الأب يونان عبيد م.ل
الحديث عن مريم يبدأ ولا ينتهي. كلما ذكرناها، نؤمن وندرك أن للمسيح المخلّص ولادتين، وبذات الفعل والدان. بشخصها تمّ الاتصال بين السماء والأرض، وبفضل إيمانها، أصبح وحيدها الوسيط الأوحد بين الله والبشر. لذلك فإن مريم هي الأقرب إلى يسوع، ليس فقط زمانًا ومكانًا، بل طبيعةً وكيانًا، أي بموجب سرَّي الخلق والخلاص. وأفضل الكلام هو الاشادة معها بعظمة الرب، والمشاركة في الطوبى التي تؤديها الأجيال لمريم. فهي الحلقة الوسط في تدبير الله الخلاصي.
- إيمان مريم في البشارة: (لو1/26-28)
” ها أنا أمة الرب فليكن لي حسب قولك”
في نص البشارة، نحن أمام تعليم لاهوتي يقدّمه لنا لوقا في هذه الصفحة الجميلة، بواسطة حوار يورده، بين أم يسوع ورسول السماء.
من بين الألقاب الكثيرة التي تطلق على مريم، هناك لقب محبّب إلى قلبها أطلقته هي على نفسها مرتين، هو لقب ” أمة الرب”، ها أنا أمة للرب، ولأنه نظر إلى تواضع أمته”. لأنها كانت تنظر إلى ذاتها كأمة وخادمة متواضعة لربها، كانت ترى أن كرامتها الحقيقية هي في إيمانها واتضاعها واستسلامها كخادمة الرب.
نعود إلى نهاية الحوار مع الملاك. بعد تردد قصير، أتتها الطمأنة فصدّقت كل ما قاله لها الملاك رغم غرابته، وآمنت أنها ستكون أمًا رغم عذريتها. فاستسلمت كليًا بكل نقاوة الإيمان لعمل كلمة الله. عندها قالت: ها أنا أمة للرب فليكن لي بحسب قولك. مما لا شك فيه، نحن هنا أمام فعل تواضع، لا بل أمام فعل إيمان ومحبة. وانتهى الحوار على قبول مريم برضى وحرية. وتبدو عظمتها بصورة خاصة حين وعت السّر وأدركت كل عمقه، فاستسلمت لمتطلبات عمل الله.
ميزات إيمان مريم:
الإيمان قبل كل شيء، هو فعل حرّ، إذ لا يمكن إرغام أحد على اعتناقه، لأنّه ذو طابع إرادي. و ما الطّاعة في الإيمان إلاّ الخضوع للكلمة المسموعة. من نماذج هذه الطّاعة مريم البتول. ويمكننا القول من دون مبالغة إنّ حياة مريم العذراء بالتّحديد، كانت تحقيقًا أشدّ كمالاً لهذه الطّاعة الإيمانيّة. فطاعة الإيمان إذن، أمر واجب لله الموحي ( رو 26:16؛ رو 5:1؛ 2 كو10: 5-6)، عبرها يفوّض الإنسان أمره بكامل حرّيّته إلى تدبير الله، مخضعًا له كلّيًا عقله وإرادته، راضيًا بقبول كلّ الحقائق التّي يكشفها له، و لكيما يؤمن على هذا المنوال، تراه بحاجة إلى نعمة الله السابقة والدّاعمة، وإلى معرفة الرّوح القدس الدّاخليّة؛ فهذا الرّوح بالذّات لا يفتأ يكمّل الإيمان بمواهبه، من أجل تعميق فهم الوحي شيئًا فشيئًا.
من كلام مريم ” ها أنا أمة للرب…” نجد ذواتنا أمام فعل إيمان، هذه ميزاته:
- فعل تسليم: ها أنا! انها الجهوزية بالذات. مريم تبذل كل كيانها بكل فرح وطاعة وثقة في كلمة الله. قلبها المتواضع المسكين يشعر بالسلام والطمأنينة خاصة وانها بين يدي الإله القدير. وكما افتتح أب الآباء ابراهيم العهد القديم ودشّنه بفعل الإيمان هكذا العذراء مريم في فجر العهد الجديد تردد نفس أصداء الإيمان انما بقوة أكبر. لذلك فهي تدعى بحق: ” أمًا للمؤمنين”. ومن تطمين الملاك لها: “ليس أمر مستحيل لدى الله”، نكتشف روعة إيمان مريم، وقوّة جوابها الرصين العميق: ” ها أنا أمة للرب…”، وكأن كل بركات العهد الجديد، كان بدايتها إيمان القديسة مريم. ورزانة كلماتها توضح مجد النعمة التي تملأها.
- فعل طاعة: بقولها، ها أنا أمة للرب، تقبل مريم أن تدخل في خطة تدبير الله لخلاص كل البشرية. انها تقبل الدور المصيري، والمسؤولية المُلزمة بأن تكون أمًا للمسيح. وإذا قبلت هذا الدور، فلكي يكون خدمة لله، متخطية الانتقادات والشكوك التي ستأتي ربما لاحقًا. كل هذه الأمور أدخلتها في حساباتها، وقبلتها على نفسها، وتمَّ تنفيذها بطاعة كاملة تمجيدًا لله.
- فعل ثقة: ” ليكن لي بحسب قولك”. لقد اقتنعت مريم ووضعت ذاتها بتصرّف الرب بكل صدق وعمق. انها تهب ذاتها للرب بكل ثقة، وهي منعطفة بكل يقين إلى صدق مواعيد الله. مما جعل اليصابات تدرك عظمة هذا الإيمان الكائن في عذراء الناصرة، فهتفت حين رأتها: “طوبى لتلك التي آمنت انه سيتم ما قيل من قبل الرب”(لو45:1). لاسيما وأن زوجها زكريا الكاهن يعاني أمامها من البكم بسبب قلّة إيمانه. لقد كان إيمان مريم إيمانًا ناميًا، وهذا هو الإيمان المسيحي الصحيح: يبدأ بالاستغراب والاستفهام بعد ذلك ينضج بالاستنارة من كلمة الرب وعمل الرّوح القدس، ثم يتحقق عمليًا بفعل الطاعة والتسليم بكل معرفة وثقة. وهكذا يكون إيمان مريم العذراء نموذجًا حيًا لإيمان كل مسيحي يطلب الله. فهي أيضًا في الكنيسة نموذج للإيمان النقي المتجذّر في أرض النعمة وكلمة الله.
من هذه الأفعال الثلاثة نستخلص ما يلي:
- إيمان بلا شك: عكس ساره زوجة ابراهيم، عندما سمعت بشارة موفدَي الله لها بميلاد اسحق ضحكت وقالت: ” أبَعدَ هرمي أعرف اللذة، وسيدي قد شاخ؟” ( تك 12:18).
لكن مريم، وبعد استفسارها وطمأنة الملاك لها: ” الرّوح القدس يحل عليك…”، لم تعد تسأل ثانية. فآمنت وقالت:”ليكن لي حسب قولك”.
- إيمان بلا جدال: لم يكن غريبًا أن عاقرًا تلد، لكن الغريب أن تلد عذراء. لهذا قال الرب على لسان أشعيا:” ها العذراء تحبل وتلد ابنًا” (14:7).
هناك الكثير من أنبياء العهد القديم قد طلبوا من الرب علامات:
موسى النبي حين أرسله الله وأعطاه علامات تحويل العصا إلى حيّة وتحويل يده السليمة إلى برصاء( خر4) جدعون وعلامة جزة الصوف ( قض 6).
حزقيا الملك ورجوع ظل الشمس عشر درجات ( 2 مل 9:20).
زكريا الكاهن وعقوبته بالصمت.
أما العذراء مريم، فلم تطلب لا من الرب ولا من ملاك الرب أيّ علامة.
- إيمان بلا خوف: كثيرون من الذين رأوا الرب أو تكلموا معه، أصابهم الخوف مثال أشعيا النبي (5:6) ومنوح وزوجته ( قض 23:13). أما العذراء فلم تؤمن لأنها خافت، بل آمنت وهي في كل ثباتها وقوتها.
استنتاجات
- في كل مرة نتأمل بسّر البشارة، علينا أن ندرك بأنه يحمل ذكرى اللحظة التي ظهر فيها ملاك الرب على مريم وبشّرها بالتجسد، والإجابة التي أعطته إياها، هذا المسكن المتواضع هو شهادة ملموسة لأكبر حدث في تاريخنا: التجسد، الكلمة صار جسدًا، ومريم، أمة الرب هي الطريق المميز الذي أتى من خلاله الرب ليسكن بيننا. وهبت مريم جسدها، وجعلت نفسها تحت التصرف الكامل لمشيئة الرب، وأصبحت بذلك ” مكانًا” لحضوره، مكانًا فيه ابن الله.
- بقولها، أنا أمة للرب، تتوافق إرادة مريم مع إرادة الابن في محبة مشروع الآب الفريد وبها توحّدت السماء والأرض، الله الخالق وخليقته. أصبح الله إنسانًا، ومريم جعلت من نفسها ” مسكنًا حيًا” للرب، هيكلاً يقيم فيه العلي.
- يخبرنا تجسد ابن الله، كم أن الانسان مهم عند الله، والله مهم عند الانسان. فمن دون الله يغلّب الانسان أنانيته الخاصة على التضامن والمحبة، والأشياء المادية على القيم. يجب العودة إلى الله، لكي يعود الانسان مرة أخرى إنسانًا. فمع الله، وحتى في الأوقات الصعبة، كالأزمة، يظهر أفق رجاء: يخبرنا التجسد بأننا لسنا أبدًا وحدنا، وبأن الله يدخل في بشريتنا ويرافقنا.
- حيث يقيم الله علينا أن نعترف بأننا جميعنا في “المسكن”: حيث يقيم المسيح، إخوته وأخواته لم يعودوا غرباء. مريم التي هي أم المسيح أو أمّنا، تفتح لنا باب مسكنها أو تساعدنا على الدخول في مشيئة ابنها. هكذا، إن الإيمان يعطينا مسكنًا في هذا العالم، يجمعنا كعائلة واحدة ويجعل منّا إخوة وأخوات. أكثر من ذلك، يجعلنا الإيمان نعيش، ونسكن، ولكن يجعلنا أيضًا نمشي على طريق الحياة.
- في البشارة يطلب الله “نعم” الانسان، لقد خلق مخاطبًا حرًا، وهو يطلب أن تجيبه خليقته بحرية كاملة. والله يطلب الموافقة الحرّة لمريم كي يصبح إنسانًا. في حين أن “نعم” مريم هي ثمرة النعمة الالهية. ولكن النعمة لا تلغي الحرّية، بل على العكس هي تخلقها وتدعمها. فالإيمان لا يسلب شيئًا من البشر، بل يسمح له بأن يحقق نفسه كليًا.
- تجسد مريم العذراء ابنة صهيون نواة اسرائيل، الشعب الذي يعرف الله ويؤمن به هو الذي أظهر نفسه للآباء كما أظهر نفسه في مسيرة التاريخ. يكتمل هذا الإيمان بمريم، في ملء الأزمنة. فيها هي “المباركة لأنها آمنت”. تجسدت الكلمة، أظهر الله نفسه للعالم. أصبح إيمان مريم باكورة إيمان الكنيسة، أي شعب العهد الجديد ونموذجًا عنه. ففي مريم ينتهي الانتظار النهائي لمجيء الله، وفي داخلها يأخذ ابن الله الحي مسكنًَا.
- كما أن ابراهيم أب المؤمنين استجاب لدعوة الله للخروج من الأرض التي كان يعيش فيها، ومن ضماناته، يبدأ المسيرة نحو أرض مجهولة، ستُمتلك فقط في الوعد الالهي، كذلك مريم تستسلم بثقة تامة للكلمة التي أعلنها لها رسول الله، وبهذا تصبح نموذجًا وأمًا لكل المؤمنين.
- كيف نقتدي بمريم ونصبح نحن “أم” يسوع؟
بعدما عرض الملاك على مريم مشروعه المكلَّف به من قبل الله، أجابت بكل ثقة ما ترجمته عن الآرامية، بالنَعَم. نشير هنا في هذا الإطار أنه يوجد في القاموس المسيحي كلمات لا نعرف معناها بالتحديد وهي: آمين، ماراناتا، هوشعنا، وهللويا. هذه الكلمات مازالت تعتبر حتى اليوم، بمثابة “ذخائر”. وإذا قالت العذراء “آمين”، فإن يسوع في سفر الرؤيا قال أيضًا: أنا الآمين. لذا علينا ألاّ نكتفي بقول “نعَم”، بل علينا أن ننقلها إلى الآخرين، ليقولوا بدورهم وبفرح نَعَم للربّ. هذه “النَعَم” نقولها في الزواج والعماد، والكهنوت.
بالعودة إلى الاقتداء بمريم في سرّ التجسد نسأل: هل يمكننا أن نصبح مثل مريم أم يسوع؟ بالتأكيد نَعَم. “من هي أمي وأخوتي؟ هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها” ( متى47:12). علمًا أن مريم كانت أم يسوع روحيًا وفيزيولوجيًا. لذا يمكننا أن نتشبّه بها روحيًا. وهكذا كل نفس مؤمنة بإمكانها أن تصبح أم يسوع.
يقول القدّيس بونا – ونتورا: كلّ نفس تؤمن بيسوع وتعمل بكلماته تصبح أمًا ليسوع، وبإمكانها أن تحتفل بالأعياد الخمسة ليسوع وهي: الحبل، الولادة، الختانة، سجود المجوس، والتقدمة إلى الهيكل. نكتفي بالتأمل في العيدَين الأولين:
الحبل: بإمكان النفس المؤمنة أن تحبل بالمسيح، عبر الارتداد والتوبة وتغيير نمط الحياة إلى ما هو أفضل. بالنسبة إلى أغوسطينوس، هذا النوع من الحبل الروحي، هو أهمّ من الحبل الجسدي، ويقوم بالطبع على عمل فحوى كلام الله. في هذه الحال، مريم هي مثال لنا. وكأن يسوع يقول لنا: “كونوا مثل أمي التي تسمع كلماتي وتعمل بها”.
الولادة: إن النفس التي عاشت الارتداد، وحبلت بيسوع روحيًا، بإمكانها أن تلده أيضًا روحيًا. لكن الخوف، هو أن تتوقف الولادة، بسبب الاجهاض الروحي، والذي مردّه إلى أسباب كثيرة. وهذا ما نسميه بالإجهاض الروحي، الموجود عندنا نحن المؤمنين، وبسببه تتوقف الولادة. في هذه الحال يجب أن نرجع إلى ثقل إيمان مريم، ليكون فينا نحن أيضًا وننقله إلى الآخرين. هذه هي العدوى الصحيحة والسليمة التي يجب أن نتمسّك بها.
2. إيمان مريم في الزيارة: (لو 1/39-45)
قالت أليصابات:”طوبى لكِ، يا من آمنتِ، بأن ما جاء من عند الرب سيتم” ( لو1/45).
زيارة مريم لأليصابات جعلت منها أوّل رسولة مؤمنة معلنة للإنجيل، وأوّل خادمة للمحبة، وأوّل مصليّة. لقد حملت المسيح المخلص والروح القدس إلى بيت أليصابات، مستبقة العنصرة الرسولية. وهي بذلك قدوة للكنيسة ولكلّ مؤمن ومؤمنة في نقل بشارة الإنجيل وخدمة المحبة. في هذه الزيارة مريم تعتبر أوّل “بيت قرباني”، حملت يسوع جنينًا الى بيت زكريا.
لما سمعت أليصابات سلام مريم، تحرّك الجنين في بطنها وامتلأت من الروح القدس. بفضل هذا الروح استطاعت أليصابات أن تعرف منذ اللحظة الأولى، أن مريم حبلت، وأنها ستصبح أمّ المسيح، وأنها تلقّت رسالة من السماء وتجاوبت معها في الإيمان، وأن ابن مريم هو ذلك الذي سيكون يوحنا المعمدان سابقه.
وبعدما مدحت أليصابات مريم وقالت لها:”مباركة أنتِ…”، وأنشدت مجيئها كونها “أم الرب”، نراها تطوّب مريم العذراء، وتتغنى بإيمانها، لأنها آمنت بكلمة الله التي ستتم في أوانها: فأمّ المسيح تفوّقت على الجميع في تعلّقها بكلمة الله. وهكذا يصبح جزءًا لا يتجزّأ من كرامة مريم. وعلى أساس هذا الإيمان ستصبح العذراء أم الرب كما وعدها الملاك في مشهد البشارة. إشارة إلى أن زكريا لم يؤمن بكلام الملاك (1/20). لكن مريم آمنت إيمان ابراهيم أب المؤمنين.
بالعودة إلى تطويبة أليصابات، نرى أن أمورًا كثيرة تمّت بمريم، وكان لها الاستحقاق الكبير أو الفضل الكبير في أن تؤمن. إن أول ما آمنت به، هو كلام الله لها بواسطة الملاك في البشارة. آمنت بأنها ستصبح أمًا دون أن تفقد عذريتها. هي المتواضعة جدًا، آمنت بأنها ستصبح أم الله، وبأن ثمرة بطنها سيكون حقيقة “ابن العلي”. لقد “انخرطت مريم” بثقة تامة، بكل ما أُعلن لها من مخطط سيقلب الواقع الطبيعي: أم عذراء، أم خليقة، لخالقها الأزلي؟. آمنت مريم عندما كلّمها الملاك، وتابعت في إيمانها عندما تركها وحيدة، فوجدت نفسها في وضع بشري لامرأة عادية، تستعد لأن تصبح أمًا.
لقد عاشت مريم مثلنا بإيمانها البسيط مستندة على كلام الله. كل الأسرار الإلهية التي تمّت وستتم فيها وحولها ستبقى مغلفة تحت ستر الإيمان، على مثال الولادة الفقيرة ليسوع وهجرته إلى مصر، خاصة وأنه ملك السماء والأرض.
لكن مريم لم تشك يومًا، بأن هذا الطفل الضعيف والعاجز والمحتاج إلى اهتمامات الأمومة، هو ابن الله. آمنت مريم وظلّت تؤمن بالرغم من عدم فهمها لكل الأمور:”لم يفهما ما قاله لهما”(لو50:2). ومع ذلك كانت تدرك أن يسوع هو إلهها، وهذا ما كان يكفيها.
نستنتج مما تقدّم، أن مريم، هي حقًا “أم الإيمان”، لأنها أصلحت بإيمانها الشرّ الذي سبّبته حواء بعدم إيمانها. فالمرأة الأولى، بتفضيلها كلام الحية على كلام الله، أدخلت الموت إلى العالم. لكن المرأة الجديدة، استردّت لنا الحياة بإيمانها في كلام الملاك، بأنها ستصبح أم الله دون أن تتخلى عن كونها عذراء. وهكذا ما هدمته حواء بعدم إيمانها، أصلحته مريم بإيمانها واستسلامها لإرادة الرب.
تعليقًا على كلام أليصابات، يقول القديس أغوسطينوس:
“كانت مريم أكثر سعادة، كونها قبلت يسوع بروح الإيمان، من أن تقبله في أحشائها بالتجسد”. لكن العالِم اللاهوتي (سواريز) Suarez، ذهب أبعد من ذلك، فقال:”كان إيمان مريم متفوقًا على كل البشر والملائكة. كانت ترى ابنها في الاسطبل في بيت لحم، وكانت تؤمن أنه خالق العالم. كانت تراه هاربًا من وجه هيرودوس، وكانت تؤمن بأنه ملك الملوك. كانت تراه مولودًا، لكنها كانت تؤمن بأنه أزلي. كانت تنظر إليه فقيرًا ينقصه الكثير من الأمور الضرورية، لكنها كانت تؤمن بأنه السيّد الأزلي على كل الأشياء. كانت تراه نائمًا على القش، لكنها كانت تؤمن بأنه القادر على كل شيء … كانت تراه ينازع على الصليب، لكنها ظلّت ثابتة بإيمانها، بأنه الإله”.
أما القديس ألبرتوس الكبير فكان يقول: “في الوقت الذي فيه التلاميذ شكّوا، ظلّت مريم ثابتة بإيمانها”. بهذا الإيمان المتسامي استحقت مريم العذراء أن تكون نورًا للمؤمنين ومصباحًا ومضيئًا لكل المسيحيين. فمريم مباركة فوق كلّ خليقة بسبب ابنها الذي هو مستودع البركة اٌلإلهية الأوّل للذين يقبلونه بإيمان.
فلنصل إلى العذراء مريم، كي نحصل، بفضل استحقاقات إيمانها على الإيمان الحيّ، ولنقل لها: ” يا سيّدتنا زيديننا إيمانًا” ( لو 5:17).
3.إيمان مريم وطفولة يسوع ( لو 22:2-24) ( 41:2- 42)
أعني بطفولة يسوع مرحلتين: الأولى يوم تقدمته إلى الهيكل بعمر الأربعين يومًا، والثانية وجوده في الهيكل بعمر الاثنتي عشرة سنة.
بحسب إنجيل لوقا، صعد يوسف ومريم بالابن يسوع إلى أورشليم، إلى الهيكل، ليقدماه ويكرّساه للرب بحسب شريعة موسى: “إن كل بكر ذكر يُنذر للرب ” ( لو22:2-24). يكتسب عمل العائلة المقدسة هذا معنىً عميقًا، إذا قرأناه في ضوء العلم الانجيلي ليسوع ذي الاثني عشر عامًا، والذي بعد ثلاثة أيام من التفتيش والبحث، يجدانه في الهيكل يناقش مع المعلمين. وعلى كلمات مريم الممتلئة بالقلق:”يا بني لِمَ صنعت بنا ذلك؟ فأنا وأبوك نبحث عنك متلهفين”، يأتي جواب يسوع الغامض: “ولِمَ بحثتما عني؟ ألم تعلما أنه يجب عليّ أن أكون عند أبي؟” ( لو 28:2-49)، أي في ملكية الآب في بيت الآب، كما هو الحال بالنسبة إلى ابن. فكان يجب على مريم أن تجدّد الإيمان العميق الذي به قالت:”نعم” في البشارة، ويجب أن تقبل أن الأولوية هي للآب الحقيقي والفعلي ليسوع. ويجب أن تعرف أيضًا كيف تترك الابن الذي ولدته حرًا ليتمم رسالته. ف “نعم” مريم لمشيئة الله، في طاعة الإيمان، يُقال مجددًا طيلة حياتها، حتى اللحظة الأكثر صعوبة، لحظة الصليب.
أمام كل هذا يمكننا أن نسأل أنفسنا: كيف استطاعت مريم أن تعيش بجوار الابن، طيلة هذه المسيرة، بإيمان راسخ بهذا الشكل، حتى في لحظات الظلمة، بدون أن تفقد ثقتها الكاملة في عمل الله؟ لقد اتخذت مريم موقفًا أساسيًا أمام كل ما يأتي في حياتها. عمليًا، علينا أن ندرك عبر مسيرة إيماننا أننا نقابل أوقات نور، ونقابل مراحل يبدو فيها الله غائبًا، حيث يثقل صمته على قلوبنا وتتعارض إرادته مع إرادتنا. لكن بقدر ما ننفتح على الله، ونقبل عطية الايمان، ونضع فيه كل ثقتنا على مثال مريم، بقدر ما يجعلنا هو أكثر قدرة، بحضوره، على العيش بالسلام وبالثقة في أمانته وفي محبته في كل مواقف الحياة.
إنّ انفتاح النفس على الله وعلى عمله في الإيمان يشمل أيضًا عنصر الظلمة. فالعلاقة بين الكائن البشري والله، لا تلغي المسافة بين الخالق والخليقة، ولا تلغي ما يؤكّده الرسول بولس أمام أعماق حكمة الله: “ما أبعد غور غنى الله وحكمته وعلمه! وما أعسر إدراك أحكامه وتبيّن طرقه” ( روم 23:11).
إنما الذي، على مثال مريم، ينفتح بشكل كامل على الله، يصل لقبول الإرادة الإلهية، حتى إذا كانت غامضة، وحتى إذا كانت غالبًا لا تتطابق مع الإرادة الشخصية، : “كالسيف الذي ينفذ في النفس”، كما قال سمعان الشيخ ( لو35:2). هذا يعني أن مريم تدخل في حوار حميم مع كلمة الله التي بُشّرت بها، وتسمح لها بالدخول إلى عقلها وإلى قلبها لكي تفهم ما يريد الرب منها، أي معنى هذه البشرى.
هنا أيضًا موقف باطني لمريم نجده، بعد سجود الرعاة للطفل يسوع، وهو “أنها كانت تحفظ جميع هذه الأمور، وتتأملها في قلبها” ( لو19:2). على مثال مريم، جميعنا مدعوون لعيش هذا التواضع والطاعة الإيمانية. لأن مجد الله لا يظهر عبر انتصار ملك، ولا يشرق في مدينة مشهورة، أو في بذخ قصر، لكنه يتخذ مسكنًا في أحشاء عذراء، ويعلن عن نفسه في فقر طفل صغير. فقدرة الله، حتى في حياتنا تعمل غالبًا بقوة الحقيقة والمحبة الصامتة. فالإيمان يقول لنا، إذن، إن ضعف ذاك الطفل سينتصر في النهاية على ضجيج قوى العالم وضجها.
- إيمان مريم في عرس قانا الجليل ( يو1:2-11)
من بين الانجيليين الأربعة، وحده يوحنا يورد حضور مريم في عرس قانا الجليل، وعند صليب الجلجلة. هذان الحدثان يجعلان مريم تدرك رسالتها الجديدة بالنسبة إلى دعوتها الأولى لأن تكون بفضل إيمانها أم الله بالجسد، وإلى دعوتها الثانية لأن تكون أم المؤمنين. إشارة إلى أن حادثة قانا الجليل تقع في بداية رسالة المسيح، وتأتي حادثة الصليب في نهاية حياته الرسولية.
في هذه الحادثة ينقل لنا يوحنا التدخل الأول لمريم في الحياة يسوع العامة، ويدلنا على مساهمتها في رسالة ابنها. منذ بداية النص، يشير الانجيلي إلى أن “أم يسوع كانت هناك” (1:2)، ويضيف “بأن يسوع وتلاميذه دعوا أيضًا إلى العرس” (2:2). بعد قراءتنا لهاتين الآيتين، يبدو، بحسب يوحنا أن مريم هي التي “تُدخِل” يسوع إلى المجموعة الموجودة.
إن حضور مريم في العرس أسهم إلى حدّ كبير في ابراز وجه المسيح الخلاصي. لكنّ دورها برز بقوة عندما “نفذت الخمر”. فظهرت وكأنها الخادمة، الحاضرة دومًا، المصغية دومًا، المنتبهة دومًا. خدمت أهل العرس ماديًا ومعنويًا، ووجهت الخدم، وكأنها واحدة منهم وبينهم. سبقت الجميع في الخدمة. بعدها، طلبت مريم من يسوع آية لتفسح له المجال أن يتجلى ويظهر للعيان. فقالت له: “ليس عندهم خمر”(3:2)، وكأنها أحسَّت بالشفقة تجاه العروسين.
إن طلب مريم يكشف عن شجاعة إيمانها، خاصة وأن يسوع، حتى ذلك الحين، لم يجترح أية أعجوبة، لا في الناصرة ولا في حياته العامة. في قانا، أظهرت مريم عن جهوزيتها الكاملة تجاه الله، وهذا ما رأيناه في البشارة عندما أسهمت بفضل إيمانها وطاعتها، بتحقيق معجزة الحبل البتولي. وها هو ابنها في قانا يجترح أول معجزة. بهذه الطريقة، نرى أن مريم سبقت التلاميذ بإيمانها، أما هم فآمنوا في نهاية الأعجوبة بعدما أظهر معلمهم مجده.
أما جواب يسوع على كلمات أمه: “ما لي ولك يا امرأة لم تأتِ ساعتي بعد” ( 4:2)، فيدّل على رفض خارجي، واضعًا إلى حد ما على المحك، إيمان الأم. مما لا شك فيه، أن عبارة يسوع تدل على تباعد في وجهات النظر. فيسوع لا ينظر فقط إلى حاجة بسيطة في عرس، بل إلى ساعته، ساعة الآلام والموت والقيامة. فيسوع اقتادها نحو الخلق الجديد. وإن كان يسوع أجاب أمه بما أجاب، فيدل على أن هذه المعجزة التي تظهر مجده، تتم بالنظر إلى إرادة أبيه.
على كل، المسافة التي وضعها يسوع تجاه أمه، لا تدحض الاحترام والاعتبار. لأن استعمال كلمة “امرأة”، نراها مكرّرة في حوارات يسوع مع المرأة الكنعانية ( متى 28:15)، ومع السامرية ( يو21:4)، ومع المرأة الزانية ( 10:8)، ومريم المجدلية ( يو 13:20). وبالأخص أن يسوع، سيردّد على الصليب هذه العبارة ويقول: “يا امرأة هذا ابنك” ( 26:19). في حواره مع أمه يتناسى يسوع صفته كابن ويجعل نفسه على مستوى آخر. فلم يعد همّه رباطات الدم من أجل الحصول على المعجزة، بل التوافق مع مخطط الله والانتباه إلى ساعته كما قرّرها الآب.
بعد جواب يسوع نرى مريم تمتنع بلطف عن تكرار طلبها، وتلتفت إلى الخدم وتقول لهم: “افعلوا ما يأمركم به” ( 5:2). لم تجد مريم في جواب ابنها رفضًا، بل إن هذا الجواب شجّعها في انتظارها، فتحدثت إلى الخدم. وهكذا تكون مريم قد صعدت إلى حيث يدعوها يسوع، أي إلى مستوى الإيمان والتوافق مع مخطط الله. سلّمت مريم نفسها إلى ابنها تسليمًا فوريًا بإيمان كامل، وأوصت الخدم بالثقة والخضوع للمسيح، مهما كان الشيء الذي يأمرهم به. وهكذا تكون مريم، بكلامها الواثق، تدعو المؤمنين إلى ثقة دون تردّد. على كلًّ، إنّ ما جرى مع مريم في عرس قانا، جرى أيضًا مع المرأة الكنعانية ( متى 24:15-26)، حيث نلحظ أنّ الرفض الخارجي ليسوع قوّى إيمان المرأة.
بعد طلبها وجواب ابنها ينتهي دور مريم في قانا الجليل، لتلتقي به على الصليب. العرس الأول رمز وبداية والعرس الثاني حقيقة ونهاية.
إن كلمات يسوع “لم تأتِ ساعتي بعد”، و”استقوا الآن ونادوا رئيس الوليمة”، تكشف لنا عظمة إيمان مريم وقوّة صلاتها. كذلك فإن حادثة عرس قانا، تدعونا لنكون شجعانًا في الإيمان، ولأن نكتشف في وجودنا حقيقة الكلمات الانجيلية: “إسألوا تُعطوا” ( متى7:7؛ لو9).
خلاصة: في عرس قانا يمكننا القول بأن إيمان مريم قد تفجّر. وهذا يعني أنه بإيمانها تعرف أنّ ابنها يستجيب طلبها، وبإيمانها تعرف أنّ هذه الأعجوبة تدشّن حياة ابنها العلنية.
- إيمان مريم على الصليب (يو25:19-27)
يقول يوحنا في إنجيله: “وهناك عند صليب يسوع، وقفت أمه”. وإذا كانت مريم على الجلجلة فهذا يعني أنها كانت في أورشليم، وبذات الفعل رأت وسمعت كل شيء من لحظة توقيف ابنها أمام بيلاطس حتى الموت على الصليب. ولكنها بالوقت نفسه كانت مؤمنة بأن ابنها، سيجلس على عرش داود. وهنا تظهر المقارنة بين ابراهيم أبينا في الإيمان ومريم أمّنا في الإيمان.
إبراهيم بفضل إيمانه صار بركة لكل الشعب. كذلك مريم بسبب إيمانها صارت سبب خلاص لشعبها. إبراهيم وُعد بولد وهو في شيخوخته، فآمن. كذلك مريم وُعِدَت بابن وهي عذراء وآمنت. وكما طلب الله من ابراهيم أن يقدّم ابنه، كذلك طُلِبَ من مريم أن تقدّم أبنها ذبيحة على الصليب. ومثلما صعد إبراهم بابنه على جبل موريّا، كذلك صعدت مريم مع ابنها إلى جبل الجلجلة. مع إبراهيم، أوقف الرب أمره في اللحظة الأخيرة، لكن مع مريم ذهب إلى النهاية، أي الموت وما بعده. إبراهيم آمن حيث لم يعد أي سبب للإيمان. أما مريم فقد آمنت بالذي قاله بولس عن ابراهيم: “آمن وترجى ضد كل رجاء”.
مريم على الصليب، لم تنتظر أيّ تدخّل من الله مثل التدخّل مع إبراهيم، إنما بقيت صامتة، وبذلك فهي أم إيماننا، وأم الكنيسة. والله لم يخذلها. فأقام ابنها وهلّلت الكنيسة: إفرحي يا مليكة السماء…
مريم هي أمّنا بالإيمان في السرّ الفصحي. وبذات الفعل إنها مثال لنا وللكنيسة. إذن مريم هي أم ومثال. إنها عطيّة ومثال يجب أن نقتدي بها. في السرّ الفصحي إنها مثال للإيمان الذي يُعبّر عنه الرجاء (أم الرجاء). يقول بيغي: إنّ الإيمان الذي أطلبه من الله، هو الرجاء. الرجاء هو نوعية الإيمان. وعلينا أن نجعل من كنائسنا ورعايانا أمكنة للرجاء وللإيمان. وما يطلب الله منّا هو: أن نؤمن به، ونرجوه، ونحبه، على مثال مريم.
مريم بإيمانها حاضرة على الصليب، بينما الرسل غائبون ما عدا يوحنا. ولكنّ حضورها هو حضور الألم، حضور الصمت. هي واقفة تنظر إلى ابنها، كما هو ينظر إليها، وكأن لغة العيون هي خير من لغة اللسان. إنّ مسار مريم الإيماني بدأ قبل أمومتها الإلهية بكثير، وتطوّر وتعمّق طوال حياتها على الأرض، بما فيها وقفتها الإيمانية على الصليب. من هذه الوقفة نستخلص ما يلي:
بإيمانها تعرف أنّ ابنها سينجز رسالته حتى الموت على الصليب.
بإيمانها تعرف أنّ يسوع يحبنا ويموت لأجلنا مهما كانت متاعبنا ومصاعبنا.
بإيمانها تشترك بحب يسوع الذي يكنَّه لكل البشر، وترى فيهم أنهم المفتدون بابنها.
بإيمانها تحب مريم ومن خلال ابنها الوحيد، كل المعمّدين كإخوة له وأبناءً لله.
بإيمانها تقدّم لنا مريم العطف الأمومي الذي أعطته للتلميذ يوحنا الذي أخذها إلى بيته بقلب بنوي. فهو لنا قدوة كي نستقبل مريم في بيوتنا وقلوبنا.
بإيمانها عرفت مريم أنّ عليها أن تنضمّ إلى الآلام التي يعاني منها ابنها.
بإيمانها أدركت أنّ كل الإهانات تؤول إلى خلاص البشرية.
بما أن مريم هي أم المسيح، فهي بذات الفعل أمّ لكل البشر بالروح والحق.
والنتيجة أنها بنظرتها الأليمة إلى ابنها، لم تيأس ولم تتنكر لثبات إيمانها ولم تعترض على إتمام إرادة الآب السماوي. وهكذا تبقى “أم يسوع” حاضرة بين التلاميذ بعد موته وارتفاعه، كما يذكرها كتاب أعمال الرسل “مواظبة معهم على الصلاة بقلب واحد في انتظار نزول الروح القدس”. وهكذا تبقى، ولا تزال حاضرة في الكنيسة. إنها “هناك”، حيث تجتمع للصلاة، وهي “هناك ” في قلب كل مؤمن، وهي في انتظار أن نلقاها “هناك” في ملكوت السماوات، لنكون حيث ابنها موجود.
بكلمة، الصليب هو اللحظة القمة لإيمان مريم. بهذا الإيمان، مريم متّحدة بكليتها بابنها في تجرّده، حيث نلحظ عندها امّحاء الإيمان الأكثر عمقًا في تاريخ البشرية.
- إيمان مريم بالقيامة.
لا ذكر في الكتاب المقدّس لترائي يسوع لأمه بعد قيامته من بين الأموات.
إلاّ أن بعض شرّاح الكتاب المقدّس يشيرون إلى إيمان العذراء المسبق بالقيامة في قانا وعلى الصليب:
في قانا: عندما اجترح يسوع أعجوبته الأولى، “أظهر مجده وآمن به تلاميذه”…وهذا يفترض أن الإنجيلي لم يدمج اسمها مع التلاميذ، لأنها كانت مؤمنة به منذ يوم البشارة.
على الصليب: يقول الإنجيلي: “هناك عند صليب يسوع، وقفت أمه…”. يعتبر الشرّاح أنّ هذه “الوقفة” تدل على الإيمان بالقيامة، إذ لا يُعقل أن تكون أم واقفة وابنها ميّت أمامها. ومثلما كانت مريم شاهدة على سريّ التجسّد والفداء، فهي ستكون شاهدة على القيامة وعلى حلول الروح القدس في العنصرة.
يقول مار افرام السرياني: “لا بدّ لتلك التي حملته بعد بشارة الملاك أن تكون الأولى في معاينة المسيح القائم”.
استنتاجات
- إيمان مريم: قدوة
إن مريم بإيمانها، لم تطلب علامة عن صدق قول الملاك جبرائيل، عندما أخبرها بالولادة العجيبة. بل أتتها العلامة من أنّ نسيبتها العاقر “ستلد”. وعلى الرغم من كل الأحداث المؤلمة التي عاشتها مريم، ظلّت ثابتة في إيمانها، وأثبتت أنها حفظت الكلمة وأطاعت الوصية وأكملت مشيئة الله بدقة ومواظبة حتى النهاية. إذًا مريم في إيمانها أعطتنا المثل والقدوة الصالحة.
- إيمان مريم: ثبات
كان إيمان مريم بلا فلسفة ولا طلب علامات أو آيات. فاقت بإيمانها كل رجال ونساء عصرها. آمنت برسالة السماء، ولم تقل إنها ما زالت صغيرة حتى تتبع الله كما فعل إرميا الذي قال: “هآنذا لا أعرف أن أتكلم لأني صبي”، إنما سلّمت أمرها وقالت: “ها أنذا أمة للرب”. ولهذا استحقت أولى تطويبات العهد الجديد على لسان القديسة إليصابات.
- إيمان مريم: جرأة
سارت مريم أمامنا على درب الإيمان. إيمانها الجريء جعلها، عند بشارة الملاك، تصدّق ما ليس ممكنًا على المستوى البشري. وفي قانا دفعت يسوع إلى اجتراح أعجوبته الأولى، وإظهار قدرته. بهذا تدعو مريم كل المسيحيين لأن يعيشوا إيمانهم بجرأة والتزام متواصلين. نضيف إلى إيمان مريم، انقيادها إلى المشيئة الإلهية. إيمانها بكلمة الله، مكّنها من استقباله بكليّته في حياتها وبإظهار استعدادها لقبول المخطط الإلهي. فهي قبلت كل ما طلبه العلي منها.
إنّ حضور مريم العذراء في الكنيسة يشجّع المسيحيين على الإصغاء باستمرار إلى كلمة الرب، ليستقوا منها تعاليم الحب في حياتهم اليومية، ويسهموا في تحقيق تلك الكلمة. تعلّم مريم جماعة المؤمنين أيضًا، أن ينظروا إلى المستقبل مسلّمين أمرهم إلى الله.
خلاصة
بإيمانها أصبحت مريم الشريكة في سرّ الخلاص. حقّقت الدعوة الخلاصية وأصبحت أم الحياة وأم الخلاص وأم المخلّص وأم المخلّصين. فكما ولدت المخلّص بقوة الروح الإلهي، نولد نحن أيضًا للروح عينه لحياة الله في حضن الكنيسة. ومن ثمّ فحياتنا الروحية حياة مريميّة وعهدنا المسيحي عهد مريمي. ذلك تعبيرًا في الزمن والأبدية عن اتّحاد الأم العذراء بابنها، وعن اتحاد الأبناء جميعًا في الابن، وعن اتّحادهم جميعًا في أمّه وأمّهم العذراء.
فلنطلب مساعدة مريم الأمة المؤمنة والأم الزمنية، كي نقتني بدورنا:
إيمانا نقيًا، يجعلنا صامدين وممانعين تجاه الأمور المغرية.
إيمانًا حيًا، يكون دافعه الوحيد المحبة.
إيمانًا ثابتًا، تعجز الرياح والعواصف على زعزعته.
إيمانًا فاعلاً، يُدخلنا في كل أسرار المسيح.
إيمانًا جريئًا، يهدف إلى تمجيد الله وخلاص النفوس.
إيمانًا نيّرًا، يلقي ضوأه في القلوب والعقول المظلمة.
وأخيرًا نقول بالصوت الواحد: يا مريم أم إيماننا، تضرعي لأجلنا.
صلاة
أبانا السماوي محبّ البشر، يا من أجريت العظائم بأمتك مريم بنت داود، وباركتها بين النساء، باختيارها أمّا عذراء لابنك المتأنّس، وشريكة سرّه العجيب. أسبغ علينا اللهمّ شفاعتها، فنؤدي معها سجودنا لثالوثك المجيد، الآن وإلى الأبد. آمين