Almanara Magazine

الإصلاح الليتورجي في الكنيسة المارونيّة

الخوري خليل الحايك

المقدّمة

مع احتفال الكنيسة الجامعة هذه السنة بيوبيل الخمسين على اختتام مجمعها المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني، الذي وُصِفَ بأنّه عنصرة جديدة، جمعت أضخم تجمُّع مسيحيّ في تاريخها، نتوقّف في هذه المقالة عند الملفّ الأوّل الذي عالجه آباء المجمع وأصدروه بصفة دستور في الليتورجيّا المقدّسة. ونعالج في محطّة أولى الخطوات العمليّة التي استقبلت فيها كنيستنا المارونيّة هذه الدعوة إلى التجديد الليتورجيّ، ومن ثمّ نعرض لأبرز الإنجازات في هذا المجال، إضافة إلى الملفّات التي لم تتمّ بعد دراستها.

بدأ عهد جديد في حياة الكنيسة وصلاتها مع إعلان قداسة البابا بولس السادس السعيد الذكر “دستور في الليتورجيا المقدّسة”، في نهاية الدورة الثانية للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، في الرابع من كانون الأوّل 1963.

هذا الدستور هو مجموعة مواضيع تهيمن عليها فكرة التجديد الطقسيّ، والهدف الذي تصبو إليه هو مجدُ الله وتقديس المسيحيّين.

وهو يتألّف من مقدّمة وسبعة فصول.

في المقدّمة، يُحَدَّد الهدف من التجديد وهو تقدّم المسيحيّة بما يتناسب وحاجات العصر لدفع الناس إلى حضن الكنيسة التي هي سرّ المسيح الإله والإنسان.

الفصل الأوّل: المبادئ الواجب اتّباعها في تجديد الليتورجيا وتقدّمها

الفصل الثاني: الإفخرستيّا

الفصل الثالث: الأسرار وأشباه الأسرار

الفصل الرابع: الفرض الإلهيّ

الفصل الخامس: السنة الطقسيّة

الفصل السادس: الموسيقى المقدّسة

الفصل السابع: الفنّ المقدّس وأثاث العبادة

هذا التجديد يتطلّب ذهنية وتهيئة من خلال تنشئة طقسيّة دائمة، وجهود جديدة على جميع صُعُد الحياة المسيحيّة من قراءة للأسفار المقدّسة، والتأمّل فيها، والوعظ عليها.

أوّلاً: كيف استقبلت الكنيسة المارونيّة هذه الدعوة الليتورجيّة؟

شكّلت الليتورجيّا المارونيّة بدورها موضوعًا هامًّا وأساسيًّا في مجامع الكنيسة المارونيّة، منذ نهاية القرن السادس عشر حتّى منتصف القرن العشرين. ولقد تجاوبت كنيستنا، بقدر ما سمحت الظروف، مع تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني ونداءات الباباوات المتكرّرة، وجدّدت في ليتورجيّتها، في الأسرار والعبادات والصلوات، في البُنية والنصوص، وفي مؤسّساتها الأكاديميّة والإكليريكيّة والرعويّة، مُلبّيةً شعار “دستور في الليتورجيّا المقدّسة”: “دعوة إلى الينابيع والأصول والجذور”.

  1. الرابطة الكهنوتيّة

أولت الرابطة منذ نشأتها الشأن الليتورجي اهتمامًا كبيرًا. فأصدرت سنة 1943، بُعَيد تأسيسها، “كتاب القدّاس الماروني للشعب” الذي أصبح فيما بعد “دليل المؤمن”. والغاية الأولى منه كانت إحياء دور الشعب في القدّاس. جُدِّد طبع هذا الكتاب سبع عشرة مرّة، ووُزِّعَت منه مئات آلاف النسخ. ونذكر أيضًا كتاب “شرح طقوس الأسرار” للخوري (المطران فيما بعد) ميخائيل ضوميط سنة 1954.

وكانت الرابطة أوّل مَن نظّم حلقات دروس ليتورجيّة، أهمّها تلك التي عُقِدَت في أيلول 1959 حول الطقوس، وتناولت “اللغة الطقسيّة” لسيادة المطران ميخائيل ضوميط، و”تمهيد للموسيقى السريانيّة المارونيّة” للأب يوسف الخوري، و”بعض مسائل راعويّة في الليتورجيا المارونيّة” للأب ماتيّوس اليسوعيّ، و”كتاب الفرض المارونيّ” للخوري (المطران فيما بعد) بطرس الجميّل، و”كيفيّة تعريب الأناشيد السريانيّة” للدكتور شفيق بدران، وحلقة أخرى خاصّة بالقدّاس المارونيّ 23-25 تمّوز 1973.

وكان لسيادة المطران بطرس الجميّل الإسهامات العديدة والثمينة في مجال الليتورجيا، منها مقالات تناولت “كتاب الفرض المارونيّ” و”البخور” و”القدّاس المارونيّ” و”الرتب الطقسيّة”، وكلّها نُشِرَت في المجلّة الكهنوتيّة. وكُتُب كثيرة منها: “صلاة المؤمن”، “القدّاس الماروني”، “مريم العذراء في الكنيسة المارونيّة”، “تذكارات الموتى في الطقس المارونيّ”، “كتاب القدّاس بحسب طقس الكنيسة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة” وغيرها الكثير من المنشورات بالفرنسيّة والإنكليزيّة.

ومن أعضاء الرابطة الكهنوتيّة المطران اسطفان هيكتور الدويهي الذي بدأ الإصلاح الليتورجيّ في كنيسة الانتشار منذ 1973 بترجمة كلّ النصوص الليتورجيّة إلى اللغة الإنكليزيّة. فكان أن أصدر كتاب القدّاس المارونيّ في أجزاء وبحسب الأزمنة الطقسيّة، ثمّ كُتُب الرتب مع الأعياد المناسبة لها، تمّ كُتُب الأسرار، وأهمّها الزواج والعماد، وكتاب الجنّازات، ثمّ كتاب الشرطونيّة أي الرسامات.

والمونسنيور منصور لبكي الذي تَرجَم الألحان المارونيّة إلى اللغة الإنكليزيّة وطَبَعها وَنَشَرها في أبرشيّة الولايات المتّحدة.

وبذلك تكون الرابطة الكهنوتيّة قد أسهَمَت إلى حدٍّ بعيد في النهضة الطقسيّة قبيل انعقاد المجمع وبعده. وما كان من تجدُّد وما أُحرِزَ من تقدُّم في السنوات السبعين الأخيرة، ساهم فيه ولا شكّ، الكثيرون غيرها.

  • معهد الليتورجيّا

تأسّس معهد الليتورجيّا، في جامعة الروح القدس-الكسليك، سنة 1969، بمبادرة من الأب يوحنّا تابت (قدس الأباتي فيما بعد) تلبية لنداء المجمع الفاتيكاني الثاني ولتحقيق أصالة شرقيّة صحيحة شاملة تنبع من التراث اللاهوتيّ، حيث يحتلّ التقليد الليتورجيّ منزلة رفيعة.

يُعنى هذا المعهد بدراسة الطقوس الشرقيّة عامّةً، ويستند إلى علم الليتورجيّا المقارنة. يستمدّ شموليّته من المسيح الحيّ الذي هو المحور، والألف والياء، في كلّ احتفال ليتورجيّ.

سعى المعهد إلى خلق ذهنيّة ليتورجيّة صحيحة، تساعد على تطوير العقليّات، وتعمل على تحقيق توعية شاملة، لأنّه، بدون هذه الذهنيّة الجديدة، تبقى المجادلات الليتورجيّة، مهما سَمَت قيمتها، عقيمة لا تنفذ إلى الواقع، فتغيّره وتنفحه بالروح والحياة.

إلى ذلك، يسعى المعهد أن يكون مركزًا لأبحاث علميّة ودراسات رصينة، إضافةً إلى الغاية المسكونيّة.

حقّق المعهد إنجازات عديدة، منها:

  • تفهّم أهمّيّة التراث الليتورجيّ الشرقيّ العريق، والتنقيب عنه، ودرسه ونشره، بجميع وجوهه الأنطاكيّة، والأورشليميّة، والمارونيّة، والبيزنطيّة، والملكيّة، والأرمنيّة، والسريانيّة، والكلدانيّة، مع انفتاح مستمرّ على التقليد الغربيّ.
  • خلق كوادر تعليميّة ساعدت وتساعد على الانطلاق في ورشة الاصلاح الطقسيّ الذي يعمل من أجله.
  • نشر كُتُب الفرض الماروني وبعض الرتب الطقسيّة، والمتعيّدات. وإغناء سلسلة منشوراته التي هي بجزءَين: المحاضرات والمتفرّقات، وعددها إلى اليوم 51 عنوانًا؛ والمصادر الليتورجيّة المارونيّة (البيت غازو المارونيّة)، وعددها حتّى الآن 28 كتابًا. هذه المصادر التي كان لقدس الأباتي يوحنّا تابت اليد الطولى في ترجمتها ونشرها تُعتَبَر اليوم الحجر الأساسيّ لكلّ إصلاح ليتورجيّ للفرض المارونيّ ولإعادة النظر في السنة الطقسيّة. وقام المعهد في السنتين الأخيرتين بتنظيم مؤتمرَين ليتورجيَّين، الأوّل عن الإصلاح الطقسيّ في الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة، والثاني عن المكرَّم البطريرك إسطفان الدويهي وإصلاحه الليتورجيّ.

مبرّر وجود المعهد، هو أن يكون في خدمة الكنيسة الشرقيّة، ومبتغاه أن يستفيد الجميع من برامجه ومكتبته ومستواه العلميّ، وعلى الأخصّ الكهنة القيّمون على خدمة الرعايا، أو الذين يستعدّون لمثل هذه المَهَمّة الرسوليّة المقدّسة.

وهدفُهُ المُضيّ قُدُمًا في البحث والتنقيب عن التراث الليتورجيّ الشرقيّ عامّةً، والمارونيّ خاصّةً، ووضع إمكاناته العلميّة كافّة في خدمة التثقيف الليتورجيّ للشعب والإكليروس.

  • اللجنة البطريركيّة للشؤون الطقسيّة

في النصف الثاني من القرن الماضي، قامت حركة طقسيّة ناشطة في مختلف الحقول، لا سيّما في تأليف الصلوات والتراتيل، فكثُرَ المصلحون، كلٌّ بحسب إلهامه. وسرعان ما تحوّلت هذه الحركة الطقسيّة من عمل إيجابيٍّ إلى تضعضع وفوضى في بعض الأماكن والأحيان ومع بعض الكهنة والرعايا. علاوةً على ذلك، راح دعاةٌ كُثُر للإصلاح الطقسيّ يسمحون لأنفسهم باستباط رُتَبٍ طقسيّة جديدة غير متطوّرة عن أصل مارونيّ خاصّ.

ومنذ مطلع السبعينات وأواخر الثمانينات، بدأت تتنظّم اللجنة البطريركيّة الليتورجيّة؛ وبدأت اجتماعاتها الدوريّة في مركز الرئاسة العامّة للمرسلين اللبنانيّين في جونيه. وبرز في تلك الحقبة المطرانان ميخائيل ضوميط ويوسف الخوري مع كوكبة من العلماء الليتورجيّين، من كهنة ورهبان من كلّ الرهبانيّات ومن الإكليروس الأبرشيّ.

بدأ الإصلاح الليتورجيّ المارونيّ يظهر بشكل واضح وصريح بعد المجمع الفاتيكانيّ الثاني الذي دفع نحو التجديد على قاعدة “الطقوس للشعب” وعلى مقاييس الكتاب المقدّس واللاهوت والاختبار الليتورجيّ المتطوّر في الكنيسة وفي كلّ كنيسة.

وبدأت مبادرات فرديّة ومؤسّساتيّة تظهر مع المطران بطرس الجميّل والأباتي عمّانوئيل خوري والأباتي يوحنّا تابت والمونسنيور ميشال حايك ومجموعة من الكهنة والرهبان، تجمّعوا ليفكّروا في كيفيّة الإصلاح الليتورجيّ الرعويّ عبر اللجنة البطريركيّة، يواكبها معهد الليتورجيّا في الكسليك.

وأتى التنظيم لهذه اللجنة البطريركيّة الطقسيّة، ليَضَع جدول أعمال بمشاريع الإصلاح التي كانت تتحضّر في الثمانينات. وبدأنا نرى ثمارها في مطلع التسعينات مع كتاب القدّاس. ومن هذا الاختبار إلى الاختبارات التالية التي تطال بعض رتب الأسرار وغيرها، لإنعاش الحياة الليتورجيّة في الرعايا؛ رافق إصلاح الرتب دراسات أكاديميّة موثّقة أصدرها الآباء واستندوا إليها لتبرير الإصلاح.

تضمّ اللجنة المركزيّة اليوم عشرات الأعضاء من أساقفة وكهنة وعلمانيّين، ولجان فرعيّة، ومنها الكتاب المقدّس، والموسيقى، والفنّ الكنسيّ، والصياغة، ومندوبي الأبرشيّات والرهبانيّات، ولجان متخصّصة تتفرّع من المركزيّة لدراسة موضوع محدّد يُعرَض عليها، ثمّ تبدأ مناقشته ودرسه وتهيّئ مشروعًا تعرضه على اللجنة المركزيّة ولا يصبح نافذًا إلاّ بعد موافقة مجمع الأساقفة الموارنة عليه.

  • المجمع البطريركيّ المارونيّ

قرّرت الكنيسة المارونيّة عقد مجمع بطريركيّ، يكون تواصلاً لسبعة عشر مجمعًا سابقًا، أوّلها مجمع قنّوبين (1580) وآخرها مجمع بكركي الثالث (1934)، وأشهرها المجمع اللبنانيّ (1736) الذي عُقِدَ في دير سيّدة اللويزة.

تكوَّنَ النصّ المجمعيّ الثاني عشر، “الليتورجيّا”، في المجمع البطريركيّ المارونيّ من دورة إلى أُخرى، مستفيدًا من المداخلات القيّمة، ليصلَ في محطّته الأخيرة، الدورة الثالثة، إلى التصويت عليه، ويحوزَ، بخلاصة نتائج التصويت، على أعلى نسبة بين سائر النصوص، أي على 25 صوتًا من أصل 27، تمامًا كما حدث في المجمع الفاتيكانيّ الثاني، مع “دستور في الليتورجيّا”، لأنّ الليتورجيّا كانت ولا زالت علامةَ الوحدة في الكنيسة.

استوحى هذا النصُّ المجمعيّ البطريركيّ من نصّ “دستور في الليتورجيّا المقدّسة”، ومن نصوص المجامع المارونيّة السابقة إلى نصّ مجمع الكنائس الشرقيّة “توجيه لتطبيق المبادئ الليتورجيّة الواردة في مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة” في الفاتيكان 1996.

وهو يتألّف من:

مقدّمة تشرح مكانة الليتورجيّا وأهمّيتها في حياة الكنيسة؛

فصلٍ أوّل يتناول الليتورجيّا المارونيّة، ويشرح أساسها وطبيعتها، وتطوّرها، ووضعها الحاضر والآفاق المستقبليّة، وميزاتها اللاهوتيّة؛

فصلٍ ثانٍ يركّز على تجديد الليتورجيّا المارونيّة، ويفصّل محطّاتها بدءًا بضرورة التجديد، فمبادئ التجديد؛

فصلٍ ثالث يتناول التنشئة الليتورجيّة: في المدارس الإكليريكيّة الرهبانيّة، والتنشئة المستمرّة للكهنة، وتوعية المؤمنين على المفاهيم الليتورجيّة، ودور المحتفل والشمامسة والمنشّطين، ودور الجوقة، وضرورة إشراك الشعب بشكل فعّال في الطقوس كافّة؛

فصلٍ رابع يتناول قواعد عامّة بشأن المشاركة في مختلف الرتب الليتورجيّة (أسرار التنشئة المسيحيّة، القدّاس أو الإفخرستيّا، الكهنوت والدرجات الكهنوتيّة، التوبة ومسحة المرضى، الزواج، الصلاة الطقسيّة وسائر الرتب والزيّاحات)؛

فصلٍ خامس يُعالج الفنّ الكنسيّ والأعياد.

ثانيًا: الإنجازات التي تحقّقت

  1. الإصلاح الليتورجيّ

الإصلاح الليتورجيّ هو ورشة دائمة في الكنيسة، يتمّ لحقبة زمنيّة معيّنة، لأنّ الليتورجيّا هي صلاة الكنيسة الحيّة، وعليها أن تخاطب إنسان اليوم.

وتجاوبًا مع توصيات المجمع الفاتيكانيّ الثاني، تقوم الكنيسة المارونيّة اليوم بإصلاحها الليتورجيّ. ينطلق العمل من وضع النصّ السريانيّ أساسًا للنصوص المصلحة التي تنبعث ترجمات، وكلّها تحافظ على العمق اللاهوتيّ والأصالة الروحانيّة التي تشكّل تراثًا تتناقله الأجيال وتعبّر فيه عن اختبارات روحيّة وإنسانيّة صالحة لكلّ جيل، مؤكّدة بذلك المبدأ الآتي: الهويّة والتطوّر هما شريعة الحياة في كلّ شيء.

والتجديد الطقسيّ لا يعني العودة إلى الممارسات الماضية، بل هو حسن قراءة للواقع الراعويّ استنادًا إلى التقاليد الثابتة وتطوّرها ضمن الخطّ الليتورجيّ السليم، حتّى تؤدّي إلى مشاركة شعبيّة فعليّة منسجمة مع روح الطقس والذوق السليم.

وأهمّ مبادئ التجديد هي:

  • الانطلاق من الأصالة الليتورجيّة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة، وحفظ هويّتها نقيّةً من أي دخيل يتعارض مع هويّتها ويغيّر ملامحها.
  • استحداث صيغ طقسيّة على قاعدة “التطوّر العضويّ”.
  • جعل الرتب رعويّة وشعبيّة، فيها حركة الرمزيّة والأناشيد، يشارك فيها الشعب اشتراكًا واعيًا ومثمرًا.
  • إمكانيّة التطوّر في الصِيَغ الليتورجيّة وفق حاجات العصر بحيث تتلاءم وتطلّعات الجماعات المؤمنة المتنوّعة.
  • استخدام لغة طقسيّة تتميّز بسهولة الصياغة، ووضوح المعنى وعمق الروحانيّة الكتابيّة واللاهوتيّة حتّى تساعد الجماعة على الدخول في ديناميّة الصلاة.
  • الإنتاج الليتورجي

ما أنتجته اللجنة البطريركيّة المارونيّة للشؤون الطقسيّة من رتب هو التالي: طبعة قدّاس 2005، كتاب النوافير وبالأخصّ نافور مار بطرس “شَرَر” الذي أُدرِجَ للاختبار بعد حوالي الثلاث مائة سنة من انقطاع رعويّ، كتب القراءات (الرسائل والإنجيل)، كتاب سرّ المعموديّة والميرون، كتاب سيامة الكاهن وكتاب سيامة الأسقف، كتاب الجنّازات، كتاب مسحة المرضى، كتاب التراتيل المارونيّة الليتورجيّة، كتاب رتبة التوبة. والمشروع الذي تعمل اللجنة عليه هو كتاب صلوات الساعات، وهناك لائحة أُخرى من المشاريع التي يتمّ العمل على تحقيقها.

أمام هذه المجموعة، الكتاب-الحدث، هو كتاب القدّاس المارونيّ طبعة 2005. سبق هذه الطبعة طبعة للاختبار سنة 1992 تيمّنًا بذكرى مرور 400 سنة على الطبعة الأولى لكتاب القدّاس المارونيّ التي تمّت في روما 1592-1594. فمن الطبعة الأولى حتّى تلك الماقبل الأخيرة ظهرت هيكليّة للقدّاس المارونيّ جمعت ما بين النمط الأنطاكيّ والنمط الراهويّ مع العلم أنّ النوافير الموجودة في الكتاب خارج نافور مار بطرس المعروف بشَرَر تنتمي كلّها إلى العائلة الأنطاكيّة. اغتنى في المشروع الجديد القسم الأوّل من القدّاس بتأثير إيجابي من صلوات الساعات عليه، تماشيًا مع التقليد الليتورجيّ.

تمّ إصلاح الكتب وفق القواعد الثابتة والمعايير التي رسمتها اللجنة المرتكزة على التحديث لا الاستحداث، والمحافظة على بنية الرتبة، كما في أصولها وكما قدّمها إلينا الليتورجيّ الكبير المكرّم البطريرك إسطفان الدويهي. وهنا نذكر عمل المونسنيور ميخائيل الرجّي ذات الجدّيّة العلميّة والليتورجيّة.

على الصعيد الفنّي الإيقونوغرافيّ، شهد العصر الحالي محاولات ومساعٍ حثيثة لإنتاج مشروع إيقونوغرافيّ متكامل لآحاد السنة الطقسيّة وأعيادها ولدورة القدّيسين. ولقد استندت بمعظمها على منمنمات ربّولا وبعض المخطوطات السريانيّة المتواجدة في المكتبات البريطانيّة والفاتيكانيّة، وأبرز الجداريّات الكنسيّة التي تعود إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر والمتواجدة في جبل لبنان والمناطق السوريّة.

وأبرز المشاغل الفنّيّة هي للفنّان المارونيّ الراحل صليبا الدويهي، وللأب عبدو بدوي الراهب اللبنانيّ مؤسّس معهد الفنّ المقدّس في جامعة الروح القدس-الكسليك، ومحترف أبرشيّة قبرس المارونيّة، ومحترف الأخت لينا الخوند الراهبة الأنطونيّة في روميه، إضافة إلى الكثير من المحاولات الناشئة.

كانت الكنيسة المارونيّة سبّاقة إلى الإصلاح الليتورجيّ، وهي، من بين الكنائس الشرقيّة، تنفرد بما حقّقته من إنجازات على هذا الصعيد. لكن، يبقى الكثير. وهذا ما تأمل الكنيسة المارونيّة بتحقيقه بواسطة اللجنة البطريركيّة للشؤون الطقسيّة، بالتعاون مع سائر الأبرشيّات والرهبانيّات ومعهد الليتورجيّا.

  • الصعوبات

من الصعوبات التي تعترض مسيرة الإصلاح هي اللغة الليتورجيّة؛ لغة السهل المُمتَنِع، أي لغة شعبيّة بامتياز، مفهومة من كلّ فئات المجتمع، لأنّ الكنيسة تجمع في احتفالها كلّ الفئات العمريّة والفكريّة. فليتورجيّتنا المارونيّة غنيّة بالألحان، وهي سريانيّة الأصل، واليوم تُعَرَّب وفق البيئة التي تواجَدَت فيها تاريخيًّا وتقليديًّا. لكن لا ننسى أيضًا اليوم حاجة النقلِ إلى اليونانيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة والإسبانيّة، حيث يقطن الموارنة ويشكّلون الأكثريّة في انتشارهم. هنا أيضًا نواجه صعوبات في الجمع بين الأوزان الشعريّة السريانيّة وتلك المنقولة إلى العربيّة واللغات المذكورة؛ طبعًا المبدأ الأساسيّ هنا هو النقل الأمين للمضمون اللاهوتيّ الكامن في هذه النصوص.

هذا الأمر يتطلّب مواجهة جدّيّة وتحضيرًا على المستويات، في الأشخاص، في المواهب، في الكوادر، والتحضير لها في اللجان وأصحاب الكفاءات المتخصّصة طبعًا في الليتورجيّا كعلمٍ أساسيّ، لكن أيضًا التخصّص في اللاهوت والكتاب المقدّس والفنون.

ثالثًا: ما لم يتحقّق بعد

ما زالت ورشة الإصلاح في بداياتها وما صدر حتّى الآن موضوع لفترة اختباريّة (ما عدا القدّاس) قبل أن يصدر في صيغته شبه النهائيّة. ولكن الكنيسة المارونيّة تنتظر بفارغ الصبر صدور المزيد من الإصلاحات الطقسيّة وأهمّها:

  1. صلوات الساعات أو ما يُسمّى بالفرض الإلهيّ

تهيّأ مشروع صلوات الساعات المارونيّ؛ فمن محاولات المطران الجميّل، إلى منشورات الكسليك، إلى الرهبانيّة الأنطونيّة، وإلى مشاريع ومحاولات، وإلى ما أُعِدَّ حتّى الآن من اللجنة الليتورجيّة واللجنة الكتابيّة واللجنة الخاصّة بالساعات، الوقت حان حتّى نوحِّد ونطبع ونقدّم إلى الاختبار الرعويّ صلوات الساعات. يتمّ المشروع بتقديم صلوات لجماعات، مكرّسة ورهبانيّة وأُخرى، ومنها إلى الجماعة الرعويّة المألوفة، فإلى كلّ مؤمن ومؤمنة مدعوّين للصلاة، وفق دعوة الربّ للجميع: “إسهروا وصلّوا”.

وإذا أردنا أن نستحضر في صلوات الساعات ما نسميّه الاستحداث بشكله الكلاسيكيّ، فيمكن في قسم الطلبات، إضافة صلوات وطلبات تحمل اختبار الجماعة المصلّية، من دون المسّ بالهيكليّة المارونيّة الخاصّة وبالفرادة التي تميّز الساعات.

وهنا يدخل دور الأيقونة والنور والبخور وحركة الناس والسلام بين أعضاء الجماعة والانحناء والسجدة والوقوف والتضرّع والنغم القويّ والنغم الخافت والصمت الذي انطلق تاريخيًّا من الشرق السريانيّ في القرن الرابع وفي رتبة القدّاس.

والجدير ذكره أنّ رئيس اللجنة البطريركيّة كلّف قدس الأباتي يوحنّا تابت إعداد ملفّ كامل عن صلوات الساعات استنادًا إلى كلّ الدراسات التي تحقّقت حتّى اليوم ليُصار إلى عرضه لاحقًا على أعضاء اللجنة.

  • جنّاز الأحبار والكهنة

كتاب جديد في طريقه إلى المطبعة. واللجنة البطريركيّة مدعوّة إلى الانكباب على تهيئة جنّازات الفئات المتبقّية.

  • السنة الطقسيّة المارونيّة

وهي على غناها ووضوحها بحاجة إلى إعادة نظر في بعض أزمنتها لملء بعض الفراغات، وتوضيح علاقتها المتداخلة بدورة القدّيسين.

  • كتاب الرتب البيعيّة والزيّاحات

لم يوضَع بعد على نارٍ حامية مع أنّه ضرورة ماسّة ومطالَب به بإلحاح. والمشروع يتطلّب العودة إلى الإصلاح الذي قام به المكرَّم البطريرك الدويهي والوارد في المخطوطَين الفاتيكانيّين 310 و312 على أن تحتَرِم كلُّ رتبة مستحدثة الروحيّةَ الليتورجيّة التي طبع بها إصلاحه.

  • الفنّ الكنسيّ

دراسات كثيرة أبصرت النور، بعضها يطالب بالعودة إلى التقليد في بناء الكنائس والبعض الآخر ينشد الاستحداث. لا بدّ اليوم من الاتّفاق على مبدأ أساسيّ يكون توجيهًا لكلّ مشروع بناء جديد.

الخاتمة

سَعَت اللجنة البطريركيّة للشؤون الطقسيّة وتسعى بأن تقدّم الأفضل؛ متطلّبات العمل ليست بالسهلة. الورشة الليتورجيّة تتواصل وتتطلّب تعاونًا مع لاهوتيّين وكتابيّين وشعراء وأدباء وموسيقيّين وذوي اختصاص في الفنون والإيقونوغرافيا والهندسة، لمتابعة العمل وفق معايير وثوابت تفتح باب المبادرات والإبداع أمام الجميع، كما تتطلّب أيضًا تنشئة ليتورجيّة دائمة للرعاة والكهنة والشعب.

في الليتورجيّا المارونيّة نطرح السؤال: أين كنّا قبل الثمانينات وأين أصبحنا اليوم؟ بالموضوعيّة نقول الإصلاح الليتورجيّ عمل جدّيّ، نموذجيّ أمام الكنائس الشرقيّة وبشهاداتهم. والرغبة المارونيّة التاريخيّة والثابتة هي الإصلاح الدائم المتجدّد للطقوس، إيمانًا أنّ هذا الإصلاح يساعد أكثر فأكثر في عيش السرّ الفصحيّ وتجديد الإيمان بالثالوث والشهادة لهذا الإيمان في قلب العالم.

المراجع

  1. المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ، دستور عقائديّ في الليتورجيّا المقدّسة، 183-250.
  2. المجمع البطريركيّ المارونيّ (2003-2006)، الملفّ الثاني، النصّ 12، الليتورجيّا.
  3. الإصلاح الطقسيّ في الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة، المؤتمر الليتورجيّ الأوّل، نيسان 2012، منشورات جامعة الروح القدس-الكسليك، معهد الليتورجيّا 52 (مجموعة محاضرين).
  4. معهد الليتورجيّا، 35 سنة في خدمة الكنيسة، 7 كانون الأوّل 2005.
Scroll to Top