(2 صم 2/26)
صرخة أبنير ليوآب إبّان الحرب الأهلية بين يهوذا واسرائيل يتردد صداها في صوت الإنسان الذي عانى عبر التاريخ و لا يزال يعاني اليوم من ألم الحروب وبشاعتها. معاناة الحرب ومخلفاتها لا يذكرها التاريخ فقط، ولا نحن نستذكرها في مناسبات رسمية أو عند محطات تاريخية لنستعرض مآسي الماضي ونحرّك وجدان الحاضر، إنما لا ينفك إنسان اليوم يصنعها ويكرّرها ويحترق بنارها، وتبقى مرارتها تفترس دون هوادة ولا رحمة.
بعد مرور مئة سنة على بدئها، تستوقفنا الحرب العالمية الأولى لنتذكر، وليست بغيتنا مدح أحداثها ولا العودة إلى تلّمس مآثرها، إنما لكي ندرس ما خلّفته من بصمات وما تركت من وقع في العالم فنأخذ العبرة ممن صمد بحبه في وجه الظلم والموت. لا ننسى إذًا ما تركت من خبرات ملموسة وآثار مادية، حتى نستفيد من الذاكرة.
الذاكرة تلزم البشرية بالوعي على ذاتها وعل العالم المحيط بها، وتحملها على الشركة في البحث عن الحقيقة. فالذاكرة الجماعية تغذّي المجهود في الجدّ عن البحث في فهم أحداث الماضي بهدف سعي أفضل لعيش الحاضر بطريقة أنجح، واستباقًا لمستقبل واعد. بدون الذاكرة لا وجود للوعي؛ فالانسان الذي لا يعود يتذكر ماضيه يفقد وعيه لمعرفة من يكون. بالذاكرة يستعيد المرء خبرته الماضيه وبالتالي يعي من هو اليوم في الحاضر، وعندها يصبح قادرًا على التطلع نحو المستقبل. تعلّمنا الذاكرة الحقيقة.
“التاريخ هو سيّد الحياة”، قال شيشرون في حكمته حول معنى الزمن. لقد استشهد البابا القديس يوحنا الثالث والعشرون بهذه العبارة في خطابه عندما أفتتح أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني، ليدعو إلى صنع التاريخ بأعمال جبارة يقوم بها العظماء تحت هدي الروح. أما نحن فبالنسبة إلينا “الإنجيل هو سيّد الحياة” لأنه يمدح “صانعي السلام” ويطوّبهم وهو يحثنا إلى أن نشهد “لأمير السلام” يسوع. فلا نمل من طلب السلام، ولا نتعب من صنع السلام، ولا نتوانى عن حمل السلام.
لا تحمل الحروب السلام أبدًا. “الحرب تدمّر، تشوّه كل شيء حتى العلاقة بين الإخوة. الحرب جنون، ومخطط إنمائها إنما هو الدّمار”، كلمات تمتم بها البابا فرنسيس أثناء زيارته لشمالي ايطاليا الصيف المنصرم، ليؤدي الصلاة على أرواح الشهداء بذكرى الحرب العالمية الأولى. تتلاقى حسرة البابا هذه مع دعوة قداسة البابا بيوس الخامس عشر إلى السلام، والتي وجهها إلى رؤساء الدول المتقاتلة في الحرب العالمية الأولى حين قال في الأول من آب سنة 1917 واصفًا تلك الحرب “بالجريمة العبثية”.
ما يحمل على قرار الحروب هو الجشع، التعصب والطموح إلى السلطة، وغالبًا ما تكون كلها مبرَّرة “بإيديولوجية”. قال أحد نواب الأمة[1] الفرنسية في خطاب له بمجلس النواب في السابع من آذار سنة 1895: عندما تمتلك طبقة صغيرة من الناس القدرات الكبرى في الانتاج والتواصل، وتريد أن تحكم الآخرين وتفرض على المجتمعات التي تحكمها سننها الخاصة و التي تتركز على التنافس اللامحدود، والكفاح الدائم للحياة والصراع اليومي من أجل المال والسلطة…طالما هذا يحدث فإن الحرب السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الطبقات وبين أفراد الأمة أنفسهم، تولّد الحروب العسكرية بين الشعوب”.
نعم الحرب لا تصنع السلام. بالحوار والتلاقي والانفتاح نبني السلام. بهذا ينادينا كلام الرب المقدس، وعليه يحرّضنا لكي نرّبي أجيالنا على حسن التواصل، وصدق اللقاء وقوة الحب، إنها رسالة العائلة الملتزمة في تعزيز كرامة الانسان.
بعدما افتتحنا السنة الحالية في العددين الأول والثاني من مجلة المنارة بموضوع الذكرى الخمسين على بدء أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني، يستحثنا دوي التقاتل وأصوات الشعوب المتألمة لنتوقف عند مشاهد من كفاح الحب في وجه ظلم الحرب العالمية الأولى في الذكرى المئوية الأولى على إعلانها، فنستذكر ونتأمل ونأخذ العبر. علَّ صوت الحق وفعل الحب يغلبان لتنعم شعوبنا بالسلام ونقوى كلنا على الظلم.
هيئة التحرير
[1] إنه النائب جان جوريس (1859 – 1914)؛ معروف بمواقفه الانسانية وميوله الاشتراكية، مات قتلاً سنة 1914.