القس الدكتور حبيب بدر[1]
القول بأن الإنجيليين بالعموم لا يؤمنون بالعذراء مريم غير دقيق ٠٠
هو غير دقيق لأنه ٠٠ بالمبدأ وبالمطلق ٠٠ لا أحد من المسيحيين “يؤمن” بغير الله. فالله هو الوحيد الذي يستحق منّا العبادة أو يصح أن يكون موضوع إيماننا. وأنا أكيد بأن الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية لا توصيان بعبادة العذراء مريم أو أي قديس آخر في الكنيسة.
المقصود بالقول بأن الإنجيليين لا يؤمنون بالعذراء هو أن الإنجيليين لا يكرّمون العذراء مريم كما يفعل الكاثوليك والأرثوذكس، وأنهم بالعموم لا يقيمون لها ذكرا أو مكانة في فكرهم اللاهوتي أو تقواهم اليومية أو صلواتهم الكنسية والليتورجية.
لقد اتخذ الإنجيليون هذا الموقف المتشدد والمتحفظ لجهة تكريم العذراء منذ نشوء حركة الإصلاح في القرن السادس عشر. وقد حافظوا عليه حتى اليوم كردة فعل على مغالاة من جهة الكاثوليك (خصوصا في ذاك القرن) الذين أولوا العذراء مريم، وما زالوا، اهتماما وتكريما وعبادة فاق أحيانا اهتمامهم وعبادتهم للرب يسوع. وهكذا صار الإنجيليون يخافون الاقتراب من أي تكريم للعذراء مريم لئلا يُشتمّ منه أي انتقاص لشخص المسيح. حتى أننا لا نجد أي ذكر للعذراء في احتفالاتنا أو صلواتنا الكنسية، أو في عظاتنا الأحدية أو في ترانيمنا الإنجيلية (إلا في عدد قليل جدا منها، ومعظمها ميلادية).
وهنا لا بد من الإقرار بأننا كإنجيليين — وكردة فعل على ما اعتبرناه تطرفا كاثوليكيا رفّع العذراء الى مرتبة تفوق إنسانيتها ومنحها دور شريكة بالخلاص مع المسيح — ذهبنا الى “تطرف مقابل” فأحجمنا تماما عن التعاطي مع شخص مريم بالمطلق.
ولا بد أيضا من الاعتراف في بداية هذا المقال بجهل الكثير من الإنجيليين بما يعلّمه الكتاب المقدس عن العذراء مريم والتعمّق به والاغتناء منه. وبالتالي علينا الإقرار بتقصيرنا تجاه هذه الشخصية الكتابية العظيمة. وعندما لا نعير العذراء مريم أي اهتمام يذكر، ونغالي في تجاهلنا لهذه الشخصية الكتابية العظيمة، نقع في خطر تخلّينا عن مبدأ إنجيلي أساسي اعتمدته حركة الإصلاح منذ القرن السادس عشر، والذي يشدد جدا على التمسك بالكتاب المقدس كمصدر ضروري وكاف لإيماننا. وفي الأناجيل الأربعة وسفر أعمال الرسل توصيف مميز وملفت لدور العذراء مريم في حياة ابنها يسوع وحياة الكنيسة، ولفضائلها بعدما اصطفاها الله لتكون والدة لابنه يسوع. تجاهل العذراء مريم، إذا، هو موقف “لا إنجيلي!”
ولا بد أيضا وأيضا من القول بأن الأغلبية من المؤمنين الكاثوليك هم بدورهم يجهلون التعاليم الإنجيلية عن العذراء ٠٠والكثير منهم يجهل حتى بعض التعاليم الكاثوليكية عن العذراء. مثلا، ليس من مسيحي لا يؤمن بأن يسوع ولد من عذراء. هذه حقيقة كتابية إنجيلية لا يختلف عليها أثنان. ومع هذا يسألني أحيانا بعضهم قائلين “هل يؤمن الإنجيليون بعذرية مريم؟” وعندما أجيب بالإيجاب، يقولون لي: “لكنكم لا تؤمنون بعقيدة الحبل بلا دنس.” ويتفاجأ معظمهم عندما يكتشفون بأنه لا علاقة بين عذرية مريم لدى ولادتها يسوع، وعقيدة الحبل بلا دنس المتعلقة ٠٠ لا بولادة يسوع ٠٠ بل بولادة مريم نفسها من والديها يواكيم وحنّه، والتي تمّت، بحسب التعليم الكاثوليكي، دون انتقال الخطيئة الأولى (الدنس) من الأم (حنّه) الى ابنتها (مريم). صحيح أن الإنجيليين لا يؤمنون بعقيدة الحبل بلا دنس لأنها، أولا، لم تذكر في الإناجيل، وثانيا، لأنهم لا يرون ضرورتها اللاهوتية للحفاظ على طهارة العذراء، لكن هذا جدل لاهوتي مستقل عن موقف الإنجيليين من العذراء.[2]
السيدة العذراء كانت موجودة عند المنعطفات الأساسية والرئيسة في حياة المسيح والكنيسة الأولى. نجدها في حادثة البشارة تصغي الى الملاك في مطلع إنجيل لوقا الذي يبادرها بالتحيّة الشهيرة “سلام لك أيتها المنعم عليها، الرب معك، مباركة أنت في النساء،” وهذه العبارة هي بداية الصلاة الكاثوليكية الشهيرة “السلام عليك يا مريم.” كما نتعظ من ردة فعلها تجاه الملاك إذ تجيبه قائلة “هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك.” ونجد في هذا الكلام تسليما رائعا وإيمانا عظيما، نستشف منه صدى لكلمات الصلاة الربانية “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض،” كما لما ستقوله العذراء للخدام في قانا الجليل: “مهما قال لكم فافعلوه”. وسرعان ما نجدها بعد فترة وجيزة تتبادل الحديث مع نسيبتها أليصابات التي تخاطبها بكلمات فيها صدى لكلام الملاك: “مباركة أنت في النساء، ومباركة هي ثمرة بطنك.” وهنا أيضا نجد كلمات تردَّد في صلاة “السلام عليك يا مريم.”
وبحسب الكتاب أيضا، العذراء مريم هي “أم الرب” أو «حاملة الإله»، وهو ما دعا نسيبتها أليصابات أن تقول لها حين زارتها “من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي.” وهذا معتقدنا نحن الإنجيليين حسب تعاليم الإنجيل وآباء حركة الإصلاح الكبار في القرن السادس عشر مثل مارتن لوثر وجون كالڤن، اللذين أصرا على منح العذراء لقب “والدة الإله” (theotokos)، اللقب الذي يحمي ألوهيّة المسيح في رحم العذراء منذ لحظة بشارة الملاك لها.
وحتى مسألة تطويب العذراء مريم من قبل المؤمنين على مر الأجيال، هي واقعة إنجيلية كتابية مذكورة في إنجيل لوقا يمكن لحظها مرتين في الأصحاح الأول: مرة حين قالت لها أليصابات “طوبى للتي آمنت أن يتمّ ما قيل لها من قبل الرب.” ومن ثمّ أعادت العذراء نفسها التأكيد عليها عندما أنشدت نشيدها الشهير “تعظم نفسي الرب” (المعروف بالـ Magnificat) إذ ردّدت قائلة: “هوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني، لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس.”
كما تظهر العذراء عند الصليب بعد أن هرب كل التلاميذ ما عدا يوحنا الحبيب الذي كان واقفا الى جانبها. ويقول الكتاب “فلما رأى يسوع أمه والتلميذ الذي كان يحبه واقفا قال لأمه: يا امرأة هوذا ابنك. ثم قال للتلميذ: هوذا أمك.” أما المشهد الأخير للعذراء في العهد الجديد فهو في العليّة مع التلاميذ قبيل يوم الخمسين بعد القيامة، وهي تواظب معهم ومثلهم على الصلوات والطلبة بانتظار حلول الروح القدس، فكانت إذ ذاك جزءا أساسيا، بل ركنا من أركان الكنيسة الأولى. فكما أن الرسل هم آباء الكنيسة الأوائل، كذلك العذراء مريم كانت الأم الأولى للكنيسة. ومن صفات العذراء العظيمة هي تسليمها الكامل والراضي للمشيئة الإلهية، خصوصا في وجه الألم والصعوبات والفراق والموت.
أما أن العذراء بقيت بتولا بعد ولادتها للرب يسوع، فهذا أمر وافق عليه الآباء المصلحون مثل لوثر وكالفن ولو أنه غير مذكور بالتحديد في الإنجيل، بل هو جزء من التقليد الكنسي، لكن كما ذكرت، المصلحون الإنجيليون أقروا به.
وفي سياق حديثنا عن التقليد، فإن حادثة انتقال العذراء الى السماء بالجسد، أو “رقادها” (حسب المفهوم الأرثوذكسي)، فهي أيضا جزء من التقليد الكنسي وليست مذكورة في الأناجيل. غير أن فكرة انتقال بعض الأبرار الى السماء بالجسد (أو رقادهم) ليست غريبة عن الكتاب المقدس. خلاصة الموضوع هو أنه بحسب التعليم الإنجيلي والكتابي، ليس ما يمنع أن ينتقل المؤمن الى السماء بالجسد ولا مانع لاهوتيا من الاعتقاد بأن العذراء انتقلت بالجسد الى السماء. فإيليا النبي بحسب العهد القديم لم ير الموت، بل انتقل الى السماء بعربة من نار (وكذلك أخنوخ). إذا إمكانية انتقال العذراء الى السماء بالجسد لا تتعارض مع الإيمان المسيحي الإنجيلي الكتابي. لكن الإيمان بانتقال العذراء مريم بالتحديد ليس عقيدة أساسية لإيماننا المسيحي الإنجيلي، وبما أنّ الحدث غير مذكور في العهد الجديد، فالإيمان به إذًا ليس ضروريا لكمال عقيدتنا وإيماننا. ما هو أساسي وضروري لإيماننا هو أن نتمثّل بالفضائل الإنجيلية الرائعة التي تحلّت بها العذراء مريم، وهذه الفضائل بالتأكيد تستوجب تكريمها وتطويبها.
تبقى مسألة شفاعة العذراء مريم للمؤمنين ودورها في الخلاص. هذا الموضوع شائك ومقسوم الى قسمين: قسم يتعلق بفكرة الشفاعة والصلاة من أجل الآخرين عمومًا، وآخر هو الشفاعة بمعنى الوساطة بين الله والبشر، وبالتحديد، الوساطة التي تكفّر عن خطايانا وتخلّصنا.
بالنسبة إلى مبدأ الشفاعة العام، لا يختلف الإنجيليون عن غيرهم بالإقرار بأننا جميعا يمكننا أن نتشفع لبعضنا البعض. فأنا كثيرًا ما أطلب من أشخاص أحياء أن يصلّوا لأجل شفائي مثلا، أو لأي غرض آخر. وحتى إمكانية شفاعة القديسين الذين سبقونا الى السماء موجودة مبدئيا في صلاة بعض الكنائس الإنجيلية التي تؤمن بالصلاة والتمجيد والتسبيح لله مع جماعة القديسين في السماء وعلى الأرض ومع سائر الملائكة والأجناد السماوية. إذا بالمبدأ، لا مانع لاهوتيا من الطلب من القديسين، وعلى رأسهم العذراء مريم، أن يصلوا معنا ولأجلنا ٠٠ علما أن هذه الصلاة الشفاعية غير ضرورية أو مفروضة على المؤمنين. فبالنسبة للمؤمن الإنجيلي العادي، شفاعة الرب يسوع كافية ووافية لتحقيق أي طلبة يطلبها من الله.
أما بالنسبة لمبدأ شفاعة العذراء مريم (أو باقي القديسين) لأجل غفران خطايانا أو خلاصنا نحن البشر ٠٠ وبالرغم من اعتراف الإنجيليين بدور العذراء الأساسي بالرضوخ لإرادة الرب عندما بشّرها الملاك بحبلها بالمخلص ٠٠ فان اللاهوت الإنجيلي يجزم بأن الوسيط الوحيد بين الله والإنسان لأجل غفران الخطايا والخلاص، هو الرب يسوع المسيح، ولا يشاركه أي بشر مخلوق هذا العمل الفدائي، لا مباشرة ولا غير مباشرة. وهنا ربما يكمن الاختلاف الأساسي بين الإنجيليين والكاثوليك حول العقائد والمبادئ الكبرى المتعلّقة بالعذراء مريم.
مع أن العذراء مريم هي فعلاً أم من أمهات الكنيسة، بل أعظمهنّ شأنًا وكرامة وهامة (كبطرس بين الرسل)، لكنها لم تعلّم أو تكتب رسائل كباقي الرسل. العذراء لم تنتقل من مكان الى آخر كباقي التلاميذ تبشّر وتعظ وتتطارح مع اليهود واليونان والرومان وباقي الأمم. منذ البدء، أعظم فضائل العذراء هي تواضعها وطاعتها للرب وتسليمها للمشيئة الإلهية وإيمانها. العذراء لبست الصمت وتوشّحت بالسكون والهدوء، واكتفت بالتأمل ووضع كل ما سمعت واختبرت في فكرها وقلبها. لذلك أود أن أنهي هذا المقال بصلاة كتبها أحد القسوس الإنجيليين المعاصرين يتطرّق فيها الى هذه الفضائل المريمية، والتي تجعل من السيدة العذراء نموذجا للمؤمن الحقيقي ومثالا للكنيسة المسيحية. يقول القس جان دو سوسير مخاطبا الرب يسوع:
“على مثال كنيستك، حيثما كنت كانت معك، لازمتك من مذودك الى صليبك. لا المجوس استطاعوا أن يلهوها عن المذود ولا الجنود الرومان أن يبعدوها عن الصليب.
أروع ما صنعته مريم، وقوفها قرب صليبك. وستظل عظمتها الحقيقية تنبع من جرأتها على البقاء واقفة عند قدميك ٠٠ واقفة موقف أمة الرب تنتظر أوامرك، واقفة موقف اليقظة والأمانة والطاعة، موقف الشجاعة التي لا تُغلب في وجه مضطهديك. وكل ما ننسبه إليها من تمجيد، لا يزيد ذراعا واحدة على القامة التي بلغتها أمام صليبك في ذاك اليوم الرهيب. آمين.“
قال الرسول بولس: “إن الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه . . . وواضعا فينا كلمة المصالحة. إذا، نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا.” العذراء مريم، ونحن معها، عظة الله للناس؛ العذراء مريم، ونحن مثلها، كلمة الله المصالِحة؛ العذراء مريم، ونحن متشبهين بها، صورة٠٠٠ بل ”أيقونة“ محبة الله للعالم. وكما حملت العذراء الكلمة في أحشائها، نحن كذلك ٠٠ إن حملنا الكلمة ولبسنا المسيح ٠٠٠ نصبح كهنة الله، حاملين الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصالحة.
نعم ٠٠٠يشع نور من العذراء، ومنّا كذلك إن تمثّلنا بها. غير أن نور مريم، مثل نور القمر، ليس نابعا منها، فهي تستمد نورها من الله وتعكسه محبة وتواضعًا وإيمانًا ورجاء على الأرض ولكل الذين يعرفونها ويتمثّلون بها.
العذراء مريم تستحق منا التطويب لأنها تستمد نورها ٠٠٠ وطوباويتها ٠٠ ٠من المسيح يسوع ابنها ٠٠٠ له وحده كل المجد. آمين.
[1] راعي الكنيسة الإنجيلية الوطنية في بيروت.
١-[2] أنظر مفال د. جورج صبرا: “الإنجيليون ومريم العذراء” في كتابه في سبيل الحوار المسكوني منشورات دار النفير. بيروت ٢٠٠١. ص ١٧١ – ١٨٨ وكتاب للقس تشارلي قسطه بعنوانمريم العذراء منشورات دار منهل الحياة وخدمة الكلمة الحية. بيروت ٢٠٠٩ (الطبعة الأولى)