Almanara Magazine

الآبُ، يُنبوعُ المراحِمِ الأزليّة، ومريمُ، أُمُّ الرحمةِ الإلهيّة

الأب هـانـي شـــــلالا  م.ل.

  1. اللهُ، يُنبوعُ المراحم الأزليّة:

إنّ اللهَ، بمراحمِه الوافرةِ، قد أشفقَ علينا في هذه الأزمنةِ الأخيرة، فوهبَ الكنيسةَ باباواتٍ قدّيسين: من بيوس الثاني عشر (1958-1939)، الى يوحنا الثالث والعشرين (1963-1958)، الى بولس السادس (1978-1963)، الى يوحنا بولس الأول (1978)، الى يوحنا بولس الثاني (2005-1978)، الى بندكتس السادس عشر (2013-2005)، الى فرنسيس (2013—–) الذي أعلن، بوحيٍ من الروح القدس،  أنَّ هذه السنة هي سنةٌ يوبيلية استثنائية تحت عنوان “سنة الرحمةِ الإلهية”. وفي هذا السياق، يقول البابا فرنسيس في مرسومه: “إنّ رسالةَ الكنيسة هي إعلانُ رحمةِ الله، القلبِ النابض للإنجيل، والذي من خلاله تبلغُ قلبَ كلِّ انسانٍ وعقلَه”، مُشيرًا الى أنّه “في زماننا هذا، الذي تلتزم فيه الكنيسة بالكرازةِ الجديدةِ بالإنجيل، لا بدّ من إعادةِ التركيزِ على موضوعِ الرحمة، بحماسةٍ جديدة وبعملٍ راعويّ مُتجدِّد. وينبغي على الكنيسةُ أن تعكس في خطابها وأعمالها، الرحمةَ، كي تدخلَ الى قلوب الأشخاص، وتحثّهم على السعي مُجدّدًا لاكتشافِ طريقِ العودةِ الى الآب”[1]. ويُضيف البابا: “إن يسوع يؤكّد أن الرحمةَ ليست تصرّفًا حصريًا بالآب، بل هي المعيار لمعرفة أبنائه الحقيقيين. وبالتالي فنحن مدعوون الى عيش الرحمة لأننا قد رُحمنا أوّلاً، فتُصبح مغفرةُ الإساءات التعبيرَ الأوضحَ للحبِ الرحيم، وهذا أمرٌ لا يُمكننا تجاهلَه نحن المسيحيين”[2]. فالرحمة إذًا هي لغةُ القلب التي يفهمها القريب والبعيد، الصغير والكبير، يسمعها الأصمّ ويقرأُها الأعمى، يعشقها الغريب ويهواها المريض، يُعانقها الكسيح ويُقبّلها الجريح. فلنتعلّم هذه اللغةَ الكونية التي يفهمها، لا البشرُ وحدهم، بل كلُّ كائنٍ يجري في عروقه دمٌ وماء، أو نورٌ وضياء.

وفي هذا السياق، يقول البابا يوحنا بولس الثاني: “هو اللهُ “الغني بالمراحم” الذي كشفَهُ لنا يسوعُ أبًا؛ هو ابنُه عينُه مَن أَظْهَرَهُ لنا بذاته وبرهنَ عنه بنفسه. وإنه لواجبٌ أن نذكر ذاك الزمنَ الذي توجّه فيه فيلبس، أحدُ الرسل الاثني عشر، الى السيد المسيح بقوله له: “يا سيّد، أَرِنا الآبَ وحسبُنا”، فأجابه السيد المسيح بدوره قائلاً: “أنا معكم كل هذا الزمن، ولم تعرفني بعدُ يا فيلبس…؟ مَن رآني رأى الآب”[3]. ويُضيف قداستُهُ: “إن عقلية هذا الجيل الراهن تبدو ربما أشدّ رفضًا للرحمة الإلهية من عقلية الأجيال السالفة؛ لا بل هي تسعى الى القضاء على فكرة الرحمة واستئصالها من قلب الانسان… فمن واجب الكنيسة أن تتفحّص التهديدات والمخاطر على ضوء الحقيقة التي تلقّتها من الله. وهذه الحقيقة المُتجلّية في المسيح عن الله أبي المراحم، تُتيح لنا أن نراهُ قريبًا جدًا من الانسان، خاصةً عندما يتألّم الانسان ويواجه المخاطر التي تُهدّده في حياته وصميم كرامته… في الواقع، ان الوحي والايمان يُعلّماننا، لا أن نتأمّل في سرِّ الله، أبي المراحم، بصورة مُجرّدة، بل أن نلجأ باسم المسيح ومع المسيح الى هذه الرحمة”[4].

إنّ الكتابَ المُقدّس يكشفُ لنا عن وجه الآبِ الغنيّ بالمراحم 3الذي، منذُ الأزل، يُفيضُ حبّه على مخلوقاته، ويُرافقها بعنايته، ويُجدّدها بنعمه، ويغمرها بمراحمه. وهذا ما سنحاول أن نُبَيِّنَهُ في بعض المشاهد الكتابية، بدءًا بالتكوين، مرورًا بالمزامير، وصولاً الى الأناجيل.

1-1- محبّةُ الله في الخلق ورحمتُه في الفداء

بالحب خلق اللهُ الكون والإنسان، وبالحب رحم اللهُ الإنسان فوعده بالخلاص، وبالحب الرحيم تمّم وعده بإرسال المُخلّص في ملء الزمان. فخطيئة آدم المثلثة الرذائل: الشراهة والطمع والكبرياء؛ قابلتها حكمة يسوع المثلثة الفضائل: الإماتة والتجرّد والتواضع. فآدم لم يستطع مقاومة اغراء ثمار الشجرة في وسط الجنة، فأكل منها؛ ولم يستطع مقاومة اغراء الاستزادة من المعرفة، فانفتحت عيناه؛ ولم يستطع أن يقبل حالته البشرية، فكان السقوط بدل الارتفاع. بينما يسوع فقد فضّل الجوع على اطاعة المُجرِّب، والأمانة للآب على خيرات العالم، والقناعة والتسليم لله على التمرّد على مشيئته. وفي هذا السياق، يقول القديس اغوسطينوس: “بالكبرياء جُرحنا، وبالتواضع نلنا الشفاء”.

  وإذا ما تأملنا بكلام الحيّة نرى أن ابليس يمزجُ بين الحق والباطل ليُضلّل البشر: “فقالت الحيّةُ للمرأة: موتًا لا تموتان، فاللهُ عالمٌ أنكما في يوم تأكلان منه تنفتحُ أعينكُما وتصيرانِ كآلهةٍ تعرفان الخيرَ والشرّ”(تك3/4-5). صَدَقَتْ الحيّة حين قالت: “في يوم تأكلان منه تنفتح أعيُنَكما، وتعرفان الخير من الشرّ”؛ ولكن كذِبَتْ حين قالت: “موتًا لا تموتان، وتصيران كآلهةٍ”.  فما الذي حدث حين انفتحت أعينُهما؟ لقد فقدا البراءة الأولى واكتشفا ثمار التمرّد والمعصية والاستسلام الى شهوات الجسد التي تقود الى الخطيئة والفساد والموت، وأصبحا قادرين على تمييز الخير الذي فقداه من الشرّ الذي اعتمداه. وبالتالي لقد عرفا أنهما عُريانان من تلك النعمة التي حفظتهما من الخزي والخجل، واكتشفا أنهما مُجرّدان من ثوب الأيمان والأمانة. ولذلك استترا بأوراق التين التي ترمز الى الأعذار الواهية التي يختبئ وراءها الإنسان ليُبرِّر خطيئته ويُخفي معصيته. وعندما ناداه اللهُ: “آدم، أين أنت”؟ أجابه: “إني سمعتُ وقع خطاك في الجنّة فخِفتُ لأني عُريانٌ فاختبأت” (تك3/9-10). فهل كان اللهُ يجهل مكانه؟ بالطبع لا، ولكنّه أراد الدخول مع آدم في حوار ليكشف له أنه لم يعد داخل دائرة النور، دائرة الصداقة والشركة معه، وأنه خرج من دائرة عنايته، وأصبح غريبًا عن خالقه بمعنى أن الله لم يعُد يعرفه، أي لم يعُد يتعرّف عليه، كما حدث في مثل العذارى الجاهلات حين قال لهنّ الرب: “الحقَّ أقول لكنَّ: إنّي لا أعرفكنَّ” (متى25/12).

فالهروب والاختباء وإيلاء الظهر، لا الوجه لله، هي ثمار التمرّد والعصيان؛ بينما نرى الأنبياء يقفون أمام الربّ وجهًا لوجه، على مثال ايليا وإليشاع، قائلِين: “حيٌّ الربّ الذي أنا واقفٌ أمامه” (1ملو17/1 ؛ 2ملو5/16).

        ونرى أن الخوف دخل قلب الانسان، ليس لأنّ الله مُخيفٌ، بل لأن الخطيئة جعلت آدم يفقد صورة الله التي تجتذبه اليه بالحب، ويفقد بالتالي ثوب الفضيلة النقي. وهذا ما جعل الله يتحوّل بالنسبة للإنسان من أبٍ محبٍ رحيم الى ديّان عادلٍ صارم. فلو كان اللهُ بطبيعته مُخيفًا ومُرعبًا، لشعر آدم وحوّاء بالخوف قبل المعصية. ومن الممكن أن يُطرحَ السؤال هنا: ولكن لماذا لم يمنحهما اللهُ التبرير والغفران مباشرةً بعد سقطتهما؟ لأنهما، على الأرجح، لم يُقرّا بخطيئتهما وخيانتهما، بل حاول كلٌّ منهما تبرير نفسه بإلقاء اللوم على الآخر: فآدم اتّهم حوّاء، والقى بالمسؤولية، بشكل غير مباشر، على الله الذي أعطاه المرأة، وحوّاء اتّهمت الحيّة، ولم يُقرّا بذنبهما ولا اعترفا بخطيئتهما ولا اعتذرا عمّا ارتكباه من عصيان، والحيّة لاذت بالصمت مسرورةً إذ نجحت بتحقيق أهدافها. فماذا كانت النتيجة؟ قال الربُّ للحيّة: “ملعونةٌ أنتِ مِنْ بينِ جميع البهائم… على بطنِكِ تسلكين، وتُرابًا كلّ أيام حياتِكِ تأكلين” (تك3/14).

لماذا لُعنتِ الحيّة؟ لأنها جعلت نفسها أداةً في يد ابليس. والحيّة هي صورةٌ لكل انسانٍ يرتضي أن يكون أداةً في يد الشرير، فيُصبح مصيره اللعنة. وبالتالي، فكلُّ بشرٍ يبيعُ نفسه للشرير يصبح شبيهًا بالحيّة، يسلك على بطنه ساعيًا الى الأرضيات، محرومًا من الأقدام والأجنحة التي ترفعه عن تراب الأمور الزمنية، مُلاصقًا للتراب ومُغتذيًا من التراب.

 ومَن يُصغي الى الحيّة ويقبل مشورتها، لا يُصبح شبيهًا بها وحسب، بل يتحوّل الى ترابٍ، وبالتالي الى مأكل للحيّة التي تزحف نحوه لتلتهمه. فالتُراب الذي يتكلّم عنه الربّ، ليس تراب الأرض، بل هم البشر الأرضيّون الشهوانيون المُتكبّرون الذين يُحبّون الأرض ويضعون كلّ رجاءهم فيها. هؤلاء هم طعام الحيّة القديمة ابليس، وهذا هو ما يعنيه الربّ بقوله لآدم: “إنَّك تُرابٌ، والى التراب تعود”(تك3/19)، أي إنك من التُراب، وستعود انسانًا أرضيًا تُرابيًا شهوانيًا تكون مأكلاً للحيّة. فطعام الشياطين هم الناس العاصون المتمرّدون الشهوانيون الطمّاعون الفاترون الفاسدون الجاحدون الكافرون. فإذا أردت ألا تكون مأكلاً للحيّة، فما عليك إلا أن تكون انسانًا روحانيًا يسعى الى السماء، لا انسانًا أرضيًا يشتهي الأرضيات ويسعى اليها بكل طاقاته مأخوذًا بجمالها الزائل ومخدوعّا بوعودها الواهمة.

ونرى أن الله برحمته الغنية ومحبته الوافرة، لم يترك الانسان لمصيره البائس، بل فتح أمامه باب الوعد بالخلاص قائلاً للحيّة: “وأجعلُ عداوةً بينكِ وبين المرأة، وبين نسلِكِ ونسلِها، فهو يسحقُ رأسكِ وأنتِ ترصدين عَقِبَهُ”(تك3/15).

وهنا نتساءل: لماذا لم يجعلِ اللهُ العداوة بين آدم والحيّة، وبين نسلِه ونسلها؟ ونرى بأن آدم، بعد العصيان والسقطة، أصبح عاجزًا بقدرته عن المواجهة والانتصار، ولذلك لم يعُد هناك من حلٍّ إلا بتدخلٍ إلهي مباشر، وهذا التدخل لن يكون إلا من خلال تجسّد ابن الله. وهذا التجسّد لن يكون ممكنًا إلا من خلال الروح القدس والمرأة، أي من دون تدخل رجلٍ. ولذلك وضع اللهُ العداوة بين الحيّة والمرأة، وبين نسليهما. فمن هي المرأة إذًا إلا مريم؟ ومن هو نسلها إلا المسيح؟ وكيف سحق المسيحُ رأس الحيّة، أي الكبرياء، إلا بالتواضع والطاعة حتى موت الصليب؟ وكيف ترصدُ الحيّةُ عَقِبَهُ وتُصيبه إلا بالمكر وتأليب أهل بيته عليه وصلبه، وبالاستمرار في محاولة خداع الذين آمنوا به وتضليلهم؟ فالشيطان لا يستطيع ربح المعركة في النور والحق، أي بالمواجهة المباشرة، ولذلك يلتفُّ على أعدائه من الخلف حيث الظلمة، أي الكذب والخداع، ويُصيبهم في عَقِبَهُم، أي في ظهرهم، بالغدر والخيانة.

والنتيجة هي أنّ مَن ارتفع على الصليب هو المسيح الذي أُصيبَ عَقِبُهُ، أي جسدُه، ولكن من مات فعليًا هو ابليس الذي سُحق رأسُهُ وانكسرت شوكتُه وضاعت غلبتُه الى الأبد.

وإذا ما نظرنا الى تأديب الله لآدم وحوّاء نجد أن عقاب حوّاء كان ولادة البنين بالمشقّة وانقياد أشواقها لزوجها الذي يسودُ عليها، أما عقاب آدم فكان لعنة الأرض التي لن تُنبت إلا الشوك والحسك، ولن تُعطي الخير إلا بالمشقة، بشكل يتناسب مع عصيانه. فالجامع المشترك بينهما هو اللعنة والألم والمشقة. ولن تزول هذه اللعنة، ولن يختفي هذا الألم، ولن تتبدّد هذه المشقّة، إلا مع مريم، أمّ المراحم، التي أزالت اللعنة بقبولها مشيئة الربّ وانقيادها لتدبيره بتسليمٍ كاملٍ وطاعةٍ مُطلقة، ومحت ألم الولادة عندما قبلت أن تلد مُخلّص العالم بالفرح والابتهاج، وبدّدت المشقّة عندما أعطت ثمر الحياة الجديدة، ابن الله، الذي ابهج قلب الآب وأزال عن أرضنا اللعنة.

واكتمل تحقيق الخلاص عندما نزل “الكلمة” الى أرضنا وأخذ جسدنا وحمل أثقال خطايانا، والتَحَفَ بكل ثمار معصيتنا: فالصليب هو رمز شجرة الحياة التي ماتت، ولم تعُد قادرة إلا على إعطاء الموت؛ واكليل الشوك هو رمز للأرض التي لم تعُد قادرة إلا على إعطاء الشوك والحسك؛ والمساميرُ هي رمز لقيود المعصية التي كبّل بها ابليس آدم؛ والأحكامُ الظالمة التي صدرت بحق المسيح، هي رمز للعنة التي حلّت بالإنسان.

فبالمسيح، آدمِ الجديد، صورةِ الآب الاصلية، والأَخِ الحقيقي لكل بشريٍّ، وبالعذراء مريم، حوّاء الجديدة، مثال المرأة النقيّة، وأمّ كل الأحياء بالإيمان، أعادنا اللهُ، بمراحمه الوافرة، الى الفردوس الذي طُردنا منه، وأعاد لنا وسم البنوّة وختم الروح القدس. وهذا يعني أن الانسان بمعصيته للربّ لم يفقد معرفة الخير، بل أضاف اليها معرفة الشرّ الذي طغى وانتصر، فدُفن الخير في أعماقه مثل نورٍ موضوعٍ تحت مكيال، فما كان على المسيح إلا أنه نزل وأزاح المكيال، مكيال الشرور والآثام، وبذلك أشرق النور من جديد. فبآدم حلّت اللعنة وانطفأ النور، وبالمسيح عادت البركة وتجدّد إشعاع الأنوار، وبحوّاء حَلَّتْ المآسي وضَؤُلَتِ الخيرات، وبالعذراء مريم، أُفيضَتْ المراحم وتكاثرَتْ الهِبات. 

1-2- مراحم الله في التوراة والأنبياء والمزامير:

إنّ الكتاب المُقدّس مُزدانٌ بالآيات التي تتكلّم عن رحمة الله، وتُخبرُ عن عظائمِ محبّته. فبعد الخلق، نجدُ اللهَ يرفقُ بالإنسان، بالرغم من تمرّده وعصيانه. ولكن لمّا كثُرتْ الشرور وزادت المعاصي وفسُدتْ الأرض، ولم يبقَ إلا نوح وعائلته بعيدِين عن الشرّ، أَمَرَهم الربّ بالصعود الى الفُلْكِ ليُنجّيهم قبل أن يُرسل الطوفان ليُزيل الإثم عن الأرض (راجع تك 6-10). وبعد نوح نرى الله يُقيمُ عهدًا مع إبراهيم ويغمره بنعمه ومراحمه، ويفي بوعده له بأن يمنحه نسلاً باسحاق، ويجعل ذُرّيته كعدد رمل البحر (راجع تك 12-21). ويستمرّ العهد مع إسحاق ويعقوب والأسباط، ويغمر الربُّ يوسف بنعمه ويُسلّطه على أرض مصر، بالرغم من تآمر إخوته عليه، وبيعه للإسماعيليين (راجع تك 22-50). ويتجدّد العهد مع موسى الذي اختاره اللهُ ليكون القائدَ والمُنقذَ لشعبه، وصورةَ المسيح الآتي، من خلال الترائي له في العُلّيقة المُشتعلة على جبل حوريب، وإرساله مُجدّدًا الى مصر لتحرير بني شعبه. وبعد إنهائه المُهمّة ووفاته، تسلّم يشوع بن نون القيادة للدخول بالشعب الى أرض الميعاد. وبعد يشوع حكمَ القُضاةُ بني إسرائيل، وظهر من بعدهم الأنبياء: صموئيل وايليا واليشاع وأشعيا وإرميا وحزقيال ودانيال وسائر الأنبياء… والجميعُ تكلّموا عن مراحم الله، ولكن سفر المزامير هو الذي تميّز بإظهار مراحم الله الوافرة ومحبته الغافرة وأمانته وقدرته وعنايته وعجائبه وحكمته وصلاحه ورأفته وغفرانه وأحكامه وإحساناته وأعماله الخلاصية، ولذلك سنتوقّف عند بعض أهمّ المزامير التي تكلّمت عن الرحمة الإلهية.

1-2-1- مراحمُ الله الأبديّة (مز89):

“بمراحمِ الربِّ أُرنِّمُ الى الدهر، وإلى جيل فجيل أُعلنُ بفمي أَمانتك”(مز89/2).

من عمق المأساة حيثُ كان الشعب يعاني من الضيق، وكأنّ الله قد نسيَ وعده، يصرخ داود الملك الى الله مُذكِّرًا إياه بالميثاق الأبدي الذي كان قد أعلنه على لسان ناتان النبي قائلاً: “سأُريحُكَ من جميع أعدائك… وأُقيمُ من يخلفك من نسلك الذي يخرج من صلبك… وأنا أُثبِّتُ عرش مُلكه الى الأبد. أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا. وإذا أثِمَ أُؤدّبه بقضيب الناس وبضربات بني البشر. وأما رحمتي فلا تُنزع عنه… بل يكون بيتُك ومُلكُكَ ثابتين للأبد أمام وجهك، وعرشك يكون راسخًا للأبد” (راجع 2صمو7/11-16).

إنه الميثاق الأبدي بين الله وداود الملك، الذي سيتحقّق في المسيح عبر الآلام التي تقود الى تجديد العهد، مع ثبات محبة الله وأمانته لعهده، حيث يقول الربُّ: “مع مُختارِيْ عهدًا قطعْتُ، ولداود عبدي أَقسمتُ، لأُثَبِّتَنَّ نسلك للأبد، ولأَبْنِيَنَّ عرشك مدى الأجيال” (5-4). ولذلك يفرحُ داود ويُسبّح اسم الربّ ويتهلّل بعظائمه ويُعلن ثقته بمراحمه، لأنّ اللهَ أمينٌ لعهوده وصادقٌ في وعوده. فمراحم الربّ غزيرة فيّاضة تغسل كل الخطايا والزلاّت وهي تمتد الى الأبد. ولكن من الذي يمكنه أن يقترب من عدل الله إذا لم يتنقَّ أولاً من آثامه في بحر رحمته وحنانه؟ وهذه هي دعوة الرب المُتجدّدة لجميع الناس، من خلال القديسة فوستين، الى الدخول من باب رحمته الواسع، قبل الوصول الى باب عدله الضيّق الذي سيكون اجتيازه أصعب من اجتياز الجمل خِرْمَ الإبرة (راجع متى19/ 23-26).

 ويُتابع الربُّ قائلاً في المزمور: “يدعوني قائلاً: “أنت أبي وإلهي وصخرةُ خلاصي”. وأنا أجعلُه بكرًا فوق ملوك الأرض عليًّا. للأبد أحفظ له رحمتي، وأبقى معه أمينًا لعهدي. أجعلُ نسلَهُ أبديًا، وعرشَهُ مثل أيام السماء. إن ترك بنوه شريعتي، ولم يسيروا على أحكامي… أفتقدُ بالعصا معصيتَهم، وبالضرباتِ إثمهم. لكني لا أقطعُ عنه رحمتي، ولا أخونُ أمانتي… لِيَدومنَّ نسلُه للأبد، وعرشه كالشمس أمامي” (راجع 27-37). إن هذه النبوءات تتعلّق بالمسيح الذي دعا الله أباه أكثر من ستين مرّة في انجيل يوحنا وحده، هو بكرُ الآب وابنُه الوحيد، وبكرُ العذراء والمُخلّص الوحيد؛ بينما لا نجد أي مكان يدعو فيه داودُ اللهَ أباه أبدًا. وكذلك نرى أن المسيح صار بكرًا قائمًا من بين الأموات لإخوةٍ كثيرين ليهب الحياة لجميع الذين سيؤمنون باسمه (رو8/29؛ كو1/15،18؛ عب1/6)؛ بينما داود لم يُدعَ بكرًا أبدًا. ونرى أيضًا أن نسل المسيح، أي المؤمنين به، وعرشَه أبديان مثل السماوات، بينما نسلُ داود وعرشُه قد زالا ولم يعُدْ لهما من ذكر على وجه الأرض. وبالتالي، فإنّ مراحم الربّ لن تغمر العالم أجمع إلا بالمسيح، المُخلِّص الوحيد والابن الوحيد للآب.

1-2-2- مراحمُ الله على الخاطئ (مز25)

إن المزمور 25 يُعبِّرُ عن صرخةِ الانسان الخاطئ البائس الجريح المضطهد الحزين الذي يُصلّي ويطلب الى الله ان ينظر اليه بعين رحمته: “أُذكر يا ربُّ حنانَك ومراحمَك فإنها قائمةٌ منذ أزلكَ؛ أما معاصيَّ وخطايا شبابي فلا تذكر، بل على حسب رحمتك أذكرني، من أجل صلاحِك يا ربّ”(6-7). إن هذه الصلاة مليئة بالثقة بمراحم الله، وهي مثالٌ رائع لكيفية الصلاة المتواضعة التي يلتمس فيها الانسان الغفران، مستعطيًا عطف الله وهدايته وحمايته من الأعداء الكثيرين ومن ظلمهم وتعنّتهم واحتقارهم. فهذا المزمور يكشف عن وجه الله كأبٍ وصديقٍ وطبيبٍ وراعٍ ومخلِّصٍ، رحيم.

1-2-3- الرحمة تُنادي الرحمة (مز41)

في المزمور 41 يربط داود مرضَه بخطيئتِه، ويربط نظرتَه الى المسكين بنظرةِ الله اليه، مُعترفًا بمعصيته طالبًا الرحمة والغفران. وهو بالتالي يُعلِّمنا أن الإقرار بالمرض أمام الطبيب والاستسلام لمشورته هو ما يمنحنا نعمة التعافي والشفاء: “أنا قُلتُ يا ربُّ ارحمني، واشفِ نفسي فإني خطئتُ إليك… طوبى لمن يُعنى بالضعيف، يُنقذه الربُّ في يوم السوء… على سرير الوجع يعضده” (راجع 2-5). ونجد أصداء هذا المزمور في مَثَلِ الدينونة الأخيرة التي يقول فيها الرب: “الحقَّ أقولُ لكم: كلما صنعتُم شيئًا من ذلك لواحدٍ من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه”(متى25/40).

وكذلك يُشيرُ هذا المزمور الى خيانة يهوذا عندما يقول: “وحتى صديقي الحميم الذي اتكلتُ عليه، فأكل خُبزي، هو رفع عليّ عَقِبَهُ” (راجع يو6/70؛ 13/18). فعندما ينقلبُ كل الأصدقاء الى أعداء، لن يبقى إلا رحمة الله التي لا يُمكن أن تتنكّر للأعمال الصالحة التي قام بها الانسانُ تُجاه اخوته البائسين واليائسين. فالرحمة لا يُمكن إلا أن تُكافأ بالرحمة.

إن حياتنا في العالم هي أشبهُ برحلةٍ في برّيةٍ لا طريقَ فيها، والربُّ يأتي ليكون هو الطريق الذي يقودنا الى الحقيقة والحياة. ورحلتنا المُتعبة تتحوّل معه الى رحلةٍ ممتعة لأنه هو الراعي الصالح الذي يعتني بكل خرافه، وهو الطبيب الذي يشفي كل الأمراض ويُداوي كل الجراح، وهو المُعزي الذي يسكب على جراحنا بلسم عزائه.

1-2-4- رحمةُ الربّ وتسبيحُ الإنسان (مز107)

إنّ المزمور 107 يبتدئ بالآية: “إحمَدوا الربَّ لأنه صالحٌ، لأَنّ للأبد رحمته”، وينتهي بالآية: “مَن هو حكيمٌ فليحفظ هذه الأمور، وليفطن لمَراحم الربّ” (1، 43). وبعد أن يصف كلّ مراحم الربّ التي تُرافق الشعب في كل الظروف الصعبة التي يمرّ بها، يدعوه الى حمد الربّ والتسبيح لاسمه لأجل كثرة مراحمه وعظائمه. فالربّ أظهر رحمته لشعبه عندما ردّهم من تيههم، وأرواهم وأشبعهم من خيراته، وأخرجهم من الظلمة الى النور، وشفى أمراضهم وغفر خطاياهم، وخلّصهم من مخاطر الرياح والأمواج وأنقذ حياتهم، وبارك غلالهم وبهائمهم وحوّل القفر الى عيون مياه، وأنهض المساكين من بؤسهم وأفنى كل ظلم وحزن. ولم يبقَ أمام الشعب إلا الحمد والتسبيح لله، مُعترفين بخطاياهم وآثامهم، شاكرينه على عظمة رحمته عليهم.

1-2-5- شُكرُ الله على نِعمه يُضاعفها (مز136)

أن مراحم الله كثيرة، والشكر الدائم على نعمه يُنمي الفرح ويُضاعفه. فالله من العدم أوجدنا، ومن السماء يرعانا، وهو بالحب يُناجينا وبالرحمة يُعزينا. إنّه يفتح أمامنا طرقات جديدة، وفي وسط الأخطار يحمينا. إنه بالنور يقودنا، والى سبل البرّ يهدينا. إنه بالحقيقة يُسلّحنا وبالمجد يُظلِّلُنا. فالمزمور 136 هو ترنيمة تسبيح تُنعش القلب وتُحيي الروح بنار المحبة الإلهية، ولذلك يُكرِّرُ هذا المزمور اللازمة “لأَنَّ الى الأبد رحمته” 26 مرّة. وهذا التكرار هو مثل المياه المتدفّقة التي تُروي الأرض العطشى والنفس الظمأى الى ينابيع الحياة. فالله، بحسب هذا المزمور، هو الإلهُ الخالقُ الفريد العجيب الصالح الخيِّر المحامي العادل المُخلِّص القائد، المُدافع عن المظلومين والبائسين، المُعتني بكل خلائقه. إنه إلهُ الآلهة وربُّ الأرباب، إله السماوات والأرض، إله الخير والصلاح، لأنَّ الى الأبد رحمته. فما أجمل أن نتأمّل بمراحم الربّ الزمنية التي تقودنا الى التنعّم بمراحمه الأبدية.

1-2-6- رحمةُ الربّ، دواءُ كلّ الأمراض (مز103)

ما أجمل حكمة الانسان الذي، بعد عمر مديد، يتهلّل بالربّ، وتكون وصيّتُه الأخيرة دعوةَ أبنائه الى الفرح المُتجدِّد والتسبيح الدائم لله الذي يُكلِّلُ خائفيه بالرحمة والتائبين اليه بالغفران. وهذا ما نستشفُّه في المزمور 103 حيث يُدوِّن داود وصيته الأبوية لأبناء شعبه وللخليقة كلّها. إنه مزمورٌ رائع مُزيَّنٌ بالمشاعر الإيمانية العميقة المُتفجّرة من قلبٍ لامسَ الرحمة الإلهية في شتّى الظروف وعلى مدى الأيام. فمراحم الربّ تمتدّ لتبلسم كل الجراح وتُداوي كل الأسقام: هو الذي يغفر جميع الخطايا، ويشفي كل الأمراض، وينشل النفوس من جحيم الفساد، ويُكلّل البائسين بالرحمة والرأفة، ويُفيض الخيرات على مُلتمسيه، ويُنصف المحرومين والمظلومين، ويُنير دروب التائهين والضالين، ولا يُعامل الخطأة بحسب آثامهم، بل بحسب رحمته. وهو الذي يرأف بنا كما يرأف الأبُ بِبَنيه. وهو الذي يَعلَمُ بضعفنا، ويعرفُ بأننا كزهر الحقل، ننبتُ اليوم وغدًا نُطرح في التنّور. وهو الذي يُقيمنا من الموت، ويُجدّد كالنسر شبابنا. ولذلك يوصي داود بالتهليل للربّ، فهو يستحق التسبيح من كل الخليقة لأنه يُفيضُ مراحمه على الجميع، ويقول: “باركي يا نفسي الرب… ولا تنسَي كلّ إحساناته… باركوا الرب يا ملائكته… باركوا الربّ يا جميع قوّاته… باركي الربّ يا جميع مخلوقاته… رحمةُ الربّ منذ الأزل، وللأبد على الذين يتّقونه… الربُّ رؤوفٌ رحيم، طويل الأناة كثير الرحمة… باركي يا نفسي الربّ[5]“.

ما أجمل أن نتأمّل بعظائم الربّ وبمراحمه الكثيرة علينا. ففي العهد القديم رأينا عظم مراحم الربّ على شعبه عبر تاريخه الطويل، امّا في العهد الجديد، فالرحمة الإلهية قد تجسّدت بين البشر وصار الله عِمّانوئيل، الله معنا، وصار “الكلمة” جسدًا وانجيلاً ورحمةً. فما أحلى أن نشكره على تحنُّنه علينا وغفرانه لنا، وما أثمن أن نسبّح اسمه ونشكر محبّته ونمدح إحساناته علينا، وما أذكى الانسان الذي يُبادل الرحمة بالرحمة، والمحبة بالمحبة، والغفران بالغفران، وما أحكم الانسان الذي أفرغ قلبه من الشرّ، ولم يبقَ لديه إلا الخير ليمنحه، وما أعظم الانسان الذي تحوّل من ذئب الى نعجة، من نسر الى حمامة، من عبد الى حرّ. فالربّ، في انجيله، يدعونا الى وصيّة مثلّثة الأبعاد: المحبة والرحمة والغفران: “وصيتي هي: أحبّوا بعضُكم بعضًا كما أنا أحببتكم” (يو15/12)، و”كونوا رحماء كما أن أباكم هو رحيم” (لو6/36)، و”إن تغفروا للناس زلاّتهم، يغفر لكم أبوكم السماوي زلاّتكم” (متى6/15). فما علينا إلاّ أن نحيا بالمحبة والرحمة والغفران، حتى نحيا بالنعمة، ويحيا اللهُ فينا.

ناأ

  • مريم، أُمُّ الرحمةِ الإلهية

“مَنْ هذه المُشرِفةُ كالصُبح، الجميلةُ كالقمر، المُختارةُ كالشمس، المَرهوبةُ كصفوفٍ تحت الرايات؟” (نش6/10).

يقول البابا يوحنا بولس الثاني: “إنّ مريم هي تلك التي، بطريقةٍ خاصة واستثنائية -اكثر من أي شخص آخر- اختبرت الرحمة، وفي الوقت عينه -دائمًا بشكل استثنائي- جعلت مُمكنةً مُشاركتَها الذاتية بإعلان الرحمة الإلهية من خلال ذبيحة قلبها… ولم يختبر أحدٌ بقدر مريم، أُمّ المصلوب، سرَّ الصليب، هذا اللقاء المؤثّر بين العدالة الإلهية السامية والحب: هذه “القبلة” الممنوحة من الرحمة الى العدالة” (مز85/11)… وبهذا المعنى ندعوها أيضًا أُمّ الرحمة: سيّدة الرحمة أو أُمّ الرحمة الإلهية”[6].

لم تحظَ امرأةٌ على مدى التاريخ والأجيال بمديحٍ وتعظيمٍ يُداني ما تُوِّجت به مريم العذراء من آيات التبجيل والإكرام، لأن القدير، بحسب نشيدها، صنع لها العظائم. وكيف لا! وهي المرأة التي وعد بها اللهُ البشرية منذ التكوين، حوّاءُ الجديدة، التي بإيمانها وأمانتها، سوف تُعطي العالم ابنًا مُميّزًا، آدم الجديد، الذي سيسحقُ رأسَ الحيّة، ويُعيدُ للإنسان الحريةَ والكرامةَ والبنوّةَ المفقودة. 

فتكريمها لم يبدأ مع ظهورها على هذه الأرض، بل استبق اللهُ هذا الإعتلان بالأناشيد والمدائح، إذ فرش أمامها الورود والياسمين، وأفاح أمامها الأطياب والرياحين، وزرع الكتاب المُقدّس بالآيات والنبوءات التي تُخبر عن عظمة مقامها وبهاء مجدها.  فنشيد الأناشيد يمزج جمالها الساطع برهبتها الصاعقة لأنها هي وحدها العروس التي زينها اللهُ بأسمى الفضائل والمحاسن، فأصبحت مُشرِقةً ومُشرِفةً ومُضيئةً كالصبح الذي يُعلن عن اقتراب بزوغ شمس البرّ، وصارت جميلةً كالقمر الذي يستمدُّ جماله من  الشمس عاكسًا نورها، وأصبحت مُختارةً طاهرةً بهيّةً مثل الشمس، لأن الروح القُدس حلّ عليها وجعلها هيكلاً مُزينًا لاستقبال وحيد الآب، وصارت مرهوبةً كجيش مُنظّم تحت الرايات، لا يعرف الخوف ولا الهزيمة، لأنها حملت في أحشائها، وبين يديها، وفي كُلِّيَةِ كيانها ربَّ الجنود، ملكَ الملوك، قائدَ المعركة المنتصِرة ضد ابليس وملائكته وجنوده.

2-1- مريمُ، المُرتفعةُ كالأرز في لبنان

وها إن يشوع بن سيراخ يجعل الحكمة الخالدة التي أوجدها العليُّ قبل الدهور، تمتدحُ نفسها قائلةً: “ارتفعتُ كالأرز في لبنان، وكالسروِ في جبال حرمون”(24/13). فهذه الحكمةُ التي خرجت من فم العليّ بِكرًا قبل كل خليقة، وبها كوَّن اللهُ كلَّ شيء في السماواتِ والأرض، هي التي انحدرت في ملء الزمن لترتفع أمام العالم على الصليب. وقد تعانق جمال الجبال مع سحر الأرز في لبنان فتجلّى رونقُ البهاء والعظمة، كما تَعانقَ جمالُ المحبة مع سحر الرحمة في التجسّد وعلى الصليب فتجلّى رونقُ الخلاص والفداء. ولم تكتفِ الحكمة بأن تُشبِّهَ نفسها بالأرز، بل شبّهت ذاتها بالسرو والنخل والزيتون والكرمة والورد والبخور واللُبان… لأنها أمُّ كل الفضائل والنِعَم والخيرات والثمار، ولأنها هي المأكل الأطيب من العسل والمشرب الألذ من الخمرة الطيبة. لقد ارتَفَعَتِ الحكمةُ، الكلمةُ الازلية، الى أعلى درجات المجد، ورفعَتْ معها أُمَّ الحكمة، مريم العذراء التي شابهت بتواضعها وعظمتها ابنها يسوع، فارتفعت، على مثاله، كالأرز في لبنان وكالسرو في جبال حرمون.

2-2- مريمُ، المرأةُ المُلتحفةُ بالشمس 

ولم يبخل اللهُ على يوحنا في رؤياه من لوحةٍ مميّزة عن العذراء مريم حيث يقول: “ثمَّ ظهَرَتْ آيةٌ من السماء: امرأةٌ مُلتحفةٌ بالشمس، والقمرُ تحت قدميها، وعلى رأسها إكليلٌ من اثني عشرَ كوكبًا، حاملٌ تصرخُ من ألم المَخاض”(12/2-1). إن هذه المرأةُ هي مريم، حوّاءُ الجديدة، أُمُّ كل الأحياء الذين وُلدوا بالإيمان. إنها صورةُ الكنيسة، أمِّ جماعة المؤمنين، الرسلِ والمعلّمين والمُعترفين والأبرار والشهداء. إنها المرأة المُلتحفة بشمس الثالوث الأقدس: فالروحُ القدس حلّ عليها، والآبُ القدير ظلّلها، وابنُ العليّ حلّ فيها، فأشعّت بأنوار المجد السماوي. وهي المرأة التي جُعِلَ القمرُ تحت قدميها، القمر الذي يرمزُ الى إبليس والى كلّ الأشرار الذين، بمعصيتهم وبابتعادهم عن الشمس، مصدر النور، انطفأت أنوارهم وأصبحوا عتمةً وظلمة. وأما الاكليل الذي توّج رأسها باثني عشر كوكبًا، فهو رمزٌ للرسل المجتمعين حولها، والذين أشعل الروحُ القدس كيانهم، فأصبحوا كواكب مشعّة بأنوار الحقيقة، أنوار الانجيل، وبواسطتهم أضاء يسوعُ العالم. وأما كونها حاملٌ تصرخُ من ألم المخاض، فهذا يعني أنها في حالة ولادةٍ دائمة، لأنها قد ولدت الابن الوحيد، ولكنها ما برحت تلد إخوةً لابنها بالإيمان، لأنها أمُّ الله، وفي الوقت عينه، أُمُّ الكنيسة، أي أُمُّ كل المؤمنين بابنها.

2-3- مريمُ الملكة، أُمُّ الملك الأعظم

من هي هذه المرأة المُشرقة، الجميلة، المُكلّلة بالمجد، المُرتفعة كالأرز في لبنان؟ وهل يُمكن أن تكون إلا مريم التي يعني اسمها باللغة المصرية القديمة “المحبوبة من الإله”، وباللغة الآرامية “الأميرة أو السيّدة”، وباللغة السريانية “السامية أو المتعالية”، وباللغة العبرية “المرارة”. فإذا ما تأملنا هذه المعاني، نراها تعكس صورةً جليّةً عن هذه الملكة. فهي المحبوبة من الله. وهل أحبَّ اللهُ امرأةً على مدى التاريخ والأجيال وعظّمها وكرّمها أكثر منها؟ وهي الأميرة والسيدة. وهل وُجد على وجه الأرض أميرةٌ أو سيدةٌ تفوقها كرامةً ومجدًا وعزّةً؟ وهي السامية والمتعالية. وهل ظهر بين بني البشر امرأةٌ أرفع منها وأسمى شأنًا، وقد توّجها اللهُ سلطانةً على السماوات والأرض؟ وهي الأُمّ الوجيعة التي جاز سيف الألم في قلبها. وهل وُجدتْ هناك أُمٌّ بين الأُمهات أحبّت أكثر منها، وذاقت مرارة العذاب أمام صليب وحيدها أكثر منها؟ إنها المرأة التي خرجت من يدِ الله نقيّة طاهرة، وديعةً متواضعة، طائعة خاشعة، قادرة باهرة، رائدة قاهرة. إنها الملكة، والدةُ الإله، الدائمة البتولية، أُمُّ ملك الملوك وسيد السادة، يسوع المسيح، ابن الله الحي. 

2-4- مريم، هيكلُ الرحمة الإلهية، وأُمُّ المراحم

إنّ مريم قد اختبرت بشكل استثنائي وبالطريقة الأعمق سر الرحمة الإلهية. وبتجاوبها المطلق مع هذه الرحمة، وبمشاركتها الفاعلة بإعلانها، قد استطاعت أن تُشرك ذبيحة قلبها بذبيحة ابنها على الصليب، فاستحقت بجدارة أن “تُدعى أُمّ المراحم”. ففي نشيدها، تُعبّر مريم عن فرح الأجيال المتفجِّر في قلبها وعلى لسانها، وتُحوّله الى ترنيمة تسبيح وتمجيد لله الذي غمرها بفيض نعمه وغزير رحمته: “تُعظّمُ نفسي الربّ، وتبتهجُ روحي بالله مُخلّصي، لأنّه نظر الى تواضع أَمته” (لو1/46-48). إن كلّ كيانها، روحًا ونفسًا وجسدًا، يشتركُ في تعظيم الربّ والتهليل له، لأنه استعاد بهاء صورة الله وجمال اكتمال مثاله، لأن حوّاء بكبريائها شوّهت الصورة، وبعصيانها حطّمت المثال، فلم تعُدْ قادرة على تمجيد الخالق ولا على تسبيح عظمته.  فأتت مريم حاملةً أشواق شعبها التائق الى الخلاص، وتَنهُّدات البشرية الجريحة التي تئنُّ تحت نير الإثم والشرّ مُنتظرةً تجلّي نور الحرية. وهلّلت وابتهجت، وبحكمة إلهية أعلنت: “نظر الى تواضع أمته”، ولم تقُل: نظر الى صلوات أَمته، أو الى أصوامها، أو الى أعمالها الصالحة، أو الى تكرّسها، بل الى تواضعها وبساطة قلبها.

فطريق التواضع هي الدرب التي تجعل من يسلكها ينعم ببركة السماء. فالله القدوس هو من صنع العظائم بمراحمه التي تمتدّ من جيل الى جيل. وهو الذي حطّ الأقوياء وأَذلّ الأغنياء وشتّت المتكبرين بشدّة ذراعه. وذراع الربّ هو يسوع الذي شتّت أبناء ابليس المُرائين المتكبرين المُدّعين الحكمة والعظمة، وحطّهم عن العروش وضعضع سلطانهم فأصبحوا عاجزين عن أن يحكموا بقوة الشرّ والظلم والباطل، ولا أن يملكوا على الشعوب. وهو الذي نصر الضعفاء ورفع المتواضعين وسلّطهم على العظماء والأقوياء بمنحهم “السلطان ليدوسوا الحيّات والعقارب وكلّ قوّة العدو، ولا يضرّهم شيء” (لو10/19). فانهزمت من أمامهم كل القوى والشعوب والممالك.  وهو الذي أَغنى الفقراء بالروح الذين يبحثون عن الله، وملأ قلوبهم حبًا وطمأنينة وسلامًا، وأشبع الجياع من كلمته الإلهية، وأروى نفوسهم بمياه الحياة الجديدة. وأرسل الأغنياء الذين كانوا ينعمون بالغنى الفكري والمادي والاجتماعي فارغين لأن كبرياءهم قادهم الى الهاوية بعدما رفضوا الايمان بالإله الحق والسجود له، فأصبحوا فارغين من الايمان والرجاء والمعرفة الحقّة. نُبِذوا من أورشليم الأرضية ولم يُقبَلوا في السماوية لأنهم رفضوا الخضوع لسلطان الحياة، وتركوا ينبوع الماء الحي، وداسوا خبز الحياة النازل من السماء، وصلبوا ربّ المجد. وهو الأمين الصادق الذي لا يحنث بوعده ولا يُخلّ بعهده. هو الذي لم ينسَ وعده لشعبه الأمين الذي كان ينتظر الخلاص، ولم يأبه للذين قد شمخوا وتمرّدوا وتجبّروا عليه وسقطوا، وكان سقوطهم على حجم عصيانهم، عظيمًا.

إن الله هو مصدر كل الخيرات ونبعُ كل المراحم: هو من أنعم عليها بتطويب جميع الأجيال لأنه اختارها وظلّلها وحلّ فيها واعتلن للعالم من خلالها. وهذا ما جعل المؤمنين يُكرّمونها ويُعظمونها لأنّ الربّ أرادها أن ترافق الأجيال، هي التي لم تذُق الموت لأن نبع الحياة تفجّر منها على الكون ورفعها الى ما فوق الموت والألم والدموع، لتشاركه في مجده كما شاركته في الآمه. إن مراحم الربّ هي من جيل الى جيل، هي مراحم أبدية تعبر الأحقاب والأزمان، من آدم الى نوح الى إبراهيم الى موسى الى إيليا الى الآباء الى الأنبياء الى الرسل الى القديسين الى الشهداء الينا نحن الذين ننتظر الفداء والخلاص. إن الله هو أبو المراحم، ومراحمه ستبقى حتى الى ما بعد نهاية الأجيال. وستبقى مريم تستقي لنا المراحم ما دام على الأرض إنسانٌ جائعٌ للرحمة وعطشانٌ للسلام.

2-5- مريمُ، أُمُّ المراحم، في عرس ابنها

ما الذي حدث في قانا؟ وهل كان مُجرّد عُرس؟ أم أن هناك ما كان يتخطّى الأفراح العابرة؟

لم يكن عُرسُ قانا حدثًا عاديًا مثل سائر الأعراس، بل كان باكورة المُعجزات الخلاصيّة والأفراح الآتية. كان أوّل عرسٍ مسيحي في العالم يُباركه الربّ. كان فجرَ الزمن المسيحاني المُنتظَر حيث فيض الخيرات وعودة الأفراح. لم يكن مُجرّد عرسٍ يدوم اسبوعًا واحدًا، بل كان رمزًا لعرس المسيح وشعبه الجديد، الذي يمتد الى اكتمال الازمان. لقد جاء الربّ ليُزيل الأحزان من قلوبنا، ويحوّل وجودنا الى نبع أعياد وأفراح. ولذلك حوّل الماء الذي يرمز الى شريعة التطهير، الى خمر يرمز الى شريعة التنوير، شريعة المحبة.

 لم يُجرِ المسيح أول أعجوبة له في الهيكل أو في المجمع أو في أورشليم، بل في أرض تضمّ اليهود والأمم، ليُعلن أنه أتى ليجمع أبناء الله المُشتتين في شعب واحد وجماعة واحدة. لقد دُعي المسيح ولبّى الدعوة، الدعوة الى العرس التي ترمز الى الدعوة لإنقاذ العالم من حالة البؤس والإحباط التي وصل اليها. ومريم التي طلبت من يسوع أن يُجرِ الأُعجوبة، ترمز الى كل الأنبياء والأتقياء والأصفياء، الى البقيّة الباقية التي لم تركع لإبليس، الذين كانوا يصرخون صوب السماء. ومن خلال هذه الآية، أعلن يسوع أن اللعنة التي حلّت على آدم وحوّاء قد أُزيلت، وأن زمن المرارة والحزن الذي خيّم على الشعب لمدّة طويلة بسبب انقطاع الأنبياء، قد انتهى، وبدأ عهد جديد مليء بالوعود والآمال.

إن عرس مريم لم يبدأ في قانا، بل في الناصرة عندما بشرها الملاك، وأجابت: “ها أنا أمةُ الرب، فليكن لي بحسب قولكَ” (لو1/38)، وفي عين كارم عندما أطلقت نشيدها بعد لقائها اليصابات: “تُعظّمُ نفسي الربّ، وتبتهجُ روحي بالله مُخلّصي” (لو1/46). ولكن العذراء لم تكن تعلم أن ساعة اعتلانه بالآيات والأعاجيب ستكون ساعة بدء العدّ العكسي لمسيرته صوب الصليب، ولم تكن تّدرك أن تحديد هذه الساعة يعود للآب وحده، ولذلك قال لها: “ما لي ولكِ يا امرأة؟ لم تأتِ ساعتي بعد” (يو2/4). وبالتالي، لم يُجرِ الأعجوبة كونه ابن مريم، بل كونه ابن الآب. وبالتالي نُلاحظ بأنّ يسوع عندما يُظهر قوّة لاهوته يتطلّع الى الآب، وعندما يرزح تحت ضعف ناسوته يتطلّع الى أمّه: “يا امرأة، هذا ابنُكِ” (يو19/26)، والى تلاميذه: “ها هي ذي الساعةُ آتيةٌ، بل قد أتت، فيها تتفرّقون فيذهب كلّ واحد في سبيله وتترُكوني وحدي، ولستُ وحدي، لأنّ الآب معي” (يو16/32).

وهذا ما يتضح في المشهد الذي يروي لنا موقف يسوع عندما أخبره التلاميذ بأن أمّه وإخوته واقفون في خارج الدار يُريدون أن يُكلّموه، وقال: “مَن أُمي ومن إخوتي؟ ثمّ أشار بيده الى تلاميذه وقال: “هؤلاء هم أُمي وإخوتي، لأن من يعمل بمشيئة ابي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمّي” (متى12/46-50). إن مريم تَظهرُ في هذين المشهدين كالأم التي ترحم أبناءها وترأف بهم، الى درجة أنها تتخطى الحدود التي رسمها الله لها.

ففي قانا أحسّت بإحراج أهل البيت، فأتت تطلب، بِدالةِ الأُمّ، ما لا يحقُّ لها طلبه، وهنا نراها تشفع بأبناء الناصرة التائبين الذين، بعدما رفضوا رسالة ابنها وحاولوا أن يرموه من على الجبل، أتوا تائبين يلتمسون الغفران. ولكن يسوع كان يعلم أن توبتهم لم تبلغ بعد الحدّ الذي يجعلها توبة حقيقية صادقة ونهائية، ولذلك أعطاهم الشرط لقبول التوبة: “الإصغاء لكلمة الله والعمل بها”.

فمريم، مثل كل الأمهات، حاولت أن توجّه ابنها وتُرشده بحسب حكمتها وخبرتها، ولكن يسوع أراد أن يُفهمها أنه عليها هي أن تُصغي له وتتبنّى ما يقوله وتعمل بحسب مشيئة الآب التي يُعلنها هو. أما هي فلم تُعاتب ابنها، ولم تتراجع عن طلبها، بل بثقة قالت للخدم: “مهما يأمركم به فافعلوه” (يو2/5). “وكان هناك ستّة أجرانٍ من حجر” (يو2/6). وهذه الأجران تحتوي ماءً للتطهير، لكل يوم جرن، ما عدا السبت، ولم تكن معدّة لاحتواء الخمر. والأجران هي رمزٌ لأسفار العهد القديم، الناموس والأنبياء والمزامير، وأما الماء الذي وضع فيها فهو رمزٌ للتعاليم التي تحتويها، وقد جاء المسيح لكي يُعيد قراءتها بعيون جديدة وأبعاد جديدة تُعيد الرجاء وتمنح الفرح. وهذا ما فعله عندما فتح أذهانهم ليفهموا الكتب بعد قيامته من بين الأموات (راجع لو 24/31، 45). “فقال يسوع للخدم: “املأُوا الأجران ماءً”. فملأوها الى فوق” (يو2/7). وبذلك أراد يسوع أن يُشرك الناس بعمله، كما فعل في آية تكثير الخبز (يو6/1-15)، وفي معجزة إقامة لعازر من الموت (يو11/1-45)، وغيرهما، بالرغم من أنه كان قادرًا أن يُتمّم كل شيء بكلمته.

ونُلاحظ بأن يسوع لم يُصَلِّ قبل الآية، بل أتمّها بقدرته الذاتية، وأمر بتقديمها الى رئيس المُتكأ أوّلاً، ليُبيّن لنا أنه لم يكن هو رئيس المُتكأ، بل كان كالخادم: “إن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم، بل ليَخدم ويفدي بنفسه الكثيرين” (مر10/45). ولم يُحوِّل يسوع الحجارة الى خبز بناءً لطلب الشيطان ليُخزيه، لأنّه لم يكن ليؤمن حتى لو رأى الآية؛ بينما حوّل الماء الى خمر بناءً على طلب أمّه ليُكرّمها، وليُظهر مجده فيؤمن به تلاميذه.

2-6- مريمُ، مَحَطُّ آمال الأجيال

إن صورة العذراء مريم حاضرة في فكر الله منذ التكوين، ولذلك قال للحيّة: “أجعلُ عداوةً بينكِ وبين المرأة، وبين نسلكِ ونسلها، هو يسحقُ رأسكِ وأنتِ ترصدين عقبه” (تك3/15). وإن الرموز الى مريم كثيرة في الكتاب المقدّس، فهي فُلك نوح الذي به يخلُص كل المؤمنين الصادقين(تك8/9-17)، وهي برجُ العاج الذي وصل الأرض بالسماء في العنصرة، بمقابل برج بابل الذي سقط واضمحلّ (تك11/1-9)، وهي خباء المحضر، أي خيمة إبراهيم التي التقى فيها الله بالإنسان (تك18/1-15)، وهي سلّم يعقوب المنصوب بين الأرض والسماء، والملائكة تنزل وتصعد عليه (تك28/10-22)، وهي العليقة المُشتعلة التي حلّ فيها الله من دون أن يُحرقها(خر3/1-6)، وهي تابوت العهد الذي احتوى لوحي الوصايا وجرّة المن وعصا هارون التي ترمز الى علامات العهد الذي قطعه الله مع الشعب في العهد القديم(2ملو9/6-12)، وهي هيكل سليمان حيث يسكن الله بين شعبه(1ملو22/8-24)، وهي الأمّ العذراء التي تنبّأ عنها أشعيا: “ها إنّ العذراء تحبل وتلد ابنًا يُسمّونه “عِمّانوئيل” أي الله معنا” (أش7/14)… إن هذه الرموز ليست إلا غيضٌ من فيض، فالرموز التي استقاها الآباء من الكتاب المقدّس عن مريم كثيرة جدًا، ولا مجال هنا للتوسّع بها.

فاللهُ قد اختار مريم وزيّنها بكل المحاسن والفضائل، لتكون الأم الحنون، أُمّ المراحم، التي تتشفّع بأبنائها أمام العرش الإلهي، ولتكون المُحامية عن إخوة ابنها في جهادهم ضد الشرير، ولتكون الأمل لكل يائسً وبائس وحزين بالفرج الآتي من لدن الآب الرحيم. هي حوّاء الجديدة التي حبلت بكلمة الملاك فتباركت بها كلّ الأمم، على عكس حوّاء التي حبلت بكلمة الحية فاستحقّت اللعنة لها ولكل أبناءِ نسلها.

يقول القديس اغناطيوس الإنطاكي، بطريرك انطاكية الشهيد (+107)، وهو بحسب التقليد، الولد الذي أخذه يسوع بين يديه قائلاً: “مَن وَضعَ نفسه مثل هذا الطفل فهو الأعظم في ملكوت السماوات” (متى18/4)، وهو الذي تواضع وسلّم نفسه للجنود الذين نكّلوا به، وهم يسوقونه الى روما ليُرمى للوحوش، وهو الذي كتب 7 رسائل رائعة الى كنائس آسيا الصغرى يُشجعهم فيها على الثبات في الإيمان. وقد جاء في رسالته الى أهل روما: “لا أطلب منكم إلا أن تتركوني أُقدِّمُ دمي ضحيّةً على مذبح الربّ… أنا قمحُ الله أُطحَنُ تحت أضراس الوحوش لأُخبَزَ خبزًا نقيًّا للمسيح”. وهو الذي كتب عن مريم قائلاً: “أَيُّ مسيحيٍ حقيقي لا يشتهي أن يُخاطب مَن هي ابنةُ الآب وأُمُّ الابن وعروسُ الروح القدس؟ فقد وَلَدَتْ وهي عذراء، وأَرضعتْ وهي بكر، ودُعِيَتْ أُمًّا وهي بتول. وكما أنَّ ابنَها هو سلطانُ السماوات والأرض، كذلك هي، بما أنها أُمُّه، سلطانةُ السماء والأرض. ولهذا هي حافظةُ المسيحيين، سندُ الايمان، برجُ الرجاء، ميناءُ المحبّة، مُرشدةُ الكمال، مثالُ السيرة المسيحية، طهارةُ الكهنوت، عفّة الرهبان، حكمةُ العُلماء، اختيار الرؤساء، أمانُ الملوك، قاهرةُ الأعداء الخفيين والظاهرين، شفيعةُ الخطأة، تعزيةُ الفقراء والأرامل والايتام، فخرُ العذارى وحاميتهم، فرح المتضايقين والحزانى، الكنز الذي يغتني منه كلّ مُحتاج”[7].

فالمرأةُ التي تملكُ كل هذه الصفات، ألا يحقُّ لها أن تُدعى أُمّ المراحم الإلهية؟ ألا يحقُّ لنا أن نطلب شفاعتها وصلاتها، وقد طلب الرسل وبطرس وبولس من جماعة المؤمنين أن يّصلّوا من أجلهم، وكذلك نفعل عندما نطلب من أحدهم أن يُصلّي من أجلنا؟ فإذا كنّا نطلب صلاة الخطأة والبعيدين عن الله، أفلا نطلب صلاة مَن هي الأقرب الى الله، والمؤتمنة على نعمه ومراحمه؟

إن كل الصفات التي يتمتّعُ بها الابن، يُمكن أن تُنسب الى الأُمّ كوالدة. فإذا قلنا بأن يسوع هو المسيح والمُخلِّص والقدوس وابن الله وعمّانوئيل… أي الرحمة الإلهية المُتجسّدة؛ يُمكننا القول بأن مريم هي أم يسوع وأم المسيح وأم المُخلّص وأم القدوس وأم ابن الله وأُمّ الله… وبالتالي، أمّ الرحمة الإلهية. ومن هنا نرى أنّ العذراء تستمدّ من ابنها بتواضع وفرح، كلَّ ألقابِها وأمجادِها وأسبابِ تكريم المؤمنين لها، لأنه هو مَن صنع لها العظائم. فدعوةُ مريم المُميّزة هي أن تكون وسيطةَ الرحمة الإلهية، أي أن تقود الناس من الضياع واللامبالاة والكفر والشرّ، الى التوبة والايمان بالله، لكي يحصُلوا على فيض نعمه وغفرانه.

وقد اعتادت الكنيسة أن تُناديها وتطلب حمايتها من خلال صلاة قديمة وجميلة جدًا وُجدت في مصر، على ورق البردي يعود الى القرن الثالث، تقول: “تحت حمايةِ رحمتِكِ نلتجئ يا أمَّ الله القديسة، فلا تحتقري صلواتنا عندما نكون في المحنة، لكن نجّينا من كل الأخطار ايتها العذراء الطوباوية المجيدة”[8].

وقد قالت العذراء في ظهوراتها للقديسة فوستين: “يا ابنتي، إني أطلبُ منكِ بإلحاح أن تُتمّمي بأمانة كل رغبات الله، لأنّ هذا ما هو الأجمل أمام عينيه القدوستين… إن حياتَكِ يجب أن تكون شبيهةً بحياتي، هادئةً، خفيّة. إتَّحدي بالله بدون انقطاع. يجب أن تتشفّعي بالبشرية وتُحضِّري العالم لمجيء الله الثاني”[9].

2-7- مريمُ، سلطانة المسيحيين والمُسلمين والمؤمنين وكلّ نساء العالمين

 لقد افتتح البابا فرنسيس عظته، لمناسبة افتتاح يوبيل الرحمة الاستثنائي في كنيسة “مريم الكبرى”، بنشيد قديم ينبع عفويًا كصلاة تتفجّر من قلوب المؤمنين بهذه الكلمات: “السلام عليكِ، يا أمَّ الرحمة، يا أمَّ الله وأمَّ الغفران، أمّ الرجاء وأمّ النعمة، الأمّ الممتلئة من الفرح المقدّس”. وأضاف: “إن الباب المقدّس الذي فتحناه هو بالفعل بابٌ للرحمة. مَن يعبر عتبتَه مدعوٌ للغوص في محبة الآب الرحيمة، بملء الثقة ومن دون أي خوف؛ ويُمكنه أن يُغادر هذه الكنيسة، وهو واثقٌ بأنه سيحظى برفقة مريم الى جانبه. إنها أمّ الرحمة، لأنها حملت في أحشائها وجه الرحمة الإلهية بالذات، يسوع، عِمّانوئيل، الذي تنتظره كل الشعوب، “ملك السلام” (أش9/5). إن ابن الله الذي تجسّد من أجل خلاصنا، أعطانا أمّه التي، معنا، جعلت من نفسها حاجَّةً كي لا نكون وحيدين أبدًا على طريق حياتنا، خاصةً في أوقات الضياع والألم”[10].

فشخص مريم أمّ يسوع، هو من نقاط التلاقي الجوهرية بين المسيحيّة والإسلام، لأنها العُظمى بين النساء على مدى التاريخ وفي فردوسِ السماء، فهي أمّ يسوع وأم المسيحيين وأم المؤمنين من اليهود والمسلمين، وأمّ البشرية المتألمة التي تصرخ من ألم المخاض، وهي الأم التي لا يمكن أن تتخلّى عن أولادها، بحسب أشعيا النبي: “هل تنسى الأمُّ ولدها؟” (49/15).

ففي يوم الجمعة الواقع في 19 شباط 2010 شرّعت الحكومة اللبنانية، وأعلنت أن عيد بشارة السيّدة مريم العذراء، الواقع في 25 آذار، هو عيدٌ وطنيٌ مُشتركٌ بين المسيحيين والمسلمين، ابتداءً من تاريخه. ومِنَ الواضح أنّ هذا الحدث النبويّ هو غنيٌّ بالمعاني، إذ يُظهر أن مريم هي المحور الأساسي الذي يجمع المسيحيين والمسلمين وكل المؤمنين الصادقين حول ابنها الإلهي يسوع.

وفي اللقاء المسيحي الإسلامي الذي عُقد في الجمهور لمناسبة عيد البشارة في 25 آذار 2015، جاء في كلمة الكاردينال فيليب بَربارَنْ ما يلي: “قال البابا القديس يوحنا بولس الثاني بأن لبنان هو “بلد – رسالة”. ما هي هذه الرسالة؟ إنها بالنسبة لي رسالة الرحمة، تلك نفسها التي تُرنمها مريم العذراء في نشيدها. هذه الرسالة هي ضرورية اليوم أكثر من أي وقت مضى، في الوقت الذي تتدهور فيه أوضاع اخوتنا المسيحيين والمسلمين في أمكنة عديدة. إنه أمرٌ رئيسيٌّ، أيها الاخوة والأخوات الأعزاء، أيها اللبنانيون الأعزاء، أن نستعيدَ، في مدرستكم، عبارةَ “الرحمة”، التي تمتلك جذورًا عميقة مثل جذور الأرزة، لنمدّ أغصاننا بتناغم الواحد نحو الآخر. وهكذا، عندما نتغذى ونتقوّى بنسغ الرحمة، نكبر نحو السماء. أُحبُّ أنْ أَلفتَ الانتباه الى أن هناك تعليمين ليسوع في الأناجيل يمكن أن نضعهما بالتوازي. فمن جهة يقول: “فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم السماوي كامل هو” (متى5/48)؛ ومن جهة أخرى، يقول في الانجيل بحسب لوقا: “كونوا رحماء كما أن أباكم هو رحيم” (6/36). ويُمكننا بدون شك أن نستنتج أن الرحمة هي من يحمل ختم الكمال الروحي. فلنكمّل إذًا انسانيتنا، فنصبح خدّام الرحمة”[11].

وفي السنة الحالية 2016، وفي اللقاء المسيحي الإسلامي العاشر حول مريم، سطعت كلماتٌ من نور أطلقها القاضي الشيخ محمد النقري، بوحيٍ سماويٍ، قائلاً: “في هذا الوقت نفتقدُكِ يا مريم ايتها الأمُّ النورانية، ايتها البتول الصامتة، ايتها العذراء القانتة العابدة الساجدة، نفتقد تواضُعَكِ وصمتكِ وطهارتكِ. ألستِ أنتِ يا مريم، ايتها البتول، في خِضمِّ التهديدات والاتهامات ودعوات الإقصاء، واجهتِ المُشككين في طهارتكِ وعُذريتكِ بالصمتِ والصوم والصبر والصلاة؟ … في خِضمِّ المآسي التي نعيشها، تُطلّين علينا في كل عام من خلال ذكرى بشارتكِ لتُرشدينا الى معاني الصمت والصوم في زمن الفتن، تقولين لنا: إن لم تقدروا على رفع الظلمِ عن الأبرياء، فلا تقولوا إلا الكلمة الطيّبة التي تبني وتصنع السلام، الكلمة التي تنثر الورود والآمال، فإنه والحقّ أقول لكم: طوبى لأصحاب الكلمة الطيّبة، فإنهم للسلامِ صانعون”[12].

ومن ناحيةٍ أخرى، نُلاحظُ أنّه لم يَرِدْ في القرآن اسمُ امرأةٍ غيرُ اسم مريم، ولم يُعظِّمِ القرآنُ امرأةً مثلما عظّمها، هي التي طهّرها الله واصطفاها على نساء العالمين (راجع سورة “آل عُمران”، آية 42)، وهذا ما يوجزه يوسف عوده فيقول: “كرَّمَ القرآنُ “مريم” بذكرِ اسمها أربعًا وثلاثين مرّة في اثنتي عشرة سورة، وهي المرأة الوحيدة التي ذُكِرَ اسمها في القرآن. لأنها كانت تحظى بتكريم خاص من قِبَل قُرَيش قبيلة محمّد، لذلك يوم فتح محمّد مكّة ودخل الكعبة، أبقى صورة مريم على جدار الكعبة بعد أن أزال باقي الصور. بالإضافة الى ذلك، خصّها القرآن بتسمية إحدى سوره على اسمها، سورة “مريم”، وقد نذرتها أُمُّها “امرأة عُمران” لخدمة الله منذ أن حمِلت بها”[13].

2-8- مريمُ، أُمُّ المراحم، شريكةُ الفداء

لم يختبر أحدٌ الرحمة الإلهية كما اختبرتها مريم عندما حلّ يسوع، الرحمة الإلهية بالذات، في أحشائها. فيسوع هو اعتلان رحمة الآب، وعُظمى مراحم الله هي أن يكون بيننا، وأن يكشف لنا عن حبّه، وأن يُعلِمنا بأنه لم يأتِ ليدين، بل ليُخلِّص ويفتدي جميع أبنائه المُشتتين. ولم تختبر مريم الرحمة عندما كان يسوع جنينًا فقط، بل كانت تترافق مع هذه الرحمة في كل لحظة، وعلى مدى أيامها على الأرض، وإلى ما بعد انتقالها إلى السماء. فلذلك نراها بعد البشارة مُباشرةً، تُصبح رسولة الرحمة الى نسيبتها اليصابات، وتُعلن في نشيدها، تعظيمَ الرحمة الإلهية التي ستمتدّ، بها ومن خلالها، من جيل الى جيل. ولن تظهر هذه الرحمة بأبهى حُللها إلا على الصليب، حيث وقفت مريم، وكانت الشاهدة على غفران ابنها لصالبيه، وحيث سلّمها يسوع الكنيسة والبشرية، فأصبحت أمّ الجميع، والأمّ التي تنال لنا فيض المراحم الإلهية. فهي، مِنَ التجسّد الى الصعود، عانقت الرحمة الإلهية المُتجسّدة في ابنها. ولذلك اعتبرتها الكنيسة وسيطةَ النعم الإلهية، وأسمى هذه النعم هي الرحمة. وهذا ما جعل من العذراء قناة الرحمة الدائمة والشاملة، وأمّ المراحم. وفي هذا السياق يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: “إن العذراء الطوباوية التي أُعِدَّتْ منذ الأزل، في تصميم تجسّد الكلمة كي تكون أُمّ الله، غدت على الأرض، بتدبير العناية الإلهية، أمًا حبيبة للمُخلّص الإلهي، وشريكةً سخيّة في عمله بصفة فريدة أبدًا، وأمَةٌ للربّ وديعة”[14].

ومن الأحداث التي تُبيّن شفاعة العذراء، أُمّ المراحم، ما جرى في هيروشيما عندما تمّ إلقاء القنبلة النووية عام 1945: “لقد كان هناك مجموعة من الرهبان اليسوعيين الذين يسكنون في بيت الرعية على بعد أقل من نصف كيلومتر من موقع الانفجار. وكان اللافت عدم تأثّر البيت نتيجة الانفجار، وعدم إصابة أي واحد من الرهبان الثمانية بأذى، مع العلم أن ذلك الانفجار قد أودى بحياة جميع سكان المنطقة الواقعة على بعد كيلومتر ونصف، ومن دون استثناء. وقد شُكّلت لجنة من مئتي خبير بالشؤون العلميّة لمعرفة أسباب عدم حدوث أي ضرر للبيت ولسكانه الرهبان، فلم يتمكّن الفريق من إيجاد أي سبب علمي لذلك. ولكنّ الرهبان الثمانية الناجين كانوا يؤكّدون أن سبب نجاتهم هو صلاة الوردية، لأنهم كانوا يتلون صلاة الوردية كل مساء وهم يتأملون بأسرار المسيح وبرسالة عذراء فاطمة”[15].

2-9- مريمُ، “والدة الإله”، رجاءُ العالم

إنّ الإعلان عن عقيدة مريم “والدة الإله”، قد تمّ في المجمع المسكوني الثالث المُنعقد في أفسس سنة 431، ولكننا نجد ورود هذا اللقب عند الكثيرين من آباء الكنيسة قبل هذا المجمع، مثل أثناسيوس الكبير وكيرلّس الأُورشليمي وغريغويوس النيصي وغريغوريوس النزينزي ويوحنا الذهبي الفم وغيرهم. وهذا ما يؤكّد انتشار هذا اللقب في الكنيسة الجامعة منذ فترة طويلة. وقد بنى المسيحيون ايمانهم هذا، على قول اليصابات التي تهلّلت بالروح القدس، عندما زارتها العذراء، وهتفت: “من أين لي أن تأتي إليَّ أُمُّ ربي؟” (لو1/43). فكلمة “الربّ” هي من أسماء الله، وبما أن مريم هي أُمّ الربّ، فهي بالتالي أُمُّ الله. ولكن نسطوريوس الذي انتُخبِ بطريرك القسطنطينية سنة 428، رفض أن يُطلق على العذراء هذا اللقب، واقترح أن تُسمّى “والدة المسيح”، لأن للمسيح طبيعتان تُحافظ كلٌّ منهما على خصائصها، ولأن اسم الله يشمل الآب والروح القدس، ولأنّ  مَن وُلِدَ من العذراء هو المسيح الانسان، وليس الإله.

ولذلك عُقد مجمع أفسس لتحديد العقيدة بشأن شخص المسيح، فأعلن أن المسيح هو شخص واحد في طبيعتين، وليس شخصين متّحدين أحدهما بالآخر اتحاد كرامة وسلطة، كما يقول نسطوريوس. ولم يُصدِرْ هذا المجمع قانونَ ايمان خاص، بل اكتفى بالموافقة على الرسالة التي أرسلها القديس كيرلّس الى نسطوريوس شارحًا فيها الأسباب الموجِبة لشرعية منح العذراء لقب “والدة الإله”. وفي هذه الرسالة، كان كيرلّس قد أوضح بأن مريم هي أُمّ هذا الشخص الواحد، المسيح الإله ـ الانسان، ولذلك ُيمكننا أن ندعوها “والدة الإله” أو “أُمّ الله”.

من ناحية أُخرى، نجد أنّ علم الوراثة قد أظهر أن كل خليّة من جسم الطفل مُكوّنة بصورة متساوية ومتجانسة من خلايا الوالدَين. أمّا المسيح فقد استمدّ كل خلايا طبيعته الإنسانية من أُمِّه. فالإنسان هو، على الدوام جزء من والديه، ولذلك لا يُمكن أن نرى الابن الوحيد يسوع من دون الآب السماوي، ولا الآب من دون الابن؛ ولا أن نرى يسوع الانسان من دون مريم، ولا مريم من دون ابنها يسوع. فالمسيح كان وسيبقى الى الأبد، ابن الآب السماوي في طبيعته الإلهية، وابن مريم في طبيعته الإنسانية، وابن الاثنين في شخصه. والآبُ السماوي سيبقى أزليًا أبَ يسوع، ومريم ستبقى على الدوام أمّ يسوع، وهذا هو سرّ محبة الله ورحمته على مريم وعلى كلّ بشر[16].

2 -10- مريمُ العذراء، “الدائمةُ البتولية”، نبعُ المراحم

إن عقيدة مريم “الدائمة البتولية” التي تعني أن العذراء بقيت بتولاً قبل الميلاد وفيه وبعده: قبله، لأنها لم تعرف رجلاً قبل الولادة، وفيه، لأنها وَلَدَتْ بطريقةٍ عجائبية وبقيت بتولاً، وبعده، لأنها لم تعرف رجلاً بعد الولادة، وبالتالي لم تلد إخوةً ليسوع. هذه العقيدة هي من أولى العقائد المسيحية التي آمنت بها الكنيسة، ولكن من دون تحديد رسمي في مجمعٍ مسكوني، فاكتفت بأن تُدرج في قانون الإيمان عن يسوع: “نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وصار انسانًا”. فبإعلانها أن يسوع وُلد من مريم العذراء، ثبّتت الكنيسة أن مريم دائمةُ البتولية. وتعاليم آباء الكنيسة من اغناطيوس الانطاكي الى اوريجانوس الى امبروسيوس الى ايرونيموس الى افرام السرياني الى الكثيرين غيرهم، تفوحُ بزهور هذه العقيدة، وهي أن مريم هي “أمٌّ وبتولٌ معًا”. ويؤكدون بأنّ مريم، كما حملت بطريقة إلهيةٍ عجيبة، كذلك وَلَدَتْ بطريقة إلهيةٍ عجائبية؛ فالمسيح، كما دخل من أُذنها من دون أن يمسّ عُذريتها، كذلك خرج من حشاها من دون أن ينال من بتوليتها. وقد خرج من حشاها كما خرج من القبر من دون أن يُدحرج الحجر عن بابه، وكما دخل العلّية وخرج منها، بعد قيامته، والأبواب مُغلقة.

وقد جسّدت الكنيسة هذه العقيدة في إيقونات العذراء، حيث رمزت إلى البتولية الدائمة بثلاثة نجوم ذهبية: الأُولى على جبينها وترمز الى بتوليتها في الولادة، والثانية على كتفها اليُمنى وترمز الى بتوليتها قبل الولادة، والثالثة على كتفها اليُسرى وترمز الى بتوليتها بعد الولادة.

وقد تساءل الآباء، بِرَدِّهِم على الذين يدّعون بأن مريم قد انجبت إخوةً ليسوع بعد حين، كيف يُمكن لمن كرّست نفسها لله في الهيكل، وسألت الملاك أثناء البشارة: “كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟ ونالت الجواب من الملاك: “إن الروح القدس سينزلُ عليكِ، وقدرةُ العليّ تُظلّلكِ، لذلك يكون المولودُ منكِ قدوسًا وابنَ الله يُدعى” (لو1/35)، ولمن وَلَدَتْ ابن الله، أن تُفكّر بإنجاب أولاد آخرين؟ إن هذا لأمر لمستحيل، ولا يُمكن لمن كرّست نفسها لله، وحصلت على هذه النعمة، أن تتراجع عن عهدها مع الله، بعدما غمرتها السماء بهذا الكمِّ من البركات وهذا الفيض من المراحم. فبتولية مريم لا تقتصر على عُذرية الجسد، بل تتخطاها الى عُذرية النفس والروح التي جعلتها تكرّس كل كيانها لله، وتتّحد به بشكل كامل ومُطلق، فتُصبح مثال المرأة الكاملة والحرّة والمُتألقة بالجمال والمجد. ولكن من الممكن أن نتساءل: لماذا اختار الله هذه الطريقة؟ إن الله بحكمته، أراد أن يُعلن بهذا الحدث أن التاريخ القديم، تاريخ الخطيئة، قد انتهى، وقد انقطع الاتصال به، وأن تاريخ الخلاص قد بدأ يتحقّق بتدخل مباشر من الله[17].

2-11- مريمُ، الممتلئةُ نعمة، “الكلّيةُ القداسة”، بحرُ المراحم

إن التراثَ الكنسي، شرقًا وغربًا، يؤكّد بأن الله قد أنعم على البتول مريم منذ الحبل بها في أحشاء أمها، بنعمة خاصة قدّستها وبرّرتها وحفظتها من الخطيئة. ولذلك فالكنيسة بأجمعها تُكرّم مريم على أنها “الكلّية القداسة” و”البريئة من الخطيئة” و”المُنزَّهة عن كلّ عيب”. وهذا ما أعلنته الكنيسة الكاثوليكية في عقيدة “الحبل بمريم بلا دنس”، مُستندةً الى قول الملاك جبرائيل: ” السلامُ عليكِ يا ممتلئة نعمةً”، والى تعليم الآباء الذين أجمعوا على تفسير هذا القول بأنه يعني أنّ العذراء مريم كانت، قبل بشارة الملاك جبرائيل، كاملةً في القداسة والطهارة. وقد حدّد قداسة البابا بيوس التاسع هذه العقيدة في الثامن من كانون الأول عام 1854 قائلاً: “إننا نُعلن ونُحدّد أن التعليم القائل بأن الطوباوية مريم العذراء قد عُصمت منذ اللحظة الأولى للحبل بها من كل دنس الخطيئة الأصلية، وذلك بنعمة وأنعام فريدَين من الله القدير، ونظرًا الى استحقاقات يسوع المسيح، مُخلّص الجنس البشري، هو تعليمٌ موحى به من الله، وواجبٌ من ثمّ على جميع المؤمنين الايمان به ايمانًا ثابتًا لا يتزعزع”. وأتت العذراء في ظهوراتها للقديسة برنديت في لورد تُثبت هذه العقيدة، فعندما سألتها برنديت: “ما اسمُكِ؟”، أجابتها العذراء: “أنا هي التي حُبِلَ بها بلا دنس”. ولكن الكنيسة الأرثوذكسية لم تقبل هذه العقيدة في التعبير الذي وردت فيه، واعتبرتها غير ضرورية، بالرغم من اعترافها بأن مريم تفوق، بطهرها وقداستها، الملائكة والبشر أجمعين. فالكنيستان الشرقية والغربية مُتفقتان على النتيجة، وهي أنّ مريم كلّية القداسة وبريئة من الخطيئة بنعمة مجانية من الله، ولكن مختلفتان حول النظرة اللاهوتية للخطيئة ونتائجها، وحول دور الحرّية والإرادة في الوصول الى تلك القداسة. فآباء الكنيسة الشرقية، بمعظمهم، يؤكّدون بأن النعمة لم تَحْرِم مريم من الحرّية والإرادة وإمكانية التعرّض للتجربة، بل جعلتها أكثر قدرةً وحرية وانسجامًا مع مشيئة الله، بحيث أنها جاهدت بإرادتها ونَمَتْ بإيمانها، فاستحقّت أن تبقى “الفائقة القداسة”، والمُنزهة عن كل عيب[18].

2-12- مريمُ العذراء، المُمجّدة في السماء، غيثُ المراحم

بعد إجراء استفتاءٍ عامٍ أطلقه البابا بيوس الثاني عشر في الأوّل من أيار سنة 1946، يشمل الأساقفة والكهنة واللاهوتيين والمؤمنين في العالم كله، حول ايمانهم بانتقال العذراء مريم بالنفس والجسد الى السماء، وبعد الحصول على جواب بالإيجاب بشبه إجماع، أعلن البابا هذا “الانتقال” عقيدة ايمانية في الأول من تشرين الأول عام 1950، مؤكّدًا بأن هذا الايمان يعود الى القرون الأولى للمسيحية، ولا يُضيف شيئًا الى ايمان الكنيسة. وهذا الايمان نفسه، نجده في الكنيسة الارثوذكسيّة التي، انسجامًا مع تعاليم الآباء، تؤمن بأن مريم العذراء انتقلت بالنفس والجسد الى السماء، ولكن من دون أن تفرض هذا الاعتقاد على المؤمنين كعقيدة إيمانية. 

إن هذا التقليد لا يستندُ الى نصوص كتابية ولا الى حدثٍ تاريخي موثَّق، بل الى تقليدٍ كنسي، ووحي ايماني، وتحليل لاهوتي يعتبر أنّ مريم التي قدّسها الله، وخصّها بالبتولية الدائمة، وجعلها هيكلاً لسُكناه، قد أتمّ نعمته عليها، فحفظ جسدها من الفساد، ونقلها الى المجد السماوي. أما عن المكان الذي انتقلت منه، فالرأي الأرجح بحسب التقليد، يقول بأنه أورشليم، وأما عن العمر الذي بلغته مريم ساعة انتقالها، فالأرجح أنها ناهزت السبعين. فالمسيح الذي ارتفع بالجسد الذي أخذه من مريم الى المجد السماوي، لم يشأ أن يترك جسد أمّه يرى فسادًا، بل أراد أن يُشركها، روحًا وجسدًا، بمجده الإلهي، لتكون هي باكورةَ الذين يتألّهون، ورجاءَ كلِّ المؤمنين الذين يتوقون الى الملكوت السماوي. فالروح القدس الذي حلَّ عليها وقدّس جسدها لتكون أمّ الله، هو الذي كمّل عمله وأحيا جسدها المائت، قبل أن ينقلها ابنُها الى السماء.  فعظائم الله التي صنعها مع مريم لا تتوقّف عند حدود الحياة الزمنية، بل تتخطّاها الى الحياة الأبدية. ومن خلال مريم، يستطيع كل مؤمن أن يقرأ في مسيرتها الإيمانية، مسيرة حياته وايمانه، ومصيره الأخير في نهاية الأزمنة. فالقيامة لا تتمّ إلا عندما يبلغ الانسان ملء تلك الحياة الإلهية في كل أبعاد كيانه، ويتحوّل من انسان ترابي الى إنسان روحاني مُتّحدٍ اتحادّا جوهريًا نورانيًا بالله[19].

2-13- مريمُ المُكلّلة بالمجد، أُمُّ المراحم

لم تكن رسالة العذراء على الأرض إلا بداية فجرٍ خافتٍ متواضع خفيّ، أما رسالتها الحقيقية فلم يَسطعْ نورُها ويتألّق إلا من بعد انتقالها الى السماء. ففي البداية وُلِدَ يسوع من الروح القدس ومن مريم العذراء (راجع لو1/35)، وفي العنصرة وُلِدَتْ الكنيسة من الروح القدس ومن مريم العذراء، بحسب وعد يسوع لتلاميذه: “لن أَتركَكُم يتامى” (يو14/18)، وعلى مدى الأزمنة يولد المؤمنون بيسوع، من الروح القدس ومن مريم العذراء “ليكون هو بكرًا بين إخوةٍ كثيرين” (رو8/29). وأوّل من وُلد بالايمان من مريم ليكون صورةً لكل المؤمنين، هو يوحنا الحبيب على الصليب عندما أعلن يسوعُ قائلاً لمريم: “يا امرأة، هذا ابنُكِ”، وليوحنا: “هذه أمُّكَ” (يو19/25-27). وبالتحديد تحت الصليب، ظهرت مريم كشريكةٍ بالفداء، بحسب نبوءة سمعان الشيخ: “ها إنه جُعِلَ لسقوط كثير من الناس وقِيام كثير منهم في إسرائيل، وآيةً مُعرّضةً للرفض. وأنتِ سيجوزُ سيفٌ في نفسكِ لتنكشف الأفكار عن قلوب الكثيرين” (لو2/34-35). فبعد أن شاركت مريمُ ابنَها في كل مراحل حياته، ها هي تقفُ الى جانبه لتكون شريكةَ آلامه وقيامته، وحاملةَ رايته التي بها ستقود الكنيسة في حربها ضد ابليس. 

يقول البابا فرنسيس: “إنّ مريم هي أمّ الرحمة لأنها حملت في أحشائها وجه الرحمة الإلهية، يسوع… وهي أمّ الله الذي يُسامح ويمنح الغفران ويُفيض المراحم… إنها على مثال ابنها، غفرتْ للذين قتلوه مُردّدةً معه: “إغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون” (لو23/34). فهو غفر من على الصليب، وهي غفرت على اقدام الصليب”[20].

إن مريم هي أمّنا، ولذلك فهي تُدافع عنّا وتُشجّعنا وتُقوّينا وتُلهمنا وتُعزّينا وتتشفّع بنا، وبالتالي فهي قناةُ المراحم التي يُفيضها الله علينا بواسطتها. ومن واجبنا نحن الأبناء أن نشكرها ونُبادلها الحب والثقة قائلين مع البابا القديس يوحنا بولس الثاني: “كلّي لكِ، يا أُمّي، يا مريم”.

2-14- مريمُ، أُمُّ المراحم، في ظهوراتها

إن مريم منذ انتقالها الى السماء وهي تجول الأرض ترشّ عطر النِعم وتنثر ورود المراحم. وقد أكّدت من خلال ظهوراتها التي لا تُحصى ولا تُعدّ، على مدى القرون العشرين الماضية، أنها لم تترك ناحية في الكون، يحتاج فيها أبناؤها إليها، إلا وكانت حاضرةً لتلبية النداء. وسنعرض هنا جوهر رسالتها في أربعةٍ من الأماكن الأكثر شُهرةً التي زارتها في العالم:

2-14-1- غوادالوبي (المكسيك):

بعد أن سيطر الاسبان على المكسيك، وبعد أن تعمّد قسمٌ كبير من السكان الأصليين على يد المُرسلين، خاصةً الفرنسيسكان، وبعد أن شهدت البلاد نزاعًا كبيرًا بين المُعادِينَ للسكان الأصليين والمُدافعين عنهم، أتت العذراء لتحلّ النزاع من خلال ظهورها لِلهنديّ خوان دييغو الذي كان في طليعة الذين آمنوا، ونالوا سرّ العماد. فقد ظهرت له عدة مرّات خلال سنة 1531، وقد طبعت صورتها على معطفه تحت اسم “سيّدة البتولية الدائمة”، “القديسة مريم في غودالوبي”، ووحّدت الحضارتين على تكريمها. ومن أقوالها لِخوان دييغو: “أنا حقًا أمُّك العطوف وأمُّكم جميعًا، أنتم الذين يُؤلفون وحدة الأرض، أمّ جميع سُلالات البشر من كل جنس، جميع الذين يُحبونني ويدعونني ويبحثون عنّي ويلتجئون إليّ؛ فأنا هنا أُصغي إلى دموعهم وأحزانهم، وأُسارع الى رعايتهم والعناية بهم، والى شفاء أوجاعهم وتخفيف أعبائهم وآلامهم ومُعاناتهم”.. وقد أحدثت صورةُ العذراء ما يُشبه عنصرةً جديدة، أتاحت لكثير من الوثنيين الايمان والدخول الى حظيرة الخراف، فبلغ عدد الذين اعتنقوا الدين المسيحي تسعة ملايين شخص بعد تسع سنوات على الظهور[21].

2-14-2- لورد (فرنسا):

لقد ابتدأت ظهورات العذراء على برنديت سوبيرو في الحادي عشر من شباط عام 1858، ولكن مريم لم تُعلن عن اسمها إلا بعد عدة ظهورات وشفاءات، أي في الخامس والعشرين من آذار من نفس السنة، حين أجابت على سؤال برنديت: “ما اسمُكِ؟”، قائلةً: “أنا هي التي حُبل بها بلا دنس”. وجاء هذا الجواب على لسان فتاةٍ متواضعة فقيرة ليُؤكّد العقيدة التي أعلنها البابا بيوس التاسع، قبل أربع سنوات، بقوله: “نُحدّد أن العذراء القديسة، قد وُقِّيَتْ، منذ اللحظة الأولى للحبل بها، من كلّ أثر للخطيئة الأصلية”. وقد كثُرت الأشفية التي تحقّقت بواسطة مياه النبع الذي تفجّر في مغارة لورد، لتكون إثباتًا على حقيقة الظهور. وقد كانت هذه المياه هي الدواء الوحيد العجيب الذي يشفي كلّ الأمراض والعاهات.

وبعد إتمام المهمّة انسحبت برنديت من وسط المعركة لتُعاني نسيج مِحَنٍ متواترة: الابتعاد عن محيطها، همُّ ذويها بصفتها الكبرى وعليها العناية بأسرتها، مواجهة الفُضوليين والمُشككين، عجزها عن العمل والخدمة بسبب الجهل والمرض، قسوة الرئيسات عليها ومعاملتها باحتقار وإذلال، آلامها الجسدية بسبب كثرة الأمراض التي اجتاحتها، وقد قالت لإحدى الراهبات: “إنّي أُطحنُ مثل حبّة القمح… ولم أكن أظن أن الموت يستلزم هذا الألم”. ولم يكن هذا غريبًا عليها لأنّ العذراء كانت قد أنبأتها في رسالة لورد الأولى قائلةً لها: “لا أعدكِ بالسعادة في هذه الدنيا، بل أعدكِ بها في العالم الآتي”. وقد أصبحت لورد اليوم من أكبر مستشفيات العالم للأمراض المستعصية، ورسالةً الى أبناء عالمنا بأن الايمان هو الدواء الوحيد لكل الآلام والأمراض، وبأن مريم “الكاملة القداسة” هي الشفيعة القديرة أمام الله، وهي أمّ المراحم الإلهية[22].

        2-14-3- فاطمة (البرتغال):

لقد سُمِّيت البرتغال “موطن العذراء”، لأن معظم كنائسها تحمل اسم مريم، ولأن الملك جان الرابع قد كرّس مملكته رسميًا لسيّدة الحبل بلا دنس، بتاريخ 20 تشرين الأول 1646، أي قبل حوالي أكثر من قرنين على إعلان عقيدة “الحبل بلا دنس”. ويعود اسم بلدة “فاطمة” الى أميرةٍ أندلسية رائعة الجمال تُدعى بهذا الاسم، وقعت في أسر البرتغاليين. وقد أُغرم بها القائد الذي أسرها، وعشقته هي أيضًا، فاعتنقت المسيحية وتزوجته، وتحوّل اسمها الى “أوريتا”. وقد أهداها الملك قريةً أَطلق عليها اسمها، وقد تحوّل هذا الاسم الى أوريم، وهو الاسم الذي تُعرف فيه تلك المنطقة اليوم. ولكن هذه الأميرة لم تعش إلا سنوات قليلة، فحزن القائد على موتها، وزهد بالدنيا وابتنى ديرًا دفن فيه جثمان زوجته، وترهّب فيه وأطلق عليه اسم زوجته “فاطمة”. وظهرت قرب الدير قرية حملت اسم “فاطمة” أيضًا.

 ففي تلك المنطقة ظهرت العذراء لثلاثة أطفال: لوسيّا وابنَي عمّتها فرانشيسكو وهياسنت، بعد أن كان ملاك الرب، ملاك السلام، قد ظهر لهم عدّة مرّات في عامي 1915 و1916. فظهور العذراء الأول كان يوم الأحد في 13 أيار 1917، وتكررت الظهورات على مدى ستة أشهر في نفس التاريخ من كل شهر، أي حتى 13 تشرين الأول. ففي الظهور الثالث في 13 تموز، أَرتهم العذراء جهنّم التي هي مآل الأشرار، لكي تُحذّر الناس من فظاعة العذابات التي سيتحمّلها من يعيش في الخطيئة ويرفض الدعوات المُتكرّرة الى الندامة. وكانت رسالة العذراء تركّز أيضًا على ضرورة الصلاة والتوبة لإيقاف الحروب. وقد حذّرت أيضًا من حرب أدهى وأشرس في حال لم يستجب العالم لنداء التوبة، لأن الله سيُعاقب العالم بواسطة الحروب والمجاعات والاضطهادات التي ستطال الكنيسة والأب الأقدس. وقد طلبت العذراء تكريس روسيا لقلبها الطاهر، لتعود روسيا الى الله فيسود السلام. وقد أعلنت عن نفسها بأنها “سيّدة الوردية”، وطلبت أن يُشاد لها مزارًا في تلك المنطقة، وأن يستمرّ الناس في تلاوة الوردية، وأن الحرب العالمية الأولى ستنتهي قريبًا.

ففي الجزء الأول من سرّ فاطمة، تُذكِّرُ العذراءُ العالمَ بأن الانسان مدعوٌّ الى القداسة، ومن يرفض السير في هذه الطريق، يُعرّض نفسه لنيران الأضاليل المتمثّلة بجهنم. أما الجزء الثاني من السرّ، فيدعو الى التكفير عن الإهانات التي تطال قلبَي يسوع ومريم الطاهرين، بتكريس الذات لله، وبممارسة سرَّي التوبة والافخارستيا، وبعيش الرحمة والخدمة. وأما الجزء الثالث من السرّ، فقد أشار الى دمار كبير، والى استشهاد جماهير غفيرة من المسيحيين، اكليروسًا وعلمانيين، وعلى رأسهم البابا. وقد تمّ الإعلان عن الجزء الثالث من السرّ في 26 حزيران 2000، وقد جاء التفسير بأنه يرمز الى ما تعرّضت له الكنيسة من اضطهادات في القرن العشرين، وكاد البابا يوحنا بولس الثاني يكون من ضحاياها، بعد تعرّضه للإغتيال في 13 أيار 1981، لو لم تتداركه السيّدة العذراء بحمايتها. ولكن، بالرغم من كل الويلات والمآسي، فإن ما يبعث على الرجاء، هو أن قلبَ مريم الطاهر هو مَن سينتصر في النهاية، لأنها الوحيدة التي ستسحقُ رأس الحيّة وتهزم قوّات الجحيم تحت راية ابنها الذي سيُعيد المُلك كلّه للآب[23].

        2-14-4- مديوغوريه (البوسنة ـ هيرزيغوفين):

في هذه القرية الصغيرة النائية المجهولة الواقعة في الجزء الكرواتي الكاثوليكي من البوسنةـ هيرزيغوفين، التي ذاقت الأمُرّين من الاضطهاد التركي العُثماني على مدى أربع مئة سنة كاملة، وحملت صليب الاضطهاد الشيوعي على مدى عشرات السنين من حكمه الظالم، أرادت العذراء “الغوسبا” أن تُظهر عناية الله ورحمته بأبنائه المُضطهَدين الصابرين الصامدين في وجه العنف والشرّ والباطل، فظهرتْ حاملةً لقب “ملكة السلام”، عاملةً على إطفاء نار الحرب في بلاد البلقان وحول العالم. ولقد اختارت ستّة أولاد هم: ميريانا وايفانكا وفيتسكا وماريّا وإيفان وياكوف، ليكونوا رُسُل السماء على الأرض. وكانت فيتسكا كبرى أعضاء الفريق في السابعة عشرة، وياكوف الأصغر في العاشرة من عمره. وكانت مقدِّمة الظهورات في 24 حزيران 1981، وامّا الظهور الأول الذي جمع الأولاد الستة فكان في اليوم التالي 25 حزيران. ويجدر بالذكر هنا أن محاولة اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني كانت قد جرت قبل ذلك بحوالي 40 يومًا، وكأن الظهورات أتت لتكون ردّ السماء على قوّات الظلمة بأن أبواب الجحيم لن تقوى على الكنيسة. وفي الظهور الثالث يوم الجمعة 26 حزيران أعلنت العذراء عن سبب مجيئها قائلةً: “جئتُ الى هنا لأنّ في هذه المنطقة مؤمنين حقيقيين كثيرين. وإنّي راغبةٌ في البقاء معكم لأجل ارتداد العالم أجمع الى الله، وإشاعة السلام بين هذا الشعب، ومصالحة البشر أجمعين”.

وقد واجه الأولاد في البداية، عراقيل كثيرة من الحكم الشيوعي، ولكنّ العذراء كانت تفتح لهم الطريق كلما حاول ابليس اغلاقها. ولقد امتاز الرؤاة بالصراحة والواقعية والانفتاح والفرح والصدق والتجرّد والعفوية واحترام الآخرين وحُسن التمييز وصواب الرأي. واما صدقيّة الظهورات فيؤكّدها محتوى الرسائل التي تتطابق كلّيًا مع تعاليم الانجيل والكنيسة، وتُثبّتها الثمار الرائعة التي تجلّت في حياة الرؤاة وأبناء الرعية وملايين الحجاج. وما قامت به العذراء في مديوغويه، لم تقم به من قبل في أيّ مكان من العالم. إنه عمل فريدٌ في التاريخ ما زال مستمرًّا منذ 35 سنة.

 وجوهر رسالة العذراء في مديوغوريه التي كانت خاضعة للإلحاد، هو أن الله موجودٌ، وهو الحقيقة، وفيه ملء الحياة والسعادة الحقّة، وأنّ الايمان هو طريقنا اليه، وأنّ التوبة والصلاة والصوم والقربان والكتاب المُقدّس هي الأسلحة التي تجعلنا ننتصر على المُضلِّل ابليس، وأنّ المحبة والرحمة والغفران هي طريق السلام، وأنّ جميع البشر متساوون أمام الله، ولكن ليس جميع الأديان.

إنّ العذراء ما زالت تجول العالم لكي تُعيد البشرية الى خالقها، وهي تتألّم جدًّا وتبكي بسبب خطايانا. إنّ ما يحدث في مديوغوريه هو الحدث الكوني الأهم في العالم، إنها بابٌ مُشرّعٌ على السماء. لقد تحوّلت هذه القرية الصغيرة الى أكبر كرسي اعتراف في العالم، والى واحدة من كبرى مستشفيات العالم لكافة الأمراض المستعصية روحيًا وجسديًا، والى واحدة من أهمّ مدارس الايمان والصلاة في العالم. لقد أرادت مريم من خلال هذه الظهورات، أن تؤكّد لنا أنها أمُّنا وشفيعتُنا أمام الله، وأنها المحاميةُ عنّا في وسط الأخطار والشدائد، وأنها هي من يستمطر علينا المراحم وبركات السماء[24].

2-15- مريمُ، أُمُّ المراحم، في كلِّ مكان

        إن ظهورات العذراء لا تُحصر في مكان أو زمان، بل هي تعبر كل الأجيال وتمتدّ الى كل القارات. فهي منذ انتقالها الى السماء، تجول مُتفقّدةً أبناءها، خاصة في الأمكنة الخطرة وفي الأزمنة العسيرة. ومن أشهر البلدان التي ظهرت فيها العذراء: المكسيك (غوادالوبي 1531)، الهند (فيلانكانّي 1580)، فرنسا (لوس 1664 – كاترين لابوريه والايقونة العجائبية 1830 – لاساليت 1846 – لورد 1858)، البرازيل (أباريسيدا 1717)، بولونيا (غيتشفاود 1877)، البرتغال (فاطمة 1917)، بلجيكا (بورينغ 1932 – بانّو 1933)، فينزويلا (بيتانيا 1976)، اسبانيا (الاسكوريال 1980)، نيكاراغوا (كوابا 1980)، البوسنة-هيرزيغوفين (مديوغوريه 1981)، رواندا (كيبيهو 1981)، سوريا (الصوفانية 1982)، ايرلندا (مغارة ميلليري 1985)، هولندا (أمستردام 1987)، الارجنتين (سان نيكولاس 1983)[25]… هذه الظهورات ليست إلا عيّنة بسيطة من الظهورات التي لا تُحصى ولا تُعدّ على امتداد التاريخ والكرة الأرضية.

الخاتمة:

من خلال هذه الجولة الكتابية والعقائدية، الايمانية والروحية، رأينا أن الله ما زال يُرافقنا بعنايته ومحبته منذ التكوين والى اللانهاية، بأشكال مختلفة ووسائل متنوّعة. وقد شاء، في زمن الروح القدس الذي نعيش فيه، أن يكشف لنا عن عنايته بنا ورحمته علينا، بإرسال مريم، أم الرحمة الإلهية وملكة السلام، لتتفقّد أبناءها وتُعزيهم وتّشجّعهم وتهديهم وتنصرهم بالحق على كل أعدائهم الخفيين والظاهرين. وها هي “أمّ المراحم” تعتلن في الأزمنة الصعبة والأمكنة المُهدّدة والأوقات المصيرية، خاصةً عندما يستنجد بها أبناؤها.

ففي المكسيك حقّقت السلام بين المُستعمِرين والسكان الأصليين، وجعلت منهم شعبًا واحدًا يعبد الله الحق، ويُكرِّمها كأمٍ وشفيعة. وفي البرتغال أبعدت الحروب التي دمّرت أوروبا وهزّت العالم، عن شعب هذا البلد الذي تكرّس لله بالإيمان والتوبة والصلاة، ووضع ذاته تحت حمايتها. وفي فرنسا أعادت الايمان لكثيرين كان قد جرفهم تيار الثورة والإلحاد والكفر الى مستنقع الظلمة والموت، فانتشلتهم بإيقونتها العجائبية ومياهها المقدّسة، من الضلال والانحلال. وفي مديوغوريه حطّمت رايات الحرب التي كانت تُرفرف في سماء البلقان مُهدّدةً بحرب عالمية، وانتشلت البقية الباقية من أبنائها الذين صمدوا في وجه أعنف أنواع الاضطهاد والإذلال على مدى مئات السنين. وأتت الى الشرق الاوسط، الى سوريا، الى الصوفانية، لتدعو الجميع الى الوعي والسهر وتحقيق الوحدة، قبل أن يُنَفِّذَ ابليس خريطة الخراب والدم وينشُرَ رائحة الموت والدمار، على مدى الشرق الأوسط وما يُحيط به من بلدان، ولكنّ الإنذار لم يلقى آذانًا صاغية ولا أذهانًا منفتحة، فكان ما كان.

ولكنها، بصلوات الأبرياء الذين اضطُهِدوا وتَهجّروا وذاقوا مرارة الإذلال، والأتقياء الذين خافوا وصرخوا وابتهلوا الى السماء، وباستحقاقات دماء الشهداء الأوفياء الذين لم يركعوا للشيطان، وفضّلوا الموت على انكار الحقّ والايمان، سمعت الأمّ الحنون هذا الصراخ والانين، وابتهلت الى الله، فأنقذ الربُّ بشفاعتها، العالم من شبح حربٍ عالميةٍ ثالثة، كانت لتقضي على كل حيٍّ وحياة.

وماذا بعد كل هذه المسيرة الطويلة من الرحلات والزيارات والظهورات والانتصارات؟ الى أين ستتوجّه “أمّ الرحمة”، سُلطانة السماء والأرض؟ وأين ستنتهي معركةُ تلك المرأة المُلتحفة بالشمس، والمُكلّلة بالكواكب، والمُرتفعة كالأرز في لبنان؟

إنّ ظهوراتها ومعاركها ستتواصل الى أن تنتهي بانتصار ابنها يسوع النهائي، وإخضاع كل شيء تحت قدميه، “ومتى أُخضعَ له كلُّ شيء، فحينئذٍ يخضعُ الابنُ نفسُه لذاك الذي أخضعَ له كلَّ شيء، ليكونَ اللهُ كلَّ شيء في كلِّ شيء” (1قو15/28). وأمّا تحديدُ مسارها فيتمّ بحسب مشيئة الآب السماوي، ورغبة قلب ابنها، وهبوب رياح الروح الإلهي، وحاجة أبنائها الى المعونة والحماية والهداية. وفي هذه الأثناء، ستّتابع “أمّ المراحم” مسيرتها الى أن ينتصر قلبُها الطاهر، فيُشرقُ نورُها على العالم والكونِ، مثلَ شمسٍ ساطعةٍ في يوم صيفٍ صافٍ على مدينةِ الشمسِ وجبالِ الأرزِ في لبنان.


[1] البابا فرنسيس، مرسوم يوبيل الرحمة، الفقرة الثانية عشرة

[2] المرجع نفسه، الفقرة التاسعة

[3] البابا يوحنّا بولس الثاني، الرسالة العامة الثالثة: “الغني بالمراحم”، “الكشف عن الرحمة”، الفقرة الأولى

[4] المرجع نفسه، “تجسّد الرحمة”، الفقرة الثانية

[5]  بالنسبة لتفسير الكتاب المقدّس، راجع موقع الأنبا هيمانوت، الإسكندريّة، مصر

[6]  البابا يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة الثالثة، “الغني بالمراحم”، أم الرحمة، الفقرة التاسعة

[7]  راجع موقع زينيت، مريم هي ابنة الآب، أمّ الابن وعروس الروح القدس

[8] موقع La miséricorde divine, Marie mère de la miséricorde

[9] القديسة فوستين، السيرة الذاتية، 1244، 625

[10] عظة البابا فرنسيس يوم الجمعة 1 كانون الثاني 2016، لمناسبة عيد أمّ الله القديسة

[11] موقع Zenit, Marie chantre de la miséricorde

[12]موقع abouna.org اللقاء الإسلامي المسيحي حول مريم في لبنان. نُقِلَ العيد إلى الرابع من نيسان 2016، بدلاً من الخامس والعشرين من آذار الذي صادف يوم الجمعة العظيمة بحسب التقويم الغربي، ولذلك عُقِدَ اللقاء في هذا التاريخ

[13] يوسف عوده، الشخصيّات البيبليّة في القرآن والإسلام، غوسطا، 2012، ص 184

[14] المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة، نور الأمم، فقرة 61

[15] راجع موقع زينيت، اعجوبة مريمية في وسط دمار هيروشيما

[16] راجع موقع “المركز الدائم للتنشئة المسيحية”، مقالة المطران كيرلّس سليم بسترس، مريم العذراء في عقيدة الكنيسة، ص 2-7

[17] المرجع السابق ص 7-10

[18] المرجع السابق ص 10-15

[19] المرجع السابق ص 15-19

[20] عظة البابا فرنسيس في كنيسة مريم الكبرى أثناء فتح الباب المقدّس في سنة الرحمة الإلهية في 1 كانون الثاني 2016

[21] أديب مصلح، ظهورات كيبيهو وغوادالوبي، المطبعة البولسية، جونيه، لبنان، ص 153-251

[22] أديب مصلح، ظهورات لورد، المطبعة البولسية، جونيه، لبنان، 2011

[23] راجع أديب مصلح، ظهورات فاطمة، المطبعة البولسية، جونيه، لبنان، 2011

[24] راجع أديب مصلح، ظهورات مديوغوريه، المطبعة البولسية، جونيه، لبنان، 2011

[25] راجع أديب مصلح، سلسلة الظهورات، 1-10، المطبعة البولسية، جونيه، لبنان

Scroll to Top