الأب مروان تابت م.ل
منذ منتصف القرن لاماضي، ومع ما أعطى المجمع الفاتيكاني الثاني من دفع روحي وراعوي جديد للكنيسة، وخارطة طريق متجدّدة لرعاتها، تقوم على الإفادة مما توصّل إليه المجتمع المدني في تجربته مع عالم “القيادة”، وما بنى عليه في تبنّيه لمبادئ “الإدارة”، طوَّرت الكنيسة الغربية خبرتها الروحيّة وطعّمت مسيرتها الإدارية بجملةٍ من هذه المبادئ الزمنيّة، فاعتمدتها وعمّدتها لتصبح حالة قائمة لا غنى عنها. لقد ساهمت هذه الخيارات على إحداث نقلة نوعيّة، خاصة لجهة دفع ركب المسيرة الروحيّة والرعوية إلى مواقع جديدة ساعدت الأبرشيات والرعايا والمؤسسات الكنسيّة، التي تبنّتها وأفادت منها، من جهة، على النأي بنفسها عن مشاكل بنويّة في إدارة شؤونها، كما ساهمت، من جهة أخرى، في إرساء كمٍّ كبير من المفاهيم دخلت في صلب العمل الكنسي، فأضفت إليه حلَّة جديدة كان له الأثر الكبير، في بلورة الأهداف والمشاريع، وتجنيبها خلافات حتميّة حول كيفيّة تحقيقها، وبالتالي التأثير الكبير في جذب الشباب إلى متابعة حمل مشعل الإيمان ونشر الملكوت.
إنّ الحياة الروحيّة لا تتناقض في الملطق مع العمل الإداري، لا بل على العكس، يمكنها أن تصقله، وتجمّله، وتضفي عليه رونقًا فريدًا يفيد منه كلّ أفراد المجموعة التي تتفاعل في نطاقه وسياقه، فكيف إذا تلاحمت نِعَمُ الحياة الروحيّة ونتائجها في حياة الأفراد، مع مبادئ العمل الإداري ومفاعيلها في الجماعات…إنّه مزيجٌ لا تُقاوَم نتائجه الحتميّة، وقد أثبتت ذلك خبرات الأفراد والجماعات التي تبنتها، وهي واضحة ومُقنعة ومعروفة، لا حاجة لتعدادها.
انطلاقًا مما تقدّم، يأتي هذا البحث ليلقي الضوء على ناحية بسيطة من هذه المعادلة، نبنيه على قراءة موضوعيّة للفارق بين الروحي والزمني، والفردي والجماعي، والآني والماورائي في حياة من يقود ويُدبّر.
في المقاربات
إنّ كلّ فعل يتعلّق بحياة الإنسان وما يرتبط بها هو فعل إداري. وما يميز “فعلاً إداريًا” عن غيره هو صوابيتّه في الزمان والمكان. فإنّ ما يصلح في مكان وزمان ما، قد لا يصلح “في واقع آخر” أو “لواقع آخر”. وما يُهم هو “النعت” الذي يحمله هذا “الفعل الإداري”. أمّا في احياة الروحيّة فإن ما يميّز هذا الفعل هو صوابيته، من جهة في مساعدة من يطاله، ليرى من خلاله إرادة الربّ في حياته اليوميّة وفي مسيرته الإيمانيّة وفي سعيه إلى اللقاء الدائم بالمخلّص، ومن جهة أخرى، في ما يطاله “الفعل” تكريسًا من أجل خدمة المؤمنين الجادين في اكتشاف كنوز الملكوت السماوي، في يوميّات العالم الفاني. فمن هذا المنطلق، تأتي قراءتنا لمقاربة الحياة الروحيّة مع الإدارة.
إن الإرادة في العمل الكنسي هي فعل رعاية. والرعاية عمل إرسالي بامتياز، تنبع من مهمّة يسوع الأولى، والأَولَى لترتيب مسيرة الخلاص. فمشاهد العهد القديم في الإطار، لا تُحصى ولا تُعَد، وهي عليه كذلك في العهد الجديد. فالكتاب المقدّس، بعهديه القديم ولاجديد، قد ركّز على سلطة يسوع الراعويّة وهي بذاتِ فعلها إداريّة، كما ذكرنا، إذ تصبّ في خدمة من هم جادّون في السعي لخلاص نفوسهم.
الإدارة في العالم الزمني هي عمل إرادة الإنسان.
الإدارة في العالم الروحي هي عمل إرادة الله.
الإدارة في العالم الزمني هي احتلال المركز الأول.
الإدارة في العالم الروحي هي الرضى بالمحل الآخِر.
الإدارة في العالم الزمني هي تثمير لمقتنيات هذه الدنيا (ملكوت الأرض).
الإدارة في العالم الروحي هي تثمير لمقتنيات الدنيا الآتية (ملكوت السماء)
الإدارة في العالم الزمني هي سلطة على الآخر.
الإدارة في العالم الروحي هي سلطة مع الآخر و/ أو من أجل الآخر.
الإدارة في العالم الزمني تفترض أحيانًا استعلاء على الناس.
الإدارة في العالم الروحي هي جهد مستمرّ للتقرب من الناس.
الإدارة في العالم الزمني هي خدمة المصالح الشخصيّة أو مصالح المجموعة.
الإدارة في العالم الروحي هي خدمة المصلحة العامّة أو مصالح الجماعة.
الإدارة في العالم الزمني هي فعل تحقيق للذات (في خدمة غايات شخصيّة)
الإدارة في العالم الروحي هي فعل تحقيق للآخرين (في خدمة غايات الآخرين)
بعد أن أطعم تلاميذه خبز الحياة، دعاهم يسوع إلى الخدمة، وكان هو قد خدمهم وغسل أرجلهم، والراعي الصالح يوكل إلى بطرس رعاية القطيع كي يكون خادمًا له: “يا سمعان بن يونا، أتُحبّني أكثر من هؤلاء؟ إرعَ خرافي” (يو 21: 15 – 17).
في المقاربات
الإرادة في العمل الكنسي هي “سرّ مقدّس”، بمعنى أنّ من يقوم بالفعل الإداري، إنّما يقوم با باسم الكنيسة، عروسة المسيح. فالمجمع الفاتيكاني يتحدث عن “سرّ الرئاسة” وعن “تقليد سلطان الرعاية”. إنّها مبادئ ليست مبتدعة، إنّما هي نتسجة خبرة الكنيسة، عبر سنوات طوال، من التفاعل الروحي والتجاذب البشري، بين من حملوا المسؤولية أو حمّلوهم إياها؛ فيها من الجيّد ما بين جسد المسيح السرّي، ومن السيّء ما أضرّ به. لكن الكنيسة هي الكنيسة، إنها ليست من هذا العالم ورأسها حيٌّ، قائم من بين الأموات، يعمل بروحه، فعل “الحبلة” على “خردة البئر”. إنّه تجاذب الروحي والدنيوي في حركة حبّ وكراهيّة، تقارب وتباعد، قبول ورفض، قوّة وضعف، تنامي وركود…إنّها الحياة بعينها.
في العالم الزمني، قلّ ما يأتي إلى الرئاسة من ليس أهلاً، وإذا ما كان ذلك، تتدحرج الأرض من تحته. أمّا العالم الروحي، فيأتي إلى الرئاسة من ليس أهلاً، إمانًا بأنّ الله يعمل في الجماعة ويقودها من خلال الأشخاص، ويكتب “مستقيمًا على أسطر عوجاء” كما يقول المثل الشائع. إنّ الإرادة في العمل الكنسي هي فعل طاعة، وهذا عكس المنطق البشري والفكرالعمل البرغماتي…إنّه منطق التكرّس والحياة الروحيّة.
كلّما زاد فعل المحبّة، كلّما زاد حجم مفاعيل الرعاية. فلا محبّة دون طاعة: “إذا حفظتم وصاياي تثبتون في محبّتي كما أني حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته” (يوحنا 15:10). فالإرادة في العمل الكنسي هي حقيقيّة وصادقة إذا كانت، كما يعلّم الب ساسين زيدان، تلبية لدعوة وصيانة لضعف وعلامة حضور. فإنها لا تقوم بالفلكلور التنظيمي والعنجهة، بل بالعمل الجدّي لتتميم الخدمة المولج بها صاحب(ة) الرعاية بتكليف من المسيح، مواصلة لرسالته. فالمولج بمهمّة الرعاية الروحيّة هو وكيل أسرار الله، خادم حاجات شعبه أي جسده السرذي، لذلك هو / هي “أداة” يجب أن تكون طيّعة في يد حارث الملكوت.
إن “الفعل الإرادي” يختلف بماهيّته عن “الترتيب الإداري”. فالفعل الإداري يقوم دائمًا على قاعدته ثابتة تحكمها المبادئ، أمّا الترتيب الإداري فهو متقلّب، حينًا يقوم على قاعدة ثابتة، ومعظم الأحيان يقوم على تقنيات متحرّكة في المنطلق وفي الأهداف.
يندرج “الفعل الإرادي”، في جدليّة دفع أي حالة قائمة، إلى حالة أفضل، وبالتالي إلى واقع أفضل يتعلّق مباشرة بالانسان.
أمّا “الترتيب الإداري” فيندرج في جدليّة تنظيم الحالة القائمة، وبالتالي تنظيم أفضل للواقع القائم، وهو يطال في معظم الأحيان، الأمور والأشياء التي تتعلّق بظروف حياة الإنسان.
يسهُل تطبيق هذه المفارقة على معادلة الحياة الروحيّة والإرادة، عندما يكون لدى صاحب الرعاية، سهولة في إقامة العلاقات مع الآخرين، واستعداد باطني للإلتزام بحوار حياة مع من هو / هي مسؤول(ة) عن إدارة حياته أو حياتها. فهذا الحوار يحمل أفقًا، ويضحي بنّاءً، إذا ركّزه المولج(ة) بالرعاية على ثلاثة قواعد وابعد منها ثلاث محاذير.
القواعد الثلاثاء
سهولة الوصول إليه (أي المسؤول)، أي أن يتخلى الراعي طوعًا، عن بعض الامتيازات التي تُنتج حواجز علائقيّة متأتية عن طبيعة المسؤولية الإدارية، فيعمل على اعتماد سياسة “الباب المفتوح”. بمعنى آخر، أن يكون على إرادة الآخرين أو استبعاد لهم، باسمهم، إذ كانوا مصدر سلطته.
- سهولة الانفتاح لديه، أي أن يتحلّى الراعي باستعداد عفوي للخدمة، فلا تضحي المسؤولية وسيلة استحواذ على إرادة الآخرين أو استبعاد لهم، باسمهم إذ كانوا مصدر سلطته.
- سهولة إيحاء الثقة للآخرين، أيّ أن يتجلى الراعي بحلّة “الخادم الأمين” الحاضر دائمًا ليُساند أخوته في الإيمان، والخدمة، والرسالة، ومسيرة تقديس حياتهم، رغم الضعف والوهن والفشل أحيانًا. لنتذكّر استقبال القديس أمبروسيوس للقديس أغوسطينوس، عشية ارتداده إلى المسيحيّة، والأثر الذي تركه هذا القديس في مسيرته الإيمانيّة.
المحاذير الثلاثة:
- خطر القوقوع في شرك “حبّ السلطة”، التي هي مقبرة الرعاية الحقيقيّة، والعائق الأساس للقاعدة الذهبيّة الأولى “سهولة الوصول إليه”.
- خطر القوقوع في شرك “حبّ الشهرة” التي هي مكوّن فشل الرعاية الحقيقيّة والعائق الأساس للقاعدة الذهبية الثانيّة “سهولة الانفتاح لديه”.
- خطر القوقوع في شرك “حبّ الشهوة” التي هي مكوّن نزف الرعاية الحقيقيّة والعائق الأساس للقاعدة الذهبيّة الثالثة “سهولة إيحاء الثقة”.
إنّ اللعب بإرادات الآخرين والتضحيّة بهم من أجل الحصول على مجد العالم، والبحث عن اللذة الجسديّة، واقتناء أغراض العالم التي لا حاجة لها في خدمة الرعاية، تشكل الحاجز الأكبر لتوازن “الأفعال الإدارية” و”الترتيبات الإدارية” وهذا ما يؤثر سلبًا في مضامين المفاهيم الضامنة لسير الجماعات الكنسيّة والروحيّة نحو ملكوت السماوي.
خاتمة
بهذه الأفكار النابعة من الواقع نعيشه، يتوجّه إلى المولجين رعاية شعب الرب، اكليروسًا وعلمانيّين، دعوة للارتقاء إلى مرتجى أفضل، نأمل أن تكون هذه المقاربة البسيطة قد ألقت الضوء على حالة هي بحاجة ألى أعادة قراءة في ضوء المبادئ الإنجيلية والمسلّمات الروحيّة.
لم يشكّل الإنسان البداية حتمًا، ولن يشكّل النهاية بالتأكيد. ليس هو البداية ولا هو النهاية، على ما قال الكاتب المعروف بوسويه (Bossuet): “كان زمن طويل ولم نكن، وسيكون زمان طويل ولن نكون”.
فلكلّ من “ركب رأسه” وخرج عن خط الكنيسة الراعوي نقول: “عُدْ عزيزي عُدْ”.