجلَّت بالمسيح المتجسِّد، وغاية التاريخ اتَّضحت على الصليب وبالقيامة.

موقع الكنيسة في مشروع الحبِّ الإلهي

الكنيسة في خدمة الملكوت

بدأَ المجمع الفاتيكاني الثاني كلامه عن الكنيسة بقوله: بما أَنَّ الكنيسة هي سرُّ المسيح، أَي العلامة  والأَداة للوحدة الوثيقة مع الله ولوحدة الجنس البشري بأَسره، فإنَّ مهمَّتها الأُولى والأَساسيَّة هي أَن تذهب إلى جميع الأُمم وتعلِّمهم ما سمعته من المسيح، وتبشِّرهم بالخلاص الذي تمَّ به، وتعلن لهم الملكوت الذي يبدأُ هنا على الأَرض ويكتمل في الحياة الأَبديَّة. وهكذا فعلت وما زالت تحمل البشارة بالفرج للأَسرى وبالبصر للعميان وبالعلم للأُميِّين وبالتحرُّر للمستعبدين وبالقيامة للموتى من أَقاصي الأَرض إلى أَقاصيها.

هذا لا يعني أَنَّ بعض علامات الملكوت الظاهرة لا يمكن أَن تكون خارج حدود الكنيسة الجغرافيَّة، أَي في الثقافات كلِّها، بقدر ما يمكن لهذه الثقافات أَن تحيا قِيَم الإنجيل عن معرفة أَو عن غير معرفة، لأَنَّ الروح يهبُّ حيث يشاء. غير أَنَّ هذا البعد الزمني للملكوت لا يمكن أَن يكتمل ويأخذ معناه الصحيح إلاَّ في ارتباطه بملكوت المسيح الحاضر في الكنيسة والمكتمل في العالم الآخر(11). هذا يعني أَنَّ الكنيسة متميِّزة تمام التميُّز عن أَيَّة جماعة سياسيَّة وأَي نظام سياسي(12). وإذا ما كانت المجموعات السياسيَّة كما الكنيسة، تتمتَّع كلُّها باستقلاليَّة ذاتيَّة كاملة، فهذا لا ينفي التزام الجميع، كلٌّ على طريقته وانطلاقًا من دوافعه وغاياته، خدمة الناس الشخصيَّة والمجتمعيَّة(13).

من هنا يمكنني أَن أُؤكِّد أَنَّ التمييز الواضح بين ما هو للدين وما هو للسياسة، هو في أَساس الحرِّيَّة الدينيَّة التي تدعو إليها المسيحيَّة بامتياز، وتشدِّد على أَن تعمَّ هذه الحرِّيَّة جميع الثقافات والمجتمعات، لأَنَّها من الدلائل الساطعة على كرامة الإنسان ونبل غايته. وهذا ما دفع الكنيسة إلى حمل مشعل التحرُّر من الطوتاليتاريَّات وذلك عبر البشارة بالملكوت التي تسمح للإنسان بأَن يعي حقيقة ذاته، ويدرك مقدار النعم التي يمنحه الله إيَّاها. فيطلب مختارًا التحرُّر من كلِّ القيود التي تجعل إنسانيَّته ترزح تحت امتهان الكرامة وحجز الحرِّيَّة والجهل والإنغلاق. فدور الكنيسة في البشارة والأَسرار أَن تشفي الكرامة الإنسانيَّة ممَّا يعتقده الإنسان حافظًا لهذه الكرامة، وهو بالحقيقة تحجيم لها وإذلال.

ملكوت الله وتجدُّد العلاقات الإجتماعيَّة

إن كانت مهمَّة الكنيسة الأُولى التبشير بالخلاص بالمسيح وبملكوت الله الذي يتمُّ ويكتمل في العالم الآخر، فهذا لا يعني إطلاقًا أَنَّ البشارة هي فعل تأجيل السعادة إلى ما بعد هذه الأَرض. وإذا كان من المستحيل أَن يتمَّ الملكوت في تطبيق النظريَّات السياسيَّة والعقائد الإجتماعيَّة والأُوطوبِِّيَّات، فهذا لا ينفي أَن تكون انطلاقة الملكوت جماعة إنسانيَّة تقدَّست بالتجسُّد والفداء وشكَّلت خميرة المجتمع بأَسره، وسعت إلى ترقِّيه بالعدالة والتضامن والحرِّيَّة والمحبَّة لكي يطيب العيش على هذه الأَرض، كما تكون باب الرؤية الواضحة للبعد الأُخروي الذي يجعل الإنسان يرى مرجعيَّته وغايته فيسعى هنا على الأَرض، عبر العلاقات والمؤسَّسات، للوصول إليها في العالم الآتي.

أَليس هذا ما قصده الرسول بولس حين قال: أَنتم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح، فلا يهودي بعدُ ولا يوناني، لا عبد ولا حرٌّ، لا ذكر ولا أُنثى، فإنَّكم جميعًا واحدٌ في المسيح يسوع. فالتجدُّد لا يلحق الأَشخاص فحسب بل العلاقات بين الناس. وهكذا تكون البشارة حافزًا على الشوق إلى المستقبل عبر تجدُّد الحاضر، إذا ما قبل هذا الحاضر إلهامات الروح.

فالروح القدس الذي يسير بشعب الله إلى سعادته القصوى، هو هو، يملأ الكون، ويلهم هنا وهناك، عقول الناس المؤمنين كي يجدوا حلولاً لمشاكلهم وطرقًا تجعل حياتهم فعل فرح واطمئنان وسلام (14)، ويدفع هؤلاء إلى زرع بذور التجدُّد بالروح في جميع الثقافات والجماعات والمؤسَّسات، عبر انفتاحهم أَوَّلاً على أَصحاب النوايا الحسنة والإرادات الطيِّبة، وصولاً إلى جميع خلق الله الذي وضع الله في ضمائرهم ونشاطاتهم الروحيَّة والعقليَّة والعمليَّة إستعدادًا لقبول التجدُّد.

فرح ورجاء من أَعمال المجمع الفاتيكاني الثاني

جاء نصُّ الدستور الرعائي فرح ورجاء من أَعمال المجمع الفاتيكاني الثاني حاملاً جواب الكنيسة على انتظارات العالم المعاصر وتساؤلاته. وهو حين شدَّد على كون الكنيسة شعب الله، أَلقى بظلٍّ جديد على جميع نصوص تعليم الكنيسة الإجتماعي السابقة، فجعل من حياة المسيحيّين شهادة حيَّة ومستمرَّة وظاهرة لحضور الله في العالم. وهكذا أَظهر المجمع وجه الكنيسة المتضامنة وجوديًّا مع الجنس البشري والتي يشكِّل تاريخها تاريخه(15)، ولهما في هذا العالم المصير نفسه، علمًا أَنَّها تشكِّل بالنسبة للعالم، الخمير الصالح الذي يسعى بالمجتمع البشري للتجدُّد بالمسيح، فيتحوَّل إلى عائلة الله(16).

لقد عالج هذا الدستور الرعائي فرح ورجاء، مواضيع الثقافة والإقتصاد والزواج والعائلة والمجتمع السياسي والسلام بين الشعوب، وكلُّ ذلك على ضوء انتروبولوجيَّة مسيحيَّة تظهر واضحة في رسالة الكنيسة، فجعل الإنسان مركز النشاط البشري برمَّته، فهو الغاية والمنطلق، وهو الذي أَراده الله لشخصه وحده من بين كلِّ الخليقة(17).

من يقرأُ فرح ورجاء يرى أَنَّ الكنيسة مجتمعة بكلِّ سلطاتها العليا، تتكلَّم ولأَوَّل مرَّة حول الوجوه الزمنيَّة للحياة المسيحيَّة، كما أَنَّها عالجت بعمق ملحوظ التحوُّلات الإجتماعيَّة والنفسيَّة والسياسيَّة والإقتصاديَّة والأَخلاقيَّة والدينيَّة، موقظةً بذلك الهاجس الرعوي لدى أَبنائها ليندفعوا بقوَّة الروح ويهتمُّوا بما للعالم كلِّه من هموم ومشاكل، فاتحين بذلك طريق الحوار الدائم مع العالم.

أَمَّا الوثيقة الثانية من أَعمال المجمع الفاتيكاني الثاني، والتي لا تقلُّ أَهميَّة عن فرح ورجاء، من حيث احتضانها لتعليم الكنيسة الإجتماعي، فهي البيان في الحرِّيَّة الدينيَّة: كرامة الإنسان، وفيها تعالج الكنيسة مسأَلة الحقِّ بالحرِّيَّة الدينيَّة وتردَّها إلى كرامة الشخص البشري، داعيةً السلطة المدنيَّة التي ترعى حقوق الإنسان وتسهر عليها، إلى أَن تحترم الحقَّ بالحرِّيَّة الدينيَّة وتشرِّع له وتحميه. أَمَّا القسم الثاني من هذه الوثيقة فيتناول الموضوع نفسه من وجهة نظر رعويَّة، مركِّزًا على ضرورة اعتبار هذه الحرِّيَّة، ليس حقًّا للفرد فقط بل للجماعات أَيضًا، كما ركَّزت على مفهوم التبشير عند المسيحيِّين واحترامه لهذه الحرِّيَّة. انطلاقًا من هنا رأينا من الضروري توضيح مفهوم الكرامة الانسانية.

كرامة الإنسان

لقد خلق الله الإنسان وميَّزه عن سائر الخلائق في الكون وراقبه واهتمَّ به وجعله سلطانًا على مخلوقات الأَرض وسيِّد نفسه، مسؤولاً عن أَعماله وسيؤَدِّي حساباً أَمام الله عن هذه الحرِّيَّة وهذا السلطان اللذين وهبهما الله له. وفي الوقت ذاته هو أَمام الناس، مساوٍ لكلِّ الناس، يقيم معهم علاقات يبنيها على التفاهم والمحبَّة. هذه الفرادة التي أَعطاها الله للإنسان من بين جميع خلقه، هي صورة الله، وهي ما نعنيه عندما نتكلَّم عن كرامة الإنسان.

هذا يعني أَنَّ كرامة الإنسان أَتت من أَنَّ صورة الله متأَصِّلة في طبيعته التي تحمل المادَّة والروح(18)، ومن أَنَّه مسؤول عن أَعماله كما تأتي من الحرِّيَّة التي منحته سيادته على نفسه(19).

لقد خلق الله الإنسان وفي كيانه ما يجعله يتبع ناموس الطبيعة الماديَّة، ولكنَّه وضع فيه قوَّة تدعوه إلى ما يفوق الطبيعة، وهذه الدعوة جعلت من كرامته أَمرًا كيانيًّا لا يمكن لأَحدٍ أَن ينتزعه منه.

لقد جعل الله الإنسان ذا بعدين آني ولا نهائي، أَمَّا من حيث الآني فهو قابل للتطوُّر والإنماء وطلب الكمال لجميع مواهبه(20)، أَمَّا من حيث البعد اللانهائي أَو الغاية القصوى فهو قابل لمعرفة الله ومحبَّته(21). من هنا تأتي عظمة عقل الإنسان وإرادته، كما عظمة كماله كشخص بشري. هذا ولأَنَّ الإنسان كائن روحي، هو منفتح ليس على الخيرات المحدودة فحسب بل على الخير المطلق.

إنَّ ارتباط الإنسان بما فوق الطبيعة جعله ذا كرامة مميَّزة(22). وكونه مخلَّص بالمسيح ارتفع الى مرتبة التبنِّي الإلهي(23) وأَصبح عضوًا في جسد المسيح السرِّي. هذه الغاية القصوى الفائقة الطبيعة التي دعي إليها الإنسان جعلته قابلاً لرؤية الله ومحبَّته.

الكرامة من صورة الله

تؤمن الكنيسة وتعلِّم أَنَّ الإنسان هو صورة الله الحيَّة التي اتَّضح كيانها ومعناها، بشخص المسيح الذي هو الصورة الكاملة الحقيقيَّة لله الآب، والذي كشف لنا سرَّ الله كما كشف لنا سرَّ الإنسان وحقيقته. هذا الإنسان الذي اكتسب كرامته من كونه صورة الله المفتداة بالمسيح، هو غاية نشاط الكنيسة في الشأن الإجتماعي، وهدفها أَن يعي دومًا عظمته ودعوته وغايته. فالتجسُّد الذي وحَّد ما لنا بما لله وأَعطانا ما له وأَخذ ما لنا، يدفعنا إلى العمل الدؤوب لكي تتحقَّق هذه الوحدة بشكل عملي وسلوكي، فنرى دائمًا وأَينما كان، أَخًا في كلِّ إنسان بدءًا بالمهمَّش والمظلوم لأَنَّ المسيح مات وقام لأَجل كلِّ الناس ومنهم هؤلاء.

تؤمن الكنيسة وتعلِّم أَنَّ الإنسان الذي جبله الله من تراب ونفخ فيه قوَّة الحياة، لم يعد شيئًا كسائر الأَشياء المخلوقة، بل شخصًا قادرًا على أَن يعرف ذاته ويملك على انفعالاته ويتصرَّف بحرِّيَّة ويبني علاقات مع غيره من الأَشخاص، وفوق كلِّ هذه هو مدعوٌّ إلى العهد مع الله خالقه، حيث يعلن مختارًا إيمانه وحبَّه(24)، وكونه صورة الله، بات يدرك أَنَّ في كيانه وجوهره ما يدفعه ليبقى على علاقة وطيدة مع الله، علاقة تنبع من ذاته ولا تأتيه من خارجها، لذلك فالإنسان قادر على أَن يتناسى هذه العلاقة أَو يموِّهها أَو يبعدها أَو يقطعها ولكنَّه لا يستطيع أَن يزيلها أَو يلغيها. من هنا ضرورة وعيه أَنَّه لا يستطيع أَن يحيا من دون الله. فالعلاقة بين الله والإنسان تتمظهر بشكل مجتمعي في علاقة الإنسان بأَخيه وبضرورة هذه العلاقة، لكي يحيا الإنسان حقيقة ذاته بالإنفتاح على الآخر والنموِّ العقلي والعاطفي(25).

من هنا جاء رفض الكنيسة للنظريَّات التي حاولت أَن تجعل الإنسان فردًا منعزلاً عن المجتمع، منقطعًا عمَّا يدور حوله وعمَّن يجاوره، وحده يبني ذاته وبالتالي يكون مسؤولاً عن ذاته. فالكنيسة لا ترى في الناس أَفرادًا يتجاورون كحبَّات الرمل على شاطئ العالم الواسع، بل تؤمن بعلاقاتيَّة الإنسان البنيانيَّة التكوينيَّة التي تمنعه من أَن يكون خليَّة منعزلة في جسم المجتمع(26).

وإذا ما علَّمت الكنيسة مجتمعيَّة الإنسان فهي لا تحصره في هذا المدى المادِّي، بل تقول بميزتين متكاملتين في الإنسان، فهو، من حيث كونه كائنًا ماديًّا، مرتبطٌ بهذا العالم عبر جسده المادِّي، أَمَّا من حيث كونه كائنًا روحيًّا، فهو مدعوٌّ إلى تجاوز المادَّة والبحث عن حقيقة وجوده الأَعمق، بعقله وحكمته التي هي قَبس من الحكمة الربَّانيَّة.

كما أَنَّ الكنيسة حين تتكلَّم عن نفس وجسد لا تعني طبيعتين متناقضتين اجتمعتا في الإنسان، بل تعني أَنَّ الوحدة بين المادَّة والروح كوَّنت الطبيعة الإنسانيَّة الواحدة.

فرادة الشخص البشري

هذا هو الشخص البشري الذي تعرف الكنيسة أَنَّه فريد من بين جميع المخلوقات، وأَنَّه وحده قادر على وعي ذاته والسيطرة على قواه. وحده يتمتَّع بالذكاء والفطنة والحكمة والحرِّيَّة التي تخوِّله فهم أَعماله. غير أَنَّ الذكاء والفطنة والحكمة والوعي والحرِّيَّة لا تشكِّل مجتمعةً الشخص البشري، لا بل كلُّ هذه قائمة بالشخص لأَنَّ الشخص موجود، ويبقى موجودًا حتَّى ولو خَسِر واحدة من هذه القوى أَو كلَّها، لذلك لا يمكن أَن نحصر الإنسان في إيديولوجيَّة معيَّنة أَو في نظام سلطوي أَو في قوانين ماديَّة. وهذا يستدعي احترامه من الأَفراد والمؤَسَّسات السياسيَّة والإجتماعيَّة، لا بل يُلزم هذه المؤَسَّسات على تأمين كلِّ ما يساعد الشخص البشري على النموِّ بالقامة والحكمة والمعرفة، لأَنَّ المجتمع والمؤَسَّسات التي تدبِّر شؤونه كلَّها مسخَّرة في خدمة الإنسان، فالمجتمعات العادلة هي تلك التي تحترم كرامة الشخص التي تتجاوز جميع المؤَسَّسات والقوانين والأَنظمة، لتصل بعلاقتها المباشرة إلى الله بالذات(27)، فاحترام هذه الكرامة هو قاعدة التعامل بين الناس دون استثناء، وهو الذي يدفع المرء إلى أَن يريد لغيره ما يريده لنفسه، وأَن يتعاون مع سواه على إيجاد ما يسمح للجميع بكرامة العيش. ولأَنَّ الشخص البشري يتجاوز العالم المادِّي ليجد كماله بالله ذاته، لا يجوز حصر غايته بالأَهداف الإقتصاديَّة ولا الإجتماعيَّة ولا السياسيَّة، لأَنَّ هذه تخضع في غالب الأَحيان إلى سلطات تتغافل عن العدالة تحت ستار الإنماء والنهضة ومضاعفة الإنتاج وقدرة الدولة.

الكرامة والحريّة

أمَّا الحرِّيَّة الملازمة لكرامة الإنسان والتي تدلُّ على وهج صورة الله فيه، فهي إنَّما أُعطيت له ليسعى حرًّا مختارًا نحو مبدعه كما نحو الخير والحقِّ، مدفوعًا من مستلزمات الكرامة وليس من رغباته وميوله، كما ليس تحت تأثير أَيِّ ضغط خارجي(28). فالحرِّيَّة المعطاة للإنسان، وإن كانت لا تتعارض مع ارتباط هذا الإنسان بخالقه، فهي غير قادرة بمفردها على تمييز الخير من الشرِّ، وهذا ما تعنيه كلمات سفر التكوين حول منع الإنسان من أَن يأكل من شجرة معرفة الخير والشرِّ، لذلك فالإنسان حرٌّ بقدر ما يتقبَّل وصايا الله(29)، وبقدر ما تتَّجه خياراته نحو الخير، وهكذا ينمِّي ذاته، فيكون والد نفسه(30) وضابط نظام مجتمعه.

لذلك يجب أَن نفهم الحرِّيَّة ككلِّ المواهب التي من الضروري أَن ننمِّيها بمسؤوليَّة، وإلاَّ ماتت كما البذور التي وقعت على الطريق فداستها أَرجل المارَّة، وبموتها هلاك الإنسان والمجتمع معًا. فممارسة الحرِّيَّة تقتضي توافق هذه مع القانون الأَدبي الطبيعي الموجود في الإنسان قبل جميع الحقوق والواجبات والذي نفخه الله فينا يوم تكوَّنَّا، وهو الذي يرشدنا إلى ما يجب فعله وما يجب تجنُّبه. وهذا القانون الطبيعي خصَّه الله بالطبع البشري، ومن هنا شموليَّته، وهو قابل للفعل بقدر ما يعيه العقل البشري. هذا ما يدفعنا إلى القول: إنَّ القانون الطبيعي وإرادة الله يلتقيان في الوصايا العشر التي تشكِّل الحدَّ الأَدنى من القانون الذي ينظِّم حياة الناس في المجتمع(31)، والتي تعبِّر بوضوح عن كرامة كلِّ إنسان وتؤَسِّس لحقوقه وواجباته بقطع النظر عن ثقافته ولونه وعرقه وجنسه ومكانته الإجتماعيَّة. فالله لم يستثنِ أَحدًا من الناس بل وهب الجميع كرامة أَن يكونوا على صورته. من هنا كانت مسؤولية الناس عن خير الارض وسلام البشر. وهذه المسؤولية تقوم على ثلاثة أعمدة هي: الخير العام، التبادلية والتضامن، وكلها من أجل المشروع الاساسي الذي هو الانسان.

الخير العام

حدَّد التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيَّة الخير العام بقوله: هو مجموعة الأَوضاع الإجتماعيَّة التي تسمح للجماعات وللأَفراد أَن يبلغوا كمالهم بوجه أَتمَّ وأَسهل. فالخير العام يهمُّ حياة جميع الناس، وهو يقتضي الفطنة من كلِّ واحد، خاصَّة ممَّن يضطلعون بمهمَّة السلطة، وهو يتضمَّن ثلاثة عناصر أَساسيَّة: إحترام الشخص البشري، الرفاهيَّة الإجتماعيَّة والإنماء، والسلام القائم على نظام عادل(32).

فالخير العام، كجميع مبادئ تعليم الكنيسة الإجتماعي، ينطلق من كرامة الشخص ليعود إليها، وبما أَنَّه عام فهو يفترض بما لا يقبل الجدل وحدة الطبع البشري، والمساواة بين جميع الناس، ولا يجد معناه الصحيح والكامل إلاَّ في واقع الحياة المجتمعيَّة. فهو إذًا ليس مجموع خيرات الأَفراد، ولذلك يبقى خيرًا عامًا لا يمكن تحقيقه إلاَّ بمشاركة الجميع وجهدهم. وكما أَنَّ العمل الأَخلاقي الفردي يتمظهر بفعل الخير، كذلك العمل المجتمعي الأَخلاقي يكتمل بتحقيق الخير العام. فالمجتمع الذي يسعى لخدمة الإنسان وخيره يضع نصب أَعينه الخير العام كهدف واجب التحقيق، لأَنَّ الإنسان لا يصل إلى كمال إنسانيَّته منفردًا بل بالحياة المجتمعيَّة مع الآخرين، عن طريق سعيه عمليًّا وفي جميع ميادين الحياة إلى فعل الخير. من هنا نقول: إنَّ المؤَسَّسات التي تعبِّر عن شركة الحياة في المجتمع كالعائلة والمدرسة والجامعة والمستشفى والإدارة والمشاريع والتشريع والإقتصاد، أَكان في المدن أَم في القرى أَم في الدولة أَم في مجموعات الدول، لا تستطيع أَن تتغافل عن الخير العام لأَنَّه أَحد منطلقاتها وأَهدافها وهي منه تأخذ وجودها وقوَّة ثباتها(33).

أَمَّا مسؤوليَّة السهر على الخير العام فتقع على عاتق الجميع، وفي طليعتهم السلطة، التي ترعى التحوُّلات الإجتماعيَّة بحسب متغيِّرات الزمان الذي تكون فيه، والمكان حيث تتفاعل وتطَّرد، وعليها في جميع الحالات مراعاة كرامة الشخص البشري واحترام حقوقه الأَساسيَّة. وفي طليعة مسؤوليَّات السلطة في هذا المجال: الإلتزام بالسلام، وتنظيم علاقة السلطات ببعضها وتحديد أَدوارها كي تصل لكلِّ شخص حقوقه كاملة، بدءًا بالغذاء والبيت والعمل والتعليم والنقل والصحَّة وحرِّيَّة التنقُّل وحقِّ معرفة الحقيقة وبعض المعلومات الضروريَّة للإستقرار، ناهيك عن حرِّيَّة المعتقد وممارسة الشعائر الإيمانيَّة، والملكيَّة الفرديَّة(34). هذا ومن واجب السلطة في الدول الديمقراطيَّة حيث تتَّخذ القرارات بالأَكثريَّة، أَن تراعي حقوق جميع أَفراد المجتمع ومؤَسَّساتهم، ولا تعمل فقط لما فيه خير الجماعة التي أَوصلتها إلى الحكم، كما لا يجوز أَن تعمل انطلاقًا من كونها رابحة وغيرها خاسر، ولا انطلاقًا من غايات شخصيَّة لترضي جماعة على حساب أُخرى.

وإذا كانت السلطة هي المسؤولة الأُولى عن السهر على الخير العام، فهذا لا يعفي كلَّ فرد في المجتمع من المساعدة في تحمُّل المسؤوليَّة، كلٌّ بحسب طاقته، وذاك ليس انطلاقًا من مردود الخير العام على الشخص، بل انطلاقًا من مَيْل الإنسان طبيعيًّا إلى الخير، ومن رغبته في تحمُّل مسؤوليَّته في المجتمع، وهذا يفترض أَن تَبحث عن خير أَخيك تمامًا كما تبحث عن خيرك الخاص. أَمَّا الوجه العملي السهل لهذه المشاركة فيظهر في مكافحة الغشِّ، وأَساليب الإحتيال التي يعتمدها البعض للإفلات من القانون والفرائض والواجبات الرسميَّة والإجتماعيَّة، كما يظهر في منع الرشوة قبولاً ودفعًا، فكلُّ هذه ومثيلاتها من الرذائل، تتنافى مع العدالة.

بالرغم من أَهميَّة الخير واهتمام الجميع بالسهر عليه وحسن تطويره، فهو ليس غاية بذاته، بل يكتسب قيمته من دوره في تحقيق فرح الناس وطمأنينتهم وتقدُّمهم على هذه الأَرض، ومن كونه وسيلة حسنة لبلوغ غايتهم القصوى التي هي الله، وهذا ما يضع الخير العام في خانة الأُمور التي تتجاوز حدود المادَّة والتاريخ(35)، خاصَّةً حين نؤمن بأَنَّ الخير الأَكبر والأَسمى قد تحقَّق للبشريَّة في سرِّ الفداء، وبه تصل إلى خيرها الفائق الطبيعة الذي هو السعادة الأَبديَّة في حبِّ الله اللامتناهي. أَمَّا إذا اكتفينا بالمدى المادِّي التاريخي للخير العام، وحصرنا مفاعيله في المساحة السياسيَّة الإقتصاديَّة للمجتمع، فينفصل عن غايته السامية التي هي سبب وجوده الحقيقي.

الخير العام وإعادة النظر في توزيع خيرات الأَرض

يرجع مبدأ إعادة النظر في توزيع خيرات الأَرض إلى الله الذي خلق الأَرض والإنسان وكلَّفه السهر عليها والعمل على حسن تدبيرها كي يستفيد من ثمارها، فالأَرض إذًا لجميع الناس ومن الواجب أَن يعمَّ خيرها بالعدل والمحبَّة على جميعهم(36) ، دون استثناء أَحد أَو حرمانه أَو استبعاده. فالأَرض ليست ملكًا لأَحد بل هي عطيَّة إلهيَّة للجميع، غايتها أَن ينعم الإنسان بها ليستمرَّ وينمو ويبني مع أَخيه علاقات التبادل والمحبَّة والعطاء على طريق غايته القصوى التي دُعي إليها. وهكذا يكون حسن توزيع خيرات الأَرض منطلقًا لحقِّ كلِّ إنسان بالحصول على الخير الذي يسمح باكتمال إنسانيَّته وبنموِّ قدراته، وبالتالي أَساسًا للمبادئ الأَخلاقيَّة في العدالة الإجتماعيَّة(37)، وركنًا هامًا من أَركان تعليم الكنيسة الإجتماعي. لذلك آلت الكنيسة على نفسها وضعه في مقدِّمة الأُمور التي سعت إلى توضيحها والتشديد عليها، فأَظهرت أَنَّه حقٌّ طبيعي وليس قانونًا وضعيًّا متعلِّقًا بالتحوُّلات التاريخيَّة. من هنا ضرورة وضعه في أَولويَّة اهتمام كلِّ نظام سياسي أَو إقتصادي أَو تشريعي، كي يكون فاعلاً ومُتَدَاخلاً مع جميع الحقوق الأُخرى المتعلِّقة بحرِّيَّة التجارة والملكيَّة وما شابه، تجنُّبًا للإحتكار والجشع وحرمان الناس من حقٍّ منحهم الله إيَّاه منذ كانوا(38).

هذا وإذا ما شدَّدت الكنيسة على حسن توزيع خيرات الأَرض فهي لا تعني أَنَّ كلَّ شيء ملك كلِّ إنسان أَو ملكًا للجميع، بل هي تضع المسأَلة في أَيدي السلطات المحليَّة والعالميَّة، لتنظِّم أَمر خيرات الأَرض بالتشريع الضروري داخليًّا وبين الدول، لئلاَّ تقع الفوضى فيكون الخير الذي أَعطانا الله إيَّاه سببًا للإقتتال والحروب، ولكي تضع هذه السلطات مبدأ حسن توزيع خيرات الأَرض أَمام الرؤى الإقتصاديَّة كي تأتي منسجمة مع المبادئ الأَخلاقيَّة التي تدلُّ دومًا على أَصل الخيرات وغاياتها، بغية الوصول إلى مجتمع تَسوده العدالة ويبنيه التضامن. وهكذا يستطيع كلُّ فرد وكلُّ جماعة الحصول على ما هو ضروري لتحقيق ذاته وإنماء قدراته فيشارك في تطوير المجتمع البشري، عوضًا عن أَن يكون عبئًا على الآخرين، أَو سببًا يدفعهم إلى استعباده عن طريق الجشع والطمع وحبِّ السلطة والمال، وكلُّها أَمراض حاول السيِّد المسيح أَن يَشفي المجتمع منها حين عاش تجربة الخبز والمال وسلطان هذا العالم.

وإذا كان مبدأ حسن توزيع خيرات الأَرض يتنافى مع الفوضى فهو لا يتنافى إطلاقًا مع مبدأ الملكيَّة الفرديَّة التي تضعها الكنيسة في خانة الحرِّيَّة البشريَّة لأَنَّها تراها نتيجة لنشاط الفرد واهتمامه، ولكنَّها ترى وجوب أَن تبقى ضمن مستلزمات العدالة التي تسمح للجميع بهذه الملكيَّة، دون أَن يتعبَّد الإنسان لماله، ويدرك دومًا أَنَّ قيمته في شخصه وليست في مقتنياته(39). فالكنيسة كانت دومًا وما زالت ترى الملكيَّة الفرديَّة أَمرًا حسنًا ولكنَّها ليست حقًّا طبيعيًّا، بل هي حقٌّ يخضع دومًا إلى حسن استعمال الخيرات العامَّة، وإلى حسن توزيع خيرات الأَرض، الذي يُظْهر بشكل مستمرٍّ أَنَّ الله وحده مالك الكون، وهو وحده واهب الخيرات للإنسان ليتصرَّف وينمو في هذه الحياة الدنيا(40)، وهذا لا يتناقض مع الملكيَّة الفرديَّة بل يُلزم المجتمع بتنظيمها لكي تبقى وسيلة لا غاية بذاتها. فالإنسان مدعوٌّ للنظر إلى ما يملك شخصيًّا، على أَنَّه مصدر رزق ومنفعة له ولسواه، ومن هنا ضرورة حسن استثمار الملكيَّة الفرديَّة لكي لا تكون فضَّة مدفونة في التراب. لذلك تدعو الكنيسة الأَفراد والدول إلى كسر طوق الإحتكار والخصوصيَّة، خاصَّة في ما يتعلَّق بالتقدُّم التقني، الذي يمثل اليوم بابًا رئيسيًّا من خيرات الأَرض، أَمام جميع الشعوب لكي ما يسهموا وبفعاليَّة، في تقدُّم المجتمع البشري.

لا شكَّ أَنَّ الملكيَّة الفرديَّة للأَشخاص وللمؤَسَّسات وللدول، تفتح الطريق أَمام أَصحابها لحياة فضلى، وللشعور بالأَمان، وتمهِّد السبل نحو توسيع المشاريع وكثرة الخيارات، غير أَنَّها في الوقت نفسه، تدفع النفس الأَمَّارة بالسوء إلى أَحلام وأَوهام تجعل من المال والمقتنى وكأَنَّه سبب السعادة الوحيد، فيتيه الإنسان عن سبب وجوده وغاية نشاطه في المجتمع، ويغرق في عبوديَّة جديدة هي عبوديَّة المادَّة. أَمَّا إذا ظلَّت الملكيَّة الفرديَّة تابعة لأَهداف الخير العام ولحسن توزيع خيرات الأَرض، فتجنِّب صاحبها هذه المتاهات وتجعله فاعلاً نشيطًا يربح وزنة واثنتين وعشر حين يتاجر بما أَعطاه الله من وزنات(41).

التبادليَّة

بدت التبادليَّة منذ رسالة الشؤون الحديثة للبابا ليون الثالث عشر، كأَحد أَبرز مبادئ تعليم الكنيسة الإجتماعي، لأَنَّها تعطي كلَّ القيمة المطلوبة لكرامة الشخص البشري في العائلة والجماعة والمؤَسَّسة، وفي كلِّ نشاط إقتصادي وثقافي ورياضي ومهني وسياسي، وفي جميع الميادين التي تنمو فيها شخصيَّة الإنسان المجتمعيَّة الحقَّة. فهذه كلُّها تشكِّل الإطار المدني للعلاقات بين الأَفراد والمؤَسَّسات التي تأخذ بدورها قيمتها المجتمعيَّة من مقدرة الإنسان التفاعليَّة. وبناءً على هذا المبدأ يُحْجِم الكبير عن فعل ما يستطيع الصغير أَن يفعله، ولكنَّه يبقى جاهزًا لكلِّ مساعدة من النصح والإرشاد والتقويم والمساندة. وهكذا تستطيع المؤَسَّسات الوسيطة أَن تقوم بدورها كاملاً فلا تتخلَّى عنه للمؤَسَّسات الكبيرة ولا تحرم الأَفراد من القيام بدورهم.

نستنتج أَنَّ التبادليَّة تحمي الصغير من طغيان الكبير، كما تدفع هذا الأَخير إلى مساندة الأَفراد والمؤَسَّسات الوسيطة في ممارسة نشاطها لكي ما يكون لها دور فاعل في المجتمع. وقد دلَّت التجربة على أَنَّ إلغاء التبادليَّة لصالح الديمقراطيَّة التي تهتمُّ بالمساواة بين جميع أَفراد المجتمع دون التمييز بين المواهب والقدرات، قد يؤَدِّي إلى الحدِّ من الحرِّيَّة ومن انطلاق المبادرة الشخصيَّة. وغالبًا ما نرى معقَّدات البوروقراطيَّة والحضور غير المبرَّر لبعض مؤَسَّسات الدولة، تناقض مبدأ التبادليَّة، وهذا ما يحصل غالبًا في الدول ذات الأَنظمة القمعيَّة، كما يحصل أَحيانًا في الأَنظمة الإقتصاديَّة التي تبارك الإحتكار وتسعى للكسب المادِّي بأَساليب ملؤها الجشع، ممَّا يميت المبادرات الفرديَّة والمؤَسَّساتيَّة الصغيرة. من هنا تسعى الكنيسة عن طريق مبدأ التبادليَّة إلى تنشيط المبادرة الفرديَّة وإلى اللامركزيَّة الإداريَّة، كما إلى احترام الخصوصيَّات العائليَّة والثقافيَّة عند الجماعات، كي ما يشعر كلُّ مواطن بدوره الفاعل في تحقيق الخير العام.

أَمَّا إذا رأَت الدولة أَو السلطة المركزيَّة أَنَّ التبادليَّة تحجِّم دورها لصالح الأَفراد والمؤَسَّسات الوسيطة، فذاك لا يعني إطلاقًا أَنَّ الكنيسة تريد أَن تلغي السلطة المركزيَّة من خلال تطبيق التبادليَّة لا بل هي تعطيها دورها الكامل والصحيح، كالسهر على تنظيم الحركة الإقتصاديَّة لئلاَّ يطغى الإقتصاد على السياسة وتصبح المسأَلة بأَيدي رأس المال وحركة السوق، فتفقد القيم دورها لصالح الربح والإستهلاك. كما يبقى دور السلطة ثابتًا وفاعلاً عندما يُساء إلى العدالة ويختلُّ التوازن الإجتماعي، فهي وحدها لها الحقُّ وتملك القدرة الكافية للتدخُّل من أَجل إعادة الأُمور إلى نصابها الصحيح، من أَجل العدالة والسلام. فالتبادليَّة ترشد السلطة إلى ضرورة التراجع حيث يجب التراجع والإقدام حيث يجب الإقدام، غير أَنَّها لا ترى ضرورة لبقاء البوروقراطيَّة التي تعرقل مسيرة النشاط الشخصي والمؤَسَّساتي.

التبادليَّة ومبدأ المشاركة

لمَّا كانت المشاركة المسؤولة واجب الجميع تجاه الخير العام(43)، جاءَت الكنيسة بمبدأ التبادليَّة لتجعل من هذه المشاركة التي تتجلَّى في مختلف قطاعات النشاط البشري، حقل الإبداع الشخصي، حيث يساهم كلُّ فرد مباشرة أَو بالوكالة، في الحياة المجتمعيَّة بوجهها الإقتصادي والسياسي والتشريعي والتربوي، وربَّما تصل هذه المشاركة إلى المستوى الدولي كي يظهر التضامن واضحًا وفاعلاً في المجتمع البشري بأَسره(44)، وهذا يتطلَّب جهدًا أَخلاقيًّا كبيرًا يسمح للكبار بالقبول بمشاركة الصغار وللأَغنياء بمشاركة الفقراء، وذلك تلافيًا لخلق أُطر من التمايز والأَفضليَّات، تجعل الإنقسام واضحًا بين القادر والعاجز أَو بين المستغني والمحتاج، على صعيد الأَفراد كما على صعيد الدول، لأَنَّ كلَّ تمييز من هذا النوع هو شكل من أَشكال العنصريَّة التي تؤَدِّي إلى الكره والخصومة والإقتتال وربَّما إلى الإرهاب.

وهكذا تكون التبادليَّة في خدمة الديمقراطيَّة الحقيقيَّة، لأَنَّها تسمح للفرد بالمشاركة الحقيقيَّة بحرِّيَّة ومسؤوليَّة، ليس فقط عن طريق ممارسة حقِّ الإنتخاب، بل عن طريق ميله الفطري إلى العمل مع الآخرين ومن أَجلهم. فالديمقراطيَّة التي تهدف إلى الحكم باسم الشعب ومن أَجل الشعب، تحمل في جوهر نشوئها مبدأ التبادليَّة والمشاركة(45). من هنا وجب على السلطة في الأَنظمة الديمقراطيَّة أَن تزيل كلَّ العوائق التي تمنع الأَفراد من المشاركة الصحيحة، وإلاَّ وقعت في ما تقع فيه الأَنظمة الطوتاليتاريَّة، التي ترى مشاركة الأَفراد في صنع مسار الشعب وفي تحقيق الخير العام خطرًا على كيانها.

نستنتج أَنَّ ممارسة التبادليَّة تشمل قطاعات المجتمع محلِّيًّا ودوليًّا، من العائلة والإدارة والإقتصاد والسياسة وصولاً إلى أَعلى سلطات العالم. فالأُمُّ التي تربّي ولدها تطبِّق معه مبدأ التبادليَّة كي ينمو ويتحرَّر ويستقلَّ. أَمَّا في الإدارة فلا يفعل الوزير ما يستطيع فعله المحافظ، وهذا لا يفعل فعل القائمقام وهذا الأَخير لا يفعل فعل البلديَّة أَو المختار. وكذلك في المجال المصرفي فلا يجوز أَن يقوم البنك الدولي مقام البنك المركزي في كلِّ دولة، ولا هذا مقام المصارف، وكذلك في القضاء والمدرسة والنقابة، وخير دليل على ما نقول، نظام العلاقات بين دول الإتِّحاد الأُوروبي سياسيًّا وماليًّا وتشريعيًّا، أَو نظام العلاقات بين الولايات في الدول الفدراليَّة أَو الإتِّحاديَّة. وبهذا نعود إلى حيث انطلقنا لنقول: لا يجوز أَن يفعل الكبير ما يستطيع الصغير أَن يفعله، بل عليه أَن يبقى ساهرًا جاهزًا للمساعدة والدعم والمراقبة والتوجيه، من أَجل إتمام العدالة وتحقيق الخير العام.

التضامن

ينبع مبدأ التضامن من كون الإنسان إجتماعيًّا بطبعه، ومن المساواة في الكرامة بين جميع أَبناء البشر وبالتالي المساواة بالحقوق والواجبات، كما ينبع من الإحساس المشترك بأَنَّ مسيرة الناس أَفرادًا وشعوبًا ستصل إلى توحُّد عالمي مبني على قناعات مشتركة. هذا وتزداد القناعة كلَّ يوم بأَنَّ علاقات الناس متداخلة بشكل يحتِّم عليهم التضامن على جميع المستويات(46). ناهيك عن أَنَّ التطوُّر التقني الهائل في مجال المعلوماتيَّة والإتِّصالات والمبادلات التجاريَّة، تجعل إمكانيَّة التلاقي بين جميع أَبناء الأَرض ممكنة ولو عن بُعد.

غير أَنَّ هذا التطوُّر السريع الذي لم تعرفه البشريَّة على مدى عمرها، وإمكانيَّة اللقاء وإنشاء العلاقات، لا يمكنها أَن تخفي الفرق الشاسع بين الدول المتقدِّمة والأُخرى النامية أَو المتخلِّفة، علمًا أَنَّ الوقائع التاريخيَّة والملاحظات الجغرافيَّة تدلُّ على أَنَّ هذا الفرق يزداد اتِّساعًا، وكأَنَّ العالم مقسوم إلى عالمين ينجذب كلُّ قسم منه إلى اتِّجاه. كما تدلُّ على أَنَّ استغلال البعض للبعض الآخر سياسيًّا واقتصاديًّا، ولَّد حقدًا دفينًا يتمظهر هنا وهناك بالعنف والإرهاب والفقر والرذيلة، ولا بدَّ من أَن يكون لهذا الأَمر انعكاسات سلبيَّة وخطيرة على المجتمع الدولي بأَسره وخاصة على الدول الغنيَّة والقادرة(47). من هنا ضرورة العمل من أَجل تضامن شامل قائم على الإلتزام الأَخلاقي، والتشريع الوضعي، وحتميَّة المصير المشترك للجنس البشري، وذلك تجنُّبًا لما لا يصبُّ في خانة خير العالم العام.

هكذا يكون التضامن مبدأً أَساسيًّا في تعليم الكنيسة الإجتماعي، قائمًا على مرتكزين واحد اجتماعي وآخر أَخلاقي. فالمرتكز الإجتماعي يسعى إلى إعادة هيكليَّة المؤَسَّسات عبر التشريع، وقواعد حركة السوق، وإنشاء دوائر جديدة تهدف إلى نقل المجتمع من هيكليَّة قائمة على الإستقطاب والإستغلال والقهر والحرمان والتمييز على أَنواعه، وكلُّها نتيجة الخطيئَة، إلى هيكليَّة قائمة على التضامن والتآخي وتوحيد الرؤية المستقبليَّة.

أَمَّا المرتكز الأَخلاقي فيدلُّنا على أَنَّ التضامن فضيلة أَدبيَّة أَساسيَّة، وليس إحساسًا بظلم المظلومين، أَو عاطفة تظهر أَمام آلام بعض المعوزين، أَو على إثر كارثة طبيعيَّة أَو إراديَّة حلَّت ببعض المجتمعات، ثمَّ تختفي مع زوال المحنة أَو مع زوال صورتها من رؤوسنا.

فالتضامن هو فضيلة العزم والثبات والإرادة والتصميم على العمل معًا من أَجل خير البشريَّة جمعاء، بقطع النظر عن بعض الأَحداث الأَليمة التي تضرب هنا أَو هناك، وذاك لأَنَّ الجميع مسؤول عن الجميع(48). من هنا يُمكن تصنيف التضامن بين الفضائل الإجتماعيَّة الأَساسيَّة لأَنَّه مرتبط بالعدالة، كما أَنَّه نابع من كلام الإنجيل حيث يقول: كلُّ من سقى كأٍس ماء باردة لأَحد إخوتي هؤلاء الصغار فأَجره لن يضيع، ولأَنَّ الخدمة واجب على الإنسان فالكبير لا يكبر بالقهر والإستغلال بل بالخدمة، تشبُّهًا بالمسيح الذي ما جاءَ ليُخْدَم بل ليَخْدُم.

التضامن في مسيرة تعليم الكنيسة الإجتماعي

لا شكَّ أَنَّ فكرة التضامن قد رافقت الكنيسة منذ أَيَّامها الأُولى، غير أَنَّ مدلول التضامن لم يأتِ بدالٍّ واحد، بل ورد عند ليون الثالث عشر تحت إسم الصداقة كما كان يعبَّر عنه عند اليونان، ثمَّ ورد عند بيُّوس الحادي عشر تحت إسم المحبَّة الإجتماعيَّة، أَمَّا بولس السادس الذي توسَّع بمفهوم التضامن ليتماشى مع تطوُّر الحركة المجتمعيَّة التاريخيَّة فأَطلق عليه إسم حضارة المحبَّة(49)، هذا ناهيك عن الصفات العديدة التي أُلحقت بمبدأ التضامن، وذاك في نصوص عديدة من تعليم الكنيسة الإجتماعي. فالبابا بيُّوس الثاني عشر ضمَّنه التوافق بين القانون والرحمة، وبولس السادس جعله واجبًا أَخلاقيًّا وإجتماعيًّا(50)، ويوحنَّا بولس الثاني وصفه بالفضيلة الأَساسيَّة وربطه بالعدالة.

هكذا يكون تعليم الكنيسة الإجتماعي قد شدَّد على علاقة التضامن بالخير العام، وبتوزيع خيرات الأَرض، وبالمساواة في الكرامة بين الناس، وبالعدالة بين الأَفراد والشعوب والدول، كما ربطه بالسلام محليًّا وعالميًّا، لأَنَّه المحرِّك الأَوَّل لكي يجد الناس قواسم مشتركة حيث تعمُّ التفرقة والتنازع والإنقسام، محاولين الخروج من الخصوصيَّة العمياء والفرديَّة الإنعزاليَّة التي تعمي الإنسان عن رؤية الآخر وقبوله وبناء ما هو ضروري لخير الجميع. فيستفيق ضمير الناس على دَيْن المجتمع عليهم، فيقدِّرون الثقافات والحضارات والتراث وما تركه لهم الآباء والأَجداد وما قدَّمه لهم العلماء والمبتكرون وما فعلته التكنولوجيا من خير وساعدت على رفاهيَّة الحياة. كلُّ هذه ديون يجب أَن يسعى المجتمع البشري بالتضامن لكي يحافظ عليها ويطوِّرها، إن لم يكن مطلوبًا منه أَن يفي ما عليه منها، وذلك خدمةً للأَجيال القادمة لكيما يعملوا معًا من أَجل استمرار الخير واستكمال مقوِّمات الحياة الفرحة، على مثال السيِّد المسيح الذي تضامن مع الجنس البشري فحمل آلامه حتَّى الموت على الصليب من أَجل فرح الجميع وسعادتهم.

تداخل المبادئ الأَساسيَّة بالقيم الإجتماعيَّة

ترى الكنيسة أَنَّ العلاقة بين المبادئ الأَساسيَّة التي ذكرناها والقيم الإجتماعيَّة مثل الحقيقة والحرِّيَّة والعدالة والمحبَّة، هي علاقة ثابتة ومتلازمة لأَنَّ القيم تعبير عن الخير الأَخلاقي الذي تسعى إليه الكنيسة عبر تحديد مبادئ تعليمها الإجتماعي، التي لو طُبِّقت لوصل المجتمع إلى مرحلة متقدِّمة من التنظيم. هذا وعلى الصعيد الشخصي فإنَّ القيم تدفع المرء إلى ممارسة الفضائل التي تصبح بدورها مواقف أَخلاقيَّة منسجمة مع تلك القيم.

أَمَّا نتيجة عيش هذه القيم النابعة أَصلاً من كرامة الإنسان، فتكون النمو الحقيقي لشخصيَّة كلِّ واحد من الناس، وبالتالي بنيان مجتمع متناغم وأَكثر إنسانيَّة، لأَنَّ هذه القيم تشكِّل المرجع الثابت لكلِّ من يعمل في الشأن العام، كما لكلِّ مسؤول في المؤَسَّسات المجتمعيَّة على جميع مستوياتها وأَهدافها، وهي تشكِّل الدافع الأَدبي لهؤُلاء المسؤولين ليسعوا إلى إصلاح يطال البنى الإقتصاديَّة والسياسيَّة والتربويَّة والتقنيَّة وذاك بهدف تطويرها وأَنسنتها(51).

هذا وترى الكنيسة أَنَّ استقلاليَّة الشؤون الزمنيَّة التي تدفعها للتحفُّظ أَمام الإنغماس بالأَرضيَّات(52)، لا تمنعها من التدخُّل في كلِّ مرَّة ترى أَنَّ خيارات الناس حتَّى في الشؤون التقنيَّة والزمنيَّة، قد حادت عن الفضائل والقيم وبالتالي لم تعد تحفل بالمبادئ الأَساسيَّة التي تضمن سلامة المجتمع وتؤَمِّن العدالة فيه.

خاتمة

أَرسل روحك فيتجدَّد وجه الأَرض

لقد كشف لنا المسيح أَنَّ الله محبَّة، وأَوصانا بحبِّ القريب كما النفس، لأَنَّ المحبَّة هي الناموس والأَنبياء وبها اكتمال إنسانيَّة الإنسان وبها طريقه إلى السعادة. وبالتالي تكون المحبَّة قاعدة التعامل بين الناس، ومحرِّك الديناميكيَّة المجتمعيَّة. ولمَّا وصلت هذه الديناميكيَّة في المجتمع البشري إلى مرحلة لامست القلق على المصير، كان من الضروري أَن يبحث البشر عن سبل التجدُّد التي تبعد عنهم الخوف والفراغ وتساعدهم على اكتشاف علل الإقتصاد والنظم السياسيَّة، والتلوُّث والإرهاب، والتهديد باستعمال الأَسلحة المدمِّرة، ناهيك عن الأَوبئة الجسديَّة الصحِّيَّة والأَخلاقيَّة، التي تسير مسار الرياح لتهدم العقول والنفوس وتصل إلى حدِّ يتساءل فيه العقلاء عمَّاذا بعد!

أَمام هذه الإنجازات تأتي الكنيسة بتعليمها الإجتماعي لتقرأَ علامات الأَزمنة وتضع اقتراحات للوصول إلى حلٍّ منقذ. يكمن في إعادة النظرعلى ضوء الحبِّ الإلهي في الإقتصاد والتشريع والسلاح والنزاعات والتجارب المختبريَّة على الحيوان والبشر، كما تجب إعادة النظر في العلاقات الشخصيَّة وفي العائلة ومفهومها وغايتها، لأَنَّ هذه كلَّها إن لم تكن الملكوت، فهي مهمَّة جدًّا في مراحل سير البشريَّة نحو هذا الملكوت،خاصة إذا أَحسنت المؤسَّسات تنظيم المجتمع بما يتوافق مع توجيهات الروح.

وهكذا يكون وعد الله الذي لا يخيِّب، وقيامة المسيح، حافزًا عند المسيحيِّين لحمل البشارة إلى كلِّ الناس فيجعلونهم يتوجَّهون بالإيمان نحو الأَرض الجديدة حيث العدالة والسلام وحيث تتحرَّر جميع نشاطات الإنسان من العبوديَّة(53) فتصبح كرامة الإنسان والأُخوَّة والحرِّيَّة ونشاطات الجهد البشري منقَّاة بفعل الروح، قابلة لأَن يرفعها المسيح قربانًا لله. وهكذا تتحقَّق كلمة السيِّد المسيح: تعالوا يا مباركي أَبي رثوا الملكوت الذي أُعدَّ لكم من قبل إنشاء العالم، لأَني كنت جائعًا فأَطعمتموني وعطشانًا فسقيتموني، وقلقًا فأَرحتموني، ومهدَّدًا فطمأَنتموني، وغريقًا في متاهات الضياع فانتشلتموني، ومستعبدًا فحرَّرتموني، وتائهًا في عالمٍ يسوده الطمع والمال والسلطة فأَمسكتم بيدي ورافقتموني.

بهذه السبل، من الخير والحبِّ والعدل، يُساهم نشاط البشر في تمهيد الطريق إلى تحقيق الملكوت الذي يبقى عطيَّة من الله تتمُّ وتكتمل في الحياة الأُخرى. وهذا ما يؤكِّد على أَنَّ إنسانيَّة الإنسان تنمو وتكتمل بالمسيح عبر العلاقات والنشاطات والمؤسَّسات التي تسعى إلى جعل العالم أَفضل وأَرقى، فيتَّجه نحو العدالة والسلام، ويعكس على هذه الأَرض صور الملكوت السماوي. وكلَّما تأمَّل الإنسان وجه المسيح وقام بما قام به، فأَطعم جائعًا وآوى غريبًا وزار مريضًا وأَطلق سجينًا وسامح وغفر ورحم وعطش وجاع إلى البر، كلَّما استفاقت فيه الرغبة في رؤية ومضات من الملكوت تتحقَّق على الأَرض.

المـــــــراجــــــع

1- التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ، 2062

2- المرجع السابق، 2070 

3- يوحنا بولس الثاني، عظمة الحقيقة، 97

4- لوقا،4، 18-19

5- يوحنا، 15،15

6- المجمع الفاتيكاني الاثاني، فرح ورجاء، 10

7- سفر التكوين، 28،1

8- مرقس، 12، 29-31

9- فرح ورجاء، 36

10- التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2244

11- يوحنا بولس الثاني، رسالة الخلاص، 20

12- فرح ورجاء، 76

13- المرجع نفسه.

14- بولس السادس، السنة الثمانون، 37

15- فرح ورجاء، 1

16- المرجع نفسه، 40

17- المرجع نفسه، 25

18- أمّ ومعلمة، 208

19- المرجع نفسه، 95

20- السنة الاربعون، 118

21- الشؤون الحديثة، 15 و 18 و 30

22- المرجع نفسه، 18

23- أمّ ومعلمة، 219

24- التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ، 357

25- فرح ورجاء، 12

26- السنة المئة، 13

27- فرح ورجاء، 26

28- المرجع نفسه، 27

29- عظمة الحقيقة، 35

30- غريغوريس النيصي، مجموعة الآباء الاغريق، 44، 327

31- التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1955

32- السنة الثمانون، 46

33- السلام في الارض، AAS، 55

34- فرح ورجاء، 26

35- السنة المئة، 41

36- المرجع نفسه.

37- يوحنا بولس الثاني العمل البشري، 19

38- بولس السادس، تقدّم الشعوب، 22

39- فرح ورجاء، 71

40- المرجع نفسه، 69

41- يوحنا بولس الثاني، الاهتمام بالشأن الإجتماعي 27- 34 و 37

42- السنة المئة، 48

43- التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1913 – 1917

44- الاهتمام بالشأن الاجتماعي، 44 و 45

45- السنة المئة، 46

46- العمل البشري، 14 و 15 وفرح ورجاء 42

47- الاهتمام بالشأن الإجتماعي، 11- 22

48- المرجع نفسه، 38

49- السنة المئة، 10

50- تقدّم الشعوب، 17

51- التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1886

52- فرح ورجاء، 36

53- المرجع نفسه، 39

Scroll to Top