Almanara Magazine

إيمان موسى أو موسى وخيارات الإيمان

الأب يونان عبيد م. ل

مقدمة

اين يمكننا سماع كلمة الله؟ إنه الكتاب المقدس، حيث كلمة الله قد صارت مسموعة منّا، وبات بإمكانها أن تغذي حياتنا كأصدقاء لله. فكل الكتاب المقدس يسرد لنا وحي الله عن ذاته للبشرية ويعلمنا الإيمان بسرد تاريخ قيادة الرب لنا نحو تدبيره الخلاصي، حيث جعل نفسه قريبًا منّا نحن البشر، من خلال العديد من الأشخاص الملهمة، الذين قد آمنوا به ووثقوا فيه، حتى بلوغ الوحي إلى ملئه في الرب يسوع. رائع في هذا الصدد الفصل الحادي عشر من الرسالة إلى العبرانيين، حيث تكلم الكاتب عن الإيمان مسلطًا الأضواء على شخصيات كتابية قد عاشت وصارت نموذجًا لكل المؤمنين. من بين هذه الشخصيات نتناول اليوم “موسى”.

يرتبط اسم موسى بالعهد الذي قطعه مع الرب على جبل سيناء: الرب يكون إله الشعب يحرسهم ويحميهم، والشعب يحفظ وصايا الرب ويعمل بها. موسى أيضًا، هو محرر شعبه من العبودية، ولقد قام بعمله بناء على طلب الله الذي ظهر له في جبل سيناء عبر عليقة مشتعلة واعلن له أن اسمه “يهوه” الإله الكائن، الذي يرى مذلّة شعبه ويخلّصه من الضيق. دعاه الله وجعله نبيّه والمتكلم باسمه. موسى أيضًا وأيضًا هو المشترع الذي أوصل إلى الشعب وصايا الله، فنبّه الشعب إلى أهمية عبادة الإله الواحد، واحترام اسمه، وإكرام الوالدين، وإلى الامتناع عن إيذاء القريب. موسى هو رجل حمل نداء الرب في قلبه طوال حياته، فأحسّ أنه يمثل الرب أمام شعبه ويمثّل الشعب أمام الله، فارتفعت صلاته إلى الله:” يا رب قد خطئ هؤلاء الشعب خطيئة عظيمة، فاغفر لهم خطيئتهم وإلاّ فامحني من كتابك الذي كتبته” ( خر31:32-32). وسيعفو الرب عن الشعب إكرامًا لموسى، ويستمع الشعب للرب بواسطة موسى.

والآن أتناول موضوع “إيمان موسى” أو موسى وخيارات الإيمان، انطلاقًا من الفصل الحادي عشر من الرسالة إلى العبرانيين ( من 23 إلى 29). وأقرأ بالمقابل، الفصل الثاني من سفر الخروج من الفقرة (11-15).

نسأل الروح القدس الذي قاد موسى، وألهم النصوص الكتابية التي تتحدث عنه، ان يعمل فينا لنوسّع إيماننا.

نبدأ الان بفحص الآيات السبع التي تكشف لنا عن الإيمان العملي في حياة موسى.

  1. تأثير الإيمان: ” بالإيمان أخفى والدا موسى ابنهما ثلاثة أشهر بعد مولده لأنهما رأيا الطفل جميلاً، وما أخافهما أمر الملك”، الذي طلب من شعبه أن يقتلوا الذكور حين يولدون(خ16:1، 22).

لقد وثق والدا موسى في الله بخصوص حياته. فلم يكونا مجرّد أبوين ممتازين بل كانا أيضًا يؤمنان بأن الله سيرعى ابنهما. فالإيمان لا يُنقل من الأب إلى الابن، ولا من الأم إلى الابن. الإيمان هو انضمام شخصي لكلام الله. هذا لا يمنع ان الإيمان بإمكانه أن يكون له تأثير على حياة الآخرين، سواء بالشهادة المعاشة، أو بالأعمال والصلوات. بدون الإيمان الذي أعطى الشجاعة لوالدَي موسى أن يخالفوا أمر فرعون، لما كان موسى على قيد الحياة. هذه الشهر الثلاثة التي شهدت يمرينًا للإيمان لإخفاء الطفل موسى، أثرت بلا شك على تاريخ البشرية بأكملها. والدليل على ذلك، أن ابنة الفرعون، تحت أعين الأخت الكبرى لموسى، ساهمت في انقاذه. نشير هنا إلى أن النساء لعبت دورًا هامًا في انقاذ موسى، على مدى حياته:

  • النساء القابلات خفن من الله أكثر من الفرعون (خر1: 15-21).
  • أم موسى واخته.
  • ابنة الفرعون التي ربّته ونشأته.
  • امرأة موسى “سيفورة” كان لديها في التمييز أكثر من موسى ( 4: 24 – 26)

إذن إيمان الآخرين، بإمكانه أن يكون له تأثير كبير على حياتنا، لكن لا تعفي أبدًا من قرار شخصي لاختيار كلمة الله كأعلى سلطة في حياتنا. وهكذا علينا أن ندرك بأن الإيمان يتيح لنا أن نسلّم عائلاتنا لله.

  • الإيمان هو خيار تقريري مدروس: “بالإيمان رفض موسى، بعدما كبر، ان يُدعى ابنًا لبنت فرعون”، التي قامت بتربيته في بيت فرعون ذاته (خر 2:1). لكن تطلب المر من موسى إيمانًا حتى يتخلى عن مكانته في القصر. لأن الإيمان في حد ذاته يتضمن الرفض والتنكر. ان خيار موسى كان شجاعًا لأنه تخلى عن لقب النبل في الارستقراطية المصريّة. كما انه تخلى لأن يكون ميسورًا. يكفي أنه رفض البنوّة لابنة الفرعون، وهو في عمر الأربعين.

كان موسى يدرك تمام الادراك النتائج المترتبة لهذا الخيار، لكنه بالمقابل كان يعرف ما ستؤول إليه النتائج في حياته، في حال رفض الطاعة للخيار الذي قدّمه له الرب. فموسى لم يأخذ قراره بخفة أو لامبالاة.

يسوع بدوره يدعونا إلى التنكر للذات وإلى الرفض، لنكون أهلاً لاتباعه على طريق الايمان: ” وهكذا لا يقدر احد منكم أن يكون لي تلميذًا، إلاّ إذا تخلى عن كل شيء له” ( لو25:14-33). كذلك موسى فضّل ان يمشي في النور مع الله بدلاً من أن يكون بين العظام في مصر.

أنه من السهل أن ينخدع الانسان بالمنافع الوقتية للنزوة والشهرة والمركز والجاه والنجاح والانجازات، وان تعمى عيناه عن المزايا الطويلة المدى والدائمة لملكوت الله. فالإيمان يساعدنا على أن نتطلع إلى ما وراء قيمة العالم لنرى القيم الابدية لملكوت الله.

  • الإيمان خيار تضامني ومتماهي: ” وفضَّل أن يشارك شعب الله في الذلّ على التمتع الزائل بالخطيئة” هي حياة العائشين في القصر الملكي مع ما في هذه الحياة من بحث عن الرخاء واستسلام للملذات. ولكن موسى اختار الذل، ووجّه خيارَه هذا الإيمان.

الإيمان الموصوف بالكتاب المقدس هو دومًا خيار متماهي ومتضامن. بالتزامنا في طريق الإيمان، نتماهى مع الله، فهو أبونا ونحن أولاده. كما أننا نتضامن أيضًا مع الله. العهد الجديد يعرض هذه العلاقة الجديدة: “نحن نعرف أننا  انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب أخوتنا ومن لا يُحب بقي في الموت” (1يو14:3). إشارة إلى أن الاخوة هم الخوة المؤمنون. سفر أعمال الرسل يثبت أن انصهار كل مؤمن في الكنيسة هو جزء لا يتجزأ من عمل الله في حياتنا: “وكان الرب يزيد كل يوم للكنيسة عدد الذين أنهم عليهم بالخلاص” (47:2). تلقى المؤمنون رسالة التبشير بالإنجيل، لكن الرب نفسه هو الذي يبني كنيسته. فالله ينادينا لأن نكون عمالاً معه، ولكن دون عمله في القلوب، لا نستطيع أن نبني، ولا أن نزرع، ولا أن ننظم الكنيسة. فلتكن الأولوية إذن التبشير بالإنجيل، حتى الذين يسمعون يمكنهم أن يؤمنوا، وهكذا يضافون إلى الكنيسة بواسطة الرب نفسه. هذا الانصهار إلى الكنيسة، هو أمر عادي في حياتنا المسيحية.

النبي موسى يُظهر لنا المثلفي هذ الإطار، حسب الرسول بولس: “وفَضَّل أن يشارك شعب الله في الذلّ على التمتع الزائل بالخطيئة”. فالخطيئة في هذه الحال، بالنسبة إلى موسى، كان بإمكانها أن تقوم، “بالطَرَش” تجاه نداء الله، ويبقى عائشًا بالجاه والرفاهية طيلة حياته. لكن عدم طاعتنا لله هو خطيئة، مهما كان السبب ومهما كان واقع الحال.

  • الإيمان يميّز القيم الحقيقة: “واعتبر موسى عار المسيح أغنى من كنوز مصر، لأنه تطلّع إلى ما سيناله من ثواب”. مع أن موسى لم يكن على علم بتفاصيل الانتظار المسيحاني، إلاّ أنه شارك شعبه الذي تحقق فيه هذا الإنتظار. نستشف في الفصل 11 كله، حضورًا سريًا للمسيح: منذ ذبيحة هابيل، وصعود أخنوخ إلى السماء، وخلاص نوح، وولادة اسحق، “وقيامته” واستعادة حياته. أما مع موسى فجاءت الإشارة إلى المسيح واضحة. فموسى هو محرّر شعب الله ووسيطه. وحين احتمل الآلام والمحن المرتبطة بقائد الخلاص المحرّر، بدا وكأنه يشارك المسيح عاره. تبنّته ابنة الفرعون، فنال امتيازات من هذا التبني. ولكنه فضّل تبنيًا آخر، ألا وهو التبني الإلهي.

بالنسبة إلى غير المؤمنين، انهى المسيح حياته بطريقة محزنة ومخزية على الصليب. ولكن بالنسبة الينا نحن المؤمنين بالمسيح وقبلناه في حياتنا، الصليب هو باب السماوات. فالإيمان يُضيء نظراتنا على غنى المسيح. هذا الغنى هو أزلي يناقض الثروات الأرضية.

موسى قام بالاختيار الصالح، لأنه كان نظر إلى المستقبل – خاصة وإنه عاش لمدة أربعين سنة بالبذخ – أدرك أنه لا يخسر شيئًا بتنكره لكنوز مصر. النص الكتابي استعمل كلمة “كنز” فيما يخص القيم المصرية، أما كلمة “غنى”، فيستعملها للقيم الروحية. وفي حال تعلّق موسى بالكنوز المصرية، لكان من المستحيل أن يتحرر شعبه من العبودية. أما غنى المسيح، فنتبعه في كل مكان وزمان. ألم يقل المسيح: “لا تجمعوا لكم كنوز على الأرض، حيث يفسد السوس والصدا كل شيء، و لا ينقب اللصوص و لا يسرقون” ( متى 19:6-20).

الغنى ليس مرادفًا للمال. وإذا لم نفهم ذلك، هناك خطر أن نقوم بخيارات رديئة. والله يحذرنا من هذا الخطر. يقول بولس: “أما الذيم يطلبون الغنى فيقعون في التجربة والفخ، وفي كثير من الشهوات العمياء المضرة التي تغرق الناس في الدماء والهلاك. فحب المال أصل كل شر، وبعض الناس استسلموا اليه فضلّوا عن الإيمان وأصابوا أنفسهم بأوجاع كثيرة” ( 1 تمو6: 9- 10). كيلا نُخدع علينا ان نركز نظرنا على الله الذي يدبّر كل حاجاتنا ويكافئنا أكثر مما نستحق.

  • الإيمان هو التزام واضح ودائم: “بالإيمان ترك موسى مصر دونا أن يخافمن غضب الملك، وثبت على عزمه، كأنه يرى ما لا تراه عين” (27) يشير النص إلى هرب موسى من مصر إلى مديان، وهو ابن اربعين سنة. و لم يخف من غضب الملك. نجد ان سفر الخروج (14:2) قال انه خاف ولم يقل ممّ خاف. وقال لنا إنه هرب من فرعون الذي طلب قتله (15:2). أما الرسالة إلى العبرانيين فبيّنت أن موسى دل في هربه من فرعون، على ثقة بالله ساندته من أجل تحرير شعبه.

في هذا النص نرى موسى جازمًا في إيمانه. والله يدعونا إلى هذا النوع من الحزم في الإيمان. يقول أشعيا: “ان عزم المة لثابت: انك ترعاها بالسلام السلام لأنها عليك توكلت” (3:26). الله يدعونا ربما لنترك وضعا ننعم من خلاله بخطيئة خاصة، ونعرف جيدًا إنه علينا ان نأخذ هذا القرار ونقوم بالخطوة. ولكن نعرف ان البعض لا يكونون مسرورين في حال فعلنا ذلك.

ما العمل؟ الله يكشف لنا عن الحلّ في رسالة يعقوب:” ادا كان كان أحد منكم تنقصه الحكمة، فليطلبها من الله ينلها، لأن الله يعطي بسخاء ولا يلوم. وليطلبها بإيمان لا ارتياب فيه، لأن الذي يرتاب يشبه موج البحر اذا لعبت به الريح فهيّجته. ولا يظن أحد كهذا انه ينال من الرب شيئًا، لأنه انسان منقسم الرأي متردد في جميع       طرقه” (1: 5– 8).

عندما يكشف لنا الله عن الطريق الذي يجب اتباعه للخروج من وضع يشجبه، عندها يظهر وكأنه الكفيل الضامن لنجاح هذه الخطوة الايمانية. موسى ظهر بأنه حازم ومصمم، ليس فقط أمام فرعون، إنما أيضًا طيلة الأربعين سنة في البرية مع شعب ناقم. لذا يجب علينا ألاّ نجد أعذارًا “نلطي” وراءها، لنبرّر الحزم في الإيمان. 

ان ثباتنا وحزمنا في الايمان يأتي من الرب، حسب الرسولين بولس وبطرس: يقول بولس: “وهو الذي يحفظكم ثابتين في الايمان إلى النهاية، حتى لا يكون عليكم لوم في يوم ربنا يسوع المسيح” ( 1 قور8:1). ويقول في الرسالة إلى أهل تسالونيقي: “لكن الرب أمين، وهو سيقويكم ويحفظكم من الشرير” (3:3). أما الرسول بطرس فيقول: ” وإله كل نعمة، الإله الذي دعاكم إلى مجده الأبدي في المسيح يسوع، هو الذي يجعلكم كاملين، بعدما تألمتم قليلاً، ويثبتكم ويقويكم ويجعلكم راسخين”. (1بط10:5).

بالنظر إلى الاله وليس إلى ذواتنا، نثبت في الإيمان، مهما كانت المتاعب والمصاعب.

  • لا ايمان دون صليب: “بالإيمان أقام الفصح ورشّ الدم، لئلا يمسّ ملاك الموت أيّ بكر لبني اسرائيل” قبل الهروب من مصر، كانت كل عائلة تقدّم حملاً كذبيحة، والهدف هو تجنب الجرح العاشر لمصر، وهو موت كل الأبكار في البلاد. وتأسيس الفصح لتذكار هذا الحدث.

بيسوع لدينا الدم المهدور الذي يسمح لنا بتجنب المخرّب الهدام. على كل هكذا عرّف المعمدان عن يسوع: ” وفي الغد رأى يوحنا يسوع مقبلاً اليه، فقال: ” هذا هو حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم” (يو 29:1). موسى أطاع الله بتقديمه حملاً، اذن فلنقدّم الطاعة إلى الله، كونه يقول لنا: ” وبينما بطرس يتكلم، ظللتهم سحابة مضيئة، وقال صوت من السحابة: ” هذا هو ابني الحبيب الذي به رضيت، فله اسمعوا” (متى 5:17). فلنصغ ذواتنا تحت حماية دم الحمل، الذي اهرق دمه على الصليب.

  • الإيمان الذي يكشف عن طريق الخلاص: ” بالإيمان عبر بنو اسرائيل البحر الأحمر كأنه برّ، ولما حاول المصريون عبوره غرقوا”. الإيمان الحقيقي لا يُقتدى به، والمصريون جرّبوا ذلك بألم.

لكن لدى الإيمان الحيّ بعض الشيء الذي يقنع. ان شعب اسرائيل، بالرغم من لحظات الشك، تبع موسى واثقين بالله، كي يعبروا البحر الأحمر. ويجدر القول بأن وصول الفرق المصرية لم تشجعهم للرجوع إلى الوراء. فالرب أعطاهم الظروف التي تساعدهم على السير في خطى الإيمان. وهذا ما فعلوه. ان عبورهم للبحر الأحمر سيكون شهادة لكل مؤمني الأزمنة.

نحن لا يمكننا ان ننقذ الآخرين بإيماننا الخاص، لكن يمكننا أن نكون عمالاً مع الله، كي نكشف عن طريق الإيمان. ان اسم موسى يعني “المُنتشل” من المياه، أو المُنتشِل لشعبه من العبودية. وحده يسوع يُنقذ ويخلّص، والكتاب المقدّس واضح بهذا الخصوص: “لا خلاص إلاّ بيسوع، فما من اسم آخر تحت السماء وهبه الله للناس نقدر أن نخلص” ( اعمال 12:4). إذن يسوع وحده هو المخلص.

لكن بشهادة خلاصنا، يمكننا ان نقود الاخرين إلى يسوع كي يخلصهم. وموسى سيكون دومًا المثال الذي نقتدي به ونتأمل به. موسى هو الدليل على الطريق التي توصل إلى المسيح وإلى الخلاص. 

على كل، يعتبر الانجيل موسى نبيًا بشرّ بالمسيح (لو27:24)، بحياته وبكلامه، فكان رمزًا عن يسوع المخلص الذي ما زال يعمل في كنيسته ويتألم مع أحبائه في سبيل جسده، وفي سبيل المؤمنين.

خلاصات عملية

  1. الله يُعدّ الشخص ثم يستخدمه، ويمتد استخدامه لنا طول الحياة. من الأحداث التي رافقت موسى، يتضح كيف ان الله استخدم كلّ تلك الحداث لإعداده وتدريبه لمدة 80 سنة. مستمدًا من تلك العلاقة القوّة والإيمان، مما دعته إلى تغيير نظرته للحياة، وتغيير أسلوبه في التعامل، فهدأت نفسه وتعلّم الصبر والوداعة وتحلّى بكل المواصفات المطلوبة للقيادة الحكيمة. فأصبح واحدًا من أعظم قادة اسرائيل، فكان الله معه دائمًا في كل أنواع خدمته: سواء في القيادة، أو البنوة والتشريع، أو كتابة الأسفار. هذا يعلمنا أن كلّ ما يجري في حياتنا من أحداث يمكن أن تجعلنا أقوى، وتنمّي فينا صفات تؤهلنا للمستقبل. فرغم الشرّ السائد في عالمنا الساقط فالله قادر ان يحوّل كل شيء في النهاية إلى خيرنا. ولكنه لا يعمل كلّ الأشياء لنكون سعداء بمقاييس العالم، بل لنتمم غرضه. فنتكل على الله وليس على كنوز الحياة ونتطلع إلى أمننا في السماء وليس على الأرض. نتعلم تحمل الآلام والاضطهادات على الأرض دون امتعاض، لأنها تجعلنا أكثر التصاقًا بالله. وذلك ما حدث بالضبط مع موسى.
  • يتمم الله عمله العظيم من خلال أناس ضعفاء: لو تمعنّا في توقيت الدعوة، نلاحظ ان الله لم يدعُ موسى وهو شابًا في مقتبل عمره وأوجّ قوته وحكمته، لكنه دعاه وهو في الثمانين من العمر. وعلى الرغم من اقراره بالعجز مرارًا عديدة، طمأنه الرب بأن يكون إلى جانبه، وأحزر على يده المعجزة تلو الأخرى، وأفهمه بأنه هو الخالق لكل شيء. لكنّ الرب ظلّ متمسكًا به. هذا يثبت لنا من جهة، بان الله لا يدعو الشخص حين يكون قويًا وذات مواهب عظيمة. ومن جهة ثانية ليثبت لنا أنه متى دعانا لعمل معيّن، يجب ألاّ نختبئ وراء عجزنا، بل ننظر إلى ما وراء ذاتنا أي إلى الموارد العظيمة المتاحة لنا. عندئذ نستطيع أن ندع الله يستخدم مساهماتنا الفريدة. وإذا كان العجز يمتد إلى احدى مجالات ضعفنا فيمكننا أن نثق به بأنه سيمدّنا بالكلمات والقوّة والشجاعة حيثما نحتاجها.
  • الإيمان يبدّد الخوف ويساعد على تنفيذ خطط الله: إن إيمان العديد من الأشخاص الذين لعبوا دورًا في الإبقاء على حياة موسى، وإيمانه بالطبع، كام له الأثر الكبير في إنقاذ موسى وتنفيذ خطة الله لحياته ولحياة بني اسرائيل ومن ثم البشرية ككل. (نذكر هنا القابلات العبرانيات المؤمنات بالله اللواتي عصين أمر الفرعون…ونذكر أيضًا عائلة موسى وخاصة والدته). كل ذلك لنقول بأن الخوف يمكن أن يضيّع الفرص التي يعطيها الله لنا، والضغوط البشرية قد تشلّ حركتنا. لذا لا سبيل للتخلص من ذلك الخوف إلا بالإيمان بالله وبمواعيده الصادقة. فلنتكل عليه ليرينا طريق النجاة. وكم من السهل الانخداع بالمنافع الوقتية للثروة والشهرة والمركز والجاه والنجاح والانجازات لتعمى العيون عن المزايا طويلة المدى والدائمة لملكوت الله. وحده الإيمان يساعدنا على أن نتطلع إلى ما وراء العالم لنرى القيم الأبدية لذلك الملكوت.
  • الإصرار والمثابرة على اتمام دعوة الله: نعلم جيدًا ان حياة موسى كانت منذ بدايتها محفوفة بالرفض من قبل فرعون، وبالتعنت احيانًا من قبل شعبه، وبالحيرة أحيانًا أخرى مع الرب، حتى انه شكا من أن الله قد أساء إلى الشعب لأنه لم يخلصهم (خر22:5-23). وفي هذه الحال، كان موسى يغضب ويصلّي، ويدعو الله للتدخّل. ورغم ذلك، لم يكلّ أبدًا، بل جاهد وبقي أمينًا لدعوته حتى النهاية. من هذا نفهم بأنه قد تأتي الصعاب أحيانًا نتيجة طاعتنا لله، وقد يدفعنا ذلك للشعور بتعاسة حياتنا، لكن ذلك لا يعني باننا قد سقطنا من دائرة عناية الله، بل اننا نعاني لأننا نفعل خيرًا في عالم شرير. كل ذلك، يجب أن يكون دافعًا لنا للاستسلام، أو ترك العمل مهما كان. ولا أن ندع متاعبنا وآلامنا تُضعف إيماننا. فالتركيز على وجوب طاعة الله، تجعلنا نرى ما وراء العقبات والعوائق الوقتية. يقول بولس: “لا تتكاسلوا في الاجتهاد، بل كونوا ملتهبين في الروح، عبيدًا خدامًا للرب، فرحين بالرجاء، صابرين في الضيق، مواظبين على الصلاة” (رو11:12-12).
  • الالتقاء والحوار مع الله، أي بركات والشركة مع الله: “كان الله يكلّم موسى وجهًا لوجهكما يكلّم إنسان صاحبه”  (خر11:33) وذلك كان سرّ قوته. مما ينعكس على وجه موسى فيلمع. وكان الشعب يرى بوضوح مجد الله منعكسًا على وجه موسى كلّما التقى به. ومن جراء تلك العلاقة، فاضت نعمة الرب وبركاته على موسى ومتلأ من روحه. فتميّز بأهم مواصفات القائد الروحي المتميّز والراعي الصالح الذي يضع نفسه في تصرّف الخراف. ومن ثمار اللقاء بالله، زادت محبة موسى لشعبه وغيرته عليه، وكبر صبره، ونمى تواضعه. لكن موسى عرف ان الثمار التي قطفها من جراء اللقاء بالرب، ليست متاتية من عظمته الذاتية التي حققت له النجاح، بل عظمة الله الذي آمن به. ونحن أيضًا يمكننا بناء أعمق من تلك العلاقة: بتكرسنا الصادق لله، من خلال الغفران الذي يمنحه لنا على أساس تكفير المسيح عن خطايانا. وإذا لمع وجه موسى، فهذا لا يمنع أن نكون نور العالم: “فليضىء نوركم أمام الناس، ليروا اعمالكم الصالحة، ويُمجدوا أباكم الذي في السماوات” (متّى 14:5-16). 
  • العظمة الشخصية لا تعصم الشخص من الخطأ ومن عواقبه: مع أن موسى الشخص الوحيد الذي تكلّم مع الله وجهًا لوجه، ومع أنه من أعظم أنبياء بني اسرائيل، إلاّ ان هذا الرجل العظيم لم يُسمح له لدخول أرض الموعد، لأنه عصا الله. وكان قد طلب من موسى أن يكلّم الصخرة أمام أعين الشعب، لكن موسى عوض عن أن يكلّم الصخرة، ضربها مرتين بالعصا. فقال الرب لموسى وهارون: “من حيث أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني على مرأى من بني اسرائيل، فإنكما لن تدخُلا هذا الشعب الأرض التي وهبتها لهم” (عدد16:20، 12) فضرب موسى للصخرة، عصى أمر الله الصريح، وأهان الله أمام الشعب…وكأن الله يُقدم لخدام الكنيسة، خاصة من نال خدمة سامية، التحذير، فإن أعمالهم مهما كانت عظيمة وقوية لن تشفع بهم في سقطاتهم، ولا بد أن يخضعوا لتأديب الرب. وقد أدّب الله موسى بصرامة، ومع ذلك يدعوه “صاحبه” (يسوع – يوضاس). فلو شعرنا بلسعة تأديب الربّ، فلنفعل مثلما فعل موسى. نرجع إلى الله بحب وفهم وتواضع ورغبة في ان نصبح افضل، لا أن نبتعد في غضب وحيرة، أو أحساس بالفشل والعجز.
  • العبرة من اسرائيل في البرية: كل ما أخذناه من عبر في حياة موسى وشخصيته ومواقفه، وما تضمنته الأسفار الخمسة، يجب أن تكون مثالاً لنا. لأن ما جرى في العهد القديم، كان رمزًا لما سيكون في العهد الجديد، من إعادة لتلك العلاقة بدم المسيح المسفوك لأجلنا. لكن المسيح هو أعظم من موسى. فكما أخرج موسى بني اسرائيل من مصر وخلّصهم من العبودية، كذلك المسيح، أخرجنا من عبودية الخطيئة وخلّصنا منها. فلنحرص إذًا على طاعة كلمة الله و لا نسمح لقلوبنا أن تقسو، كما كانت قلوب بني اسرائيل حين عصوا الله بدخول ارض الموعد. فالله يريد منّا ان ندخل إلى راحته. وإذا كانت الراحة في عهد موسى هي أرض الموعد، فهي بالنسبة إلينا السلام مع الله الآن، والحياة الأبدية في مجد السماء.
Scroll to Top