Almanara Magazine

إهداء

بمناسبة انعقاد المجمع الأنطاكي المقدس في جامعة البلمند

الى بطاركة كنيسة أنطاكيا وعلى رأسهم

نيافة الكردينال مار بشاره بطرس الراعي الكلّي الطوبى

بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق

“مجد لبنان أعطي له”

والله لا يتخلّى عن محبّيه فاختار لهم بطريركا تمّت فيه نبوءة اشعيا: “إن الجبال تزول والتلال تتزعزع، أمّا … فالله أمين في مواعيده: “فاعلم أنّ الربّ إلهك هوالله الإله الأمين، يحفظ العهد والرحمة لمحبّيه وحافظي وصاياه إلى ألف جيل” (تث 7: 9)؛ بطريركاً “عصاه من خشب أمّا قلبه من ذهب”

                                                                            د.نبيل الخوري

أنطاكية

إن المدرسة الشهيرة التي كان مركزها مدينة انطاكية، عاصمة سوريا، تألّقت غاية التألّق خلال القرنين الثالث والرابع، وكان لها التأثير الكبير في الحركة اللاهوتية. ومع ذلك فإن تسميتها بال”مدرسة” تنطوي على قدر كبير من عدم الدقة. ذلك أن انطاكية لم تكن أبداً مركزاً للتعليم النظامي المتتابع، ولا مكاناً تعرض فيه العقائد المسيحية عرضاً علمياً؛ فهي لم تكن تشبه في شيء منافستها “مدرسة الاسكندرية” . بل إنّ عاصمة سوريا اقتصرت على كونها مجمعاً للمتضلّعين في علوم الدين. لذا ينبغي الكلام على المدرسة الانطاكية من وجهة نظر أخرى، أي يجب أن نعني بهذا القول مجموعة من المذاهب والآراء التي نشأت في هذه المدينة وتناقلها العلماء خلفاً عن سلف على مرّ الازمنة. وتقتضي الدقّة أن نميّز في المدرسة الانطاكيّة أمرين: المنهج واللاهوت.

     فعلى صعيد المنهج حظيت المدرسة الانطاكية بالكثير من الأتباع، إذ كثر عدد الكتّاب الكنسيين الذين استوحوا ذهنيتها الصارمة وطبّقوا منهجها في كتاباتهم؛ لقد تميّز هؤلاء الكتّاب، على الأخص، باهتمامهم بتفسير الأسفار المقدسة، وكان الطابع الذي ميّزهم عن اتجاهات التأويل الرمزي التي عرفت بها مدرسة الاسكندرية، هو التمسك بالمعنى الحرفي الذي جعلوا منه موضوعهم الرئيسي. لذا تراهم  يتدارسون الوحي الالهي بالاعتماد على التاريخ وعلى القواعد اللغوية، جاهدين في جعل هذا النوع من الدراسة أمراً عملياً بكل معنى الكلمة. هاك ما قاله المؤرخ سقراط في وصفه المدرسة الانطاكية: “تُعنى بالمعنى البسيط والحرفي للأسفار الالهية، متجنّبة المداليل الرمزية التي تنطوي عليها” (H.E. VI,3,t LXVII)         

     يمكننا أن نميّز في تاريخ مدرسة التفسير الانطاكية مراحل ثلاث:

  1. مرحلة التشكّل، وتمتدّ من عهد القديس لوقيانوس حتى ديودوروس الترسوسي (290 – 370)
  2. مرحلة النضوج والألق، وتمتدّ من ديودوروس الترسوسي حتى نسطوريوس (370 – 430)
  3. مرحلة الانحطاط، وتمتدّ من بداية الهرطقة النسطورية في سنة 430 حتى زوالها التام.
  1. مرحلة تشكّل مدرسة التفسير الأنطاكية (290 – 370)

ترقى أصول هذه المرحلة الى الكاهن دوروثيوس والى الكاهن لوقيانوس. كان دوروثيوس ضليعاً في علم الكتاب المقدس، بشهادة يوزيبيوس الذي سمعه يفسّر الأسفار المقدسة؛ وإضافة الى ذلك يذكر يوزبيوس أن دوروثيوس درس اللغة العبرية باتقان، رغبة منه في فهم الكلام الالهي فهماً أفضل (H.E.VII, 632, t XX, col. 721). أما الكاهن لوقيانوس الذي مهر ايمانه بدمه، شأنه شأن دوروثيوس ، إذ لقي عذاب الاستشهاد في نيقوميديا سنة 311، فهو أيضاً معروف بعلمه في مضمار الأسفار المقدسة. وهو من مواليد سموزات، وقد تنشأ في إديسا حيث تتلمذ على يد استاذ ماهر في علم التأويل، اسمه ماكيروس؛ كما أنه تردّد أيضاً على مدرسة قيصرية فلسطين التي أسسها أوريجينوس. ربّما يكون لوقيانوس قد تردّد، بعد مجيئه إلى انطاكية، على الدروس التي كان يعطيها مالكيون الذي أسس مدرسة في هذه المدينة؛ بل يعتبره البعض المؤسّس الحقيقي للمدرسة الانطاكية. مهما كان من شأن هذه المسألة، فإنّ لوقيانوس، ولو لم يكن هو المؤسس، فهو على الأقلّ المعلّم الذي نشأ على يديه العدد الأكبر من التلاميذ. ولقد برهن الكثيرون منهم وقتئذ، كما فعل تيودوروس المبسوستي فيما بعد، على ان التأويل الحرفي من شأنه ان يتهافت متحوّلاً الى مذهب عقلاني، ما لم يبقَ مصوناً ضمن حدود الاتزان. علماً أن القديس لوقيانوس تفادى الوقوع في مبالغات التأويل الحرفي. واشتهر في سائر المشرق بفضل الطبعة النقديّة التي خصّ بها السبعينية؛ هذا العمل الذي أدّى خدمات جلّى للكنيسة اليونانية. والجدير بالذكر أن ذهنيّته ومنهجه استمرّا بعده وترسّخا جيّداً في عاصمة سوريا (S.Jerome, De vir. Illust. Lxxvii, t xxxii,685  ).

  • مرحلة النضوج والالق لمدرسة التفسير الانطاكية (370 – 430)

تابع فلافيانوس الكاهن والأسقف (381 – 404) عمل القديس لوقيانوس اذ راح يهتمّ بالتربية والتعليم؛ إلاّ أنّ الفعل والجدوى يعودان، بالأخصّ، إلى صديقه ديوديروس المعروف باسم ديوديروس الترسوسي (+ 391)، فقد تبوّأ سدّة الأسقفية في هذه المدينة حوالي 379 ، وهو الذي رفع مجد المدرسة الانطاكية الى الأوج. معه بدأت المرحلة التاريخية الثانية من عمر تلك المدرسة. وديودوروس مثله مثل فلافيانوس، انطاكي المولد؛ ولقد تعلّم الفلسفة في أثينا. واعتنق الحياة الرهبانية وأحدث في المدرسة الانطاكية تقليداً حقيقياً في التعليم يتمثّل في سلسلة من الدروس النظامية، تدور حول الكتاب المقدّس. لذا أصبحت أديار انطاكية وربوعها جميعاً مراكز دراسية. ويفيد المؤرخ سقراط (H.E. vi, 3, lxvii,665 ) أن يوحنا إلى فم الذهب وثيودوروس المبسوستي وماكسيموس الذي أصبح فيما بعد أسقف سلوقيا، كانوا يتردّدون على مدارس الأديار في عاصمة سوريا القديمة. بل إن القديس يوحنا فم الذهب نفسه يخبرنا بأن الأديار كانت تستخدم، وقتئذٍ ، بمثابة مدارس للناشئة المسيحية.

     من حيث المباديء والمنهج، اعتمد ديودوروس الترسوسي طريقة القديس لوقيانوس. ويؤخذ عليه اتجاهاته العقلانية. من تلامذته القديس يوحنا فم الذهب وثيودوروس المبسوستي (+ 428)؛ والجدير بالذكر أن نسطوريوس هو أحد تلامذة ثيودوروس. ربّما يكون القديس يوحنا الفم الذهب أكبر المفسّرين المسيحيين. ولد هذا القديس سنة 345 في أنطاكية. وبصفته مفسّراً للكتب المقدّسة، عمل تبع ذهنيّة المدرسة الانطاكية، مقتفياً أثر معلّمه ديودوروس من حيث التأويل التاريخي – اللغوي. كما أن ثيودوروس المبسوستي اشتهر ايضاً ببلاغته وبمعرفته في مضمار الأسفار المقدسة التي كان يفسّرها دائماً تفسيراً حرفياً، رغم مبالغته في هذا المجال، الأمر الذي مهّد الطريق للمذهب النسطوري.

  • مرحلة انحطاط مدرسة التفسير الانطاكية بدءاً من 430

بفعل نسطوريوس، تلميذ ثيودوروس المبسوستي، سقطت المدرسة الانطاكية نهائياً في الهرطقة . فما كان من مجمع أفسس إلاّ أن كفّر نسطوريوس (431) لقوله بوجود شخصين في يسوع المسيح. تبنّى تلاميذ نسطوريوس مبادىء التأويل التي قال بها؛ فاضطروا الى الفرار من الامبراطورية ولجؤوا الى مملكة فارس حيث أصبحوا أسياد مدرسة اديسّا في بلاد ما بين النهرين. وعندما دمّرت هذه المدرسة نتيجة الكثير من المضاعفات، على يد الامبراطور زينون في سنة 489، عمد الاساتذة الهراطقة الى نقلها الى نصيبين حيث ترسّخت قبل بداية العصر الوسيط بمدة طويلة. وفي إديسا ونصيبين كان المؤلفون يكتبون باللغة السريانية. فقد ترجم ايباسيوس وقوماسيوس وبروبيوس، في مدينة إديسا الى اللغة السريانية مؤلفات ديودوروس الترسوسي وثيودوروس المبسوستي.

     في حين كان النسطوريون يتابعون، في بلاد فارس، نشر مذهب معلمهم حسب طريقة ثيودوروس المبسوستي، كانت مدرسة التفسير في أنطاكية تتهاوى وسط صراعات الهراطقة.

الطابع العام للمدرسة الانطاكية

تشكّل المدرسة الانطاكية، في سياق تاريخ العقائد والمذاهب، نقيض مدرسة الاسكندرية السابقة لها. إبراز الخلاف الدائم بين هاتين المدرستين الشهيرتين يتيح لنا ان نفهم بسهولة منحى المدرسة الانطاكية واتجاهها. كان الاسكندرانيون، وهم المتأثرون بافكار فيلون،  يميلون،  في أعمالهم، إلى اتباع الاتجاه النظري والحدسي والصوفي. أما الانطاكيون فخلافاً لذلك، كان اهتمامهم يتجه الى الممارسة والواقع، ويجلّون في مضمار التفكير الدقيق والمنطق الصارم. كان أتباع مدرسة الاسكندرية ينتمون الى أفلاطون بفعل المنحى التأملي الذي تتميّز به فلسفتهم، وبفضل سموّ تأملاتهم. في حين تبنى علماء أنطاكية نوعاً من المذهب التلفيقي الانتقائي الشبيه، الى حدّ ما، بالاتجاه الرواقي، الأمر الذي يجعلهم أكثر انتماء الى فلسفة أرسطو التي يتوافق طابعها الدقيق والصارم مع ذهنيّتهم. فعلى الصعيد العقائدي، كان الاسكندرانيون يشدّدون على إبراز العنصر السرّي الفوق-عقلاني الذي تتصف به حقائق الوحي، بينما  نرى الانطاكيين يركّزون اهتمامهم على الناحية العقلانية من هذه الحقائق، جاهدين في إقامة البرهان على أن الوحي لا يتناقض مع مقتضيات العقل: لذا يمكننا القول بأن علماء الدين الانطاكيين أرسوا أسس اللاهوت العقلاني ومهّدوا الطريق لسكولائيي العصر الوسيط. أما المضمار الذي تتجلّى فيه بقوة كلّ من المدرستين، مؤكّدة تفّوق الانطاكيين بما لا يقبل الجدل، فهو علم التأويل. فمفسّرو الاسكندرية الذين يقتفون خطى أوريجينوس إنّما يبحثون في كلّ مجال عن المعاني الرمزية، ويكادون لا يبرحون المعنى الصوفي والمجازي الذي يتخلّل الأسفار المقدّسة. أما مفسرو انطاكية، فبالعكس، يهتمون بالمعاني الحرفية والتاريخية واللغوية. ففي الاسكندرية كان علماء التفسير يولون القسط الأكبر من الاهتمام لعلم “النقل”، فيما يعنى زملاؤهم الانطاكيون بصقل الفكر النقدي قبل أي أمر آخر.

     عنيت مدرسة الاسكندرية كل العناية بإبراز الجانب السرّي والفوق-طبيعي للكتب المقدسة، إلا انها أفسحت في الشطط للخيال أحياناً كثيرة. هذا بينما كانت مدرسة أنطاكية تشدّد بالأحرى على الجانب العقلاني من العقائد المسيحية وتجهد في البرهان على كون المسيحية متوافقة خير توافق مع مقتضيات العقل السليمة. هكذا أرسى أئمّة انطاكية التأويل المقدّس على أساس متين وجعلوه علماً حقيقيّاً، اذ حدّدوا، على الصعيد النظري، ما هي القواعد الصحيحة التي يقوم عليها التأويل اللفظي، أي التأويل من وجهتيه التاريخية واللغوية، وطبّقوا عملياً كيف ينبغي الافادة من هذه الطريقة.

     اتّبع الاسكندرانيون الاتجاه التأملي والصوفي، فيما تميّز علماء أنطاكية خصوصاً بالطابع التفكيري، والمنطق والأفكار المقتضبة. فبينما كان علماء الاسكندرية يؤثرون الاعتماد على فلسفة أفلاطون ، لاسيما على الشكل الذي اتخذته هذه الفلسفة على يد فيلون،  كان علماء أنطاكية يعتمدون الأسلوب الانتقائي، آخذين بعض العناصر من الفلسفة الرواقية والكثير من فلسفة أرسطو التي تتوافق جدليتها مع طريقة تفكيرهم. لكن لم يكن ثمة أي تناقض بين الاتجاهين السالفين. كان كليمنضوس وأوريجينوس يعطيان دوراً كبيراً جدّاً للتوجّه الرمزي؛ أما ديودوروس الترسوسي وتلاميذه، فكانوا يولون الاهتمام للتأويل اللفظي والتاريخي، دون أن  يرفضوا نهائياً المعنى الصوفي، وبالأخصّ التوريات النموذجية التي يكثر منها العهد القديم؛ أما مفسرو الاسكندرية، فلئن أهملوا كثيراً المعنى اللفظي واعتبروه غير كاف إلا انّهم لم ينكروا كونه موجوداً ومفيداً، كانوا جميعهم يسلّمون بأن الكتاب المقدس وحي، معتبرين كل أجزائه كذلك، سواء العهد القديم أو العهد الجديد. إلا أن علماء الاسكندرية كانوا يعتقدون بإمكانية اكتشاف بعض الأفكار العميقة المقصودة من الروح القدس، في بعض العبارات المعيّنة؛ فيما كان علماء انطاكية يجهدون أكثر في إبراز الناحية الانسانية الماثلة في النصوص المقدسة، تلك المسائل التي لجأ إليها الله لإبلاغنا بحقائق الوحي. خلاصة القول إنّ الايمان هو هو إن في انطاكية أو في الاسكندرية، بالرغم من إنّ علماء أنطاكية يعنون بابراز الاتجاه العقلي فإن علماء الاسكندرية يهتمون بإبراز الناحية العاطفية خلال عمليات التأويل.

     إن الاتجاهين ما زالا قائمين: فبعض المفسرين  يميلون إلى التأمل الصوفي الذي اتبّعته مدرسة الاسكندرية؛ بينما العدد الأكبر من المفسرين، المعتادين على الطريقة العلمية الصارمة، لا يسلّمون بشيء من دون براهين إيجابية، ويجهدون في إرساء الحقائق المسيحية على قواعد التأويل اللفظي للنصوص المقدسة، اعتماداً على التقاليد.

نظرية الانسان يعتبر ثيودوروس المبسوستي أن الانسان على الارض هو صلة الوصل بين العالم الروحي غير المرئي والعالم المادي المرئي؛ وهو تجلّي الله من حيث الخلق. ولقد تلقى من الله القدرات الضرورية لبلوغ غايته في الوجود. لكن، ولكي يستطيع استخدام هذه القدرات يجب أن يسري في ذاته مبدأ الحياة الإلهية، ويجب أن يسمو، عبر اتحاده مع الله، فوق واقعه المتقلّب ويبلغ الثبات الروحي ومن ثمّ يفيضه على كافة الخليقة. الصراع والتجارب ضرورة لبلوغ الكمال وللحصول على مثل هذا المبتغى. فالانسان الأول، وكذلك جميع المتحدّرين من صلبه، مخلوق معدّ للموت. فإذا كان الله قد حكم عليه بالموت، في أعقاب ارتكابه الخطيئة، فليس ذلك سوى تعبير مجازي لحمل الانسان على الخوف من الخطيئة والابتعاد عنها. إضافة الى ذلك، فإن سمح الله بوقوع الخطيئة، فلانه أدرك بعلمه المسبق أن الخطيئة ستؤدّي إلى خلاص الانسان، لأنّ الانسان، وهو يبني الكمال لنفسه عبر الصراع خلال الحياة الزمنية، يكتسب استحقاقاته لدى الله ويهيّء لنفسه القيامة المجيدة.                             

Scroll to Top