Almanara Magazine

” أقامـه سيّــداً علــى بيتـــه وسلطانـــــــاً علــــــــــى جميــــــــع مقتنــــــــاه “(تك 39/4)

القديس يوسف والعائلة

الأب، الحارس والأمين

مقدّمة

أوكلت العناية الإلهيّة إلى القديس يوسف أن يكون الأب الحارس والحامي ليسوع. لكنّ الأناجيل لا تُخبر الكثير عن شخصيّته، مع العلم  أنّه تحمّل مسؤوليّة أبوّة يسوع قانونيّاً، وأعطاه الاسم الذي كشفه له الملاك: “سمّه يسوع، لأنّه هو الذي يُخَلِّص شعبه من خطاياهم.” (متى 1/ 21). هو خطيب مريم ووالد يسوع بالتبني (متى 1/ 15- 16) هو مثال الأب المؤمن والأمين، إنه رجل الله بامتياز.

ولأهميّة هذه الشخصية الفريدة ودورها في الكنيسة، أعلن قداسة البابا فرنسيس سنة “مار يوسف” ابتداءً من 8 كانون الأوّل 2020 حتى 8 كانون الأوّل 2021. وقد أصدر الرسالة البابويّة “بقلب أبويّ” تخليدًا للذكرى المئة والخمسين على إعلان القديس يوسف شفيع الكنيسة الجامعة، في 8 كانون الأوّل 1870.هذا وتجدر الإشارة إلى أن قداسة البابا فرنسيس قد أعلن سنة “العائلة – فرح الحب” في الذكرى الخامسة لصدور الإرشاد الرسولي “فرح الحب” حول الحب في العائلة، ثمرة سينودسين حول العائلة عُقدا في الفاتيكان. ففي تشرين الأول أكتوبر ٢٠١٤، عُقدت الجمعية العامة الاستثنائية الثالثة لسينودس الأساقفة حول التحديات الرعوية للعائلة في إطار البشارة بالإنجيل؛ وفي تشرين الأول أكتوبر ٢٠١٥، عُقدت الجمعية العامة العادية الرابعة عشرة لسينودس الأساقفة حول دعوة العائلة ورسالتها في الكنيسة والعالم المعاصر. وقد بدأ الاحتفال بسنة “العائلة – فرح الحب” في التاسع عشر من آذار مارس ٢٠٢١، في عيد القديس يوسف، وستُختتم في حزيران من العام ٢٠٢٢، بمناسبة اللقاء العالمي العاشر للعائلات المرتقب في روما.

” أرسل الملاك … إلى عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف” (لو 1/ 26-27). هذا التحديد القانونيّ يعني أنّ يوسف ومريم زوجان شرعيّان. ملاك الرب يُدخل يوسف في سرّ أمومة مريم،  تلك التي كانت “زوجته” بحسب الشريعة، وأصبحت أمّاً بفضل الروح القدس، وهي لا تزال عذراء.  وعندما يولد الابن الذي تحمله مريم في أحشائها، سيكون اسمه يسوع.

تشابه وثيق وتكامل واضح بين البشارتين (لوقا1/26-38، متى 1/18-25).  الموفد الإلهي يكشف ليوسف سر التدبير الذي يحققه الله في المسيح، يا يوسف لا تخف … (متى1/20-21). كما أنّه يطمئن مريم كاشفاً لها في الوقت نفسه قصد الله الخاص في شأنها : لا تخافيِ يا مريم …(لو 1/30-32). وهكذا، تتعانق الأبوة والأمومة في تحقيق قصد الله، في تجسد الابن، وتظهر عائلة الناصرة كمثال حيّ لكل العائلات التي تسعى اليوم لاكتشاف مخطط الله وعيشه ببساطة في حياتها اليومية. إنّ يوسف ومريم مثال الأبوة والأمومة الطبيعية والروحية ومعهما تتم توأمة البتولية.

ونحن، في هذه المطالعة، نسعى  لإظهار شخصية القديس يوسف كأب للعائلة المقدسة، كمربٍّ مسؤول وكحارس صامت، أقدم على حمل المهمة بكل ثقة وثبات وأمانة الى جانب مريم العذراء أمّ الله.

1 – أبوّة القديس يوسف المميّزة

“تراءى ملاك الربّ ليوسف في الحلم وقال له: قُم فَخُذِ الطِّفْلَ وأُمَّه” (متى 2، 13). بهذه الدعوة عُرف يوسف ومريم بأنّهما  زوجان شرعيان أمام الشريعة والناس (لوقا 2/4-5)  وعُرف يسوع ابناً ليوسف ومريم بالشريعة (لوقا 2/27؛ 2/41-؛ 4/22). ولكن ، بالطبيعة ، هو ابن الله.

“إنّ زواج مريم هو المُرتكز القانوني لأبوّة يوسف، كما يتّضح ذلك من النصوص الإنجيليّة. فالله إنما اصطفى يوسف زوجاً لمريم ليضمن ليسوع حضوراً أبوياً. وينجم عن ذلك أنّ أبوّة يوسف – وهي علاقة تجعله أقرب ما يمكن من المسيح، هدفِ كل اصطفاء وسابق اختيار – تمرُّ عبر زواجه من مريم، أي عبر العائلة”. (حارس الفادي، عدد 7).  كانت ليوسف الشجاعة كي يتحمّل مسؤوليّة أبوّة يسوع قانونيًّا، وقد أعطاه الاسمَ الذي كشفه له الملاك: “سَمِّهِ يسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم” (متى 1، 21).  (بقلب أبوي، المقدمة).

أن  يكون المرء أبًا يعني أن يقود الابن في تجربة الحياة، أي في الواقع. وهذا لا يعني كَبحه أو سَجنه أو امتِلاكه بل جَعله قادرًا على الاختيار، والحرّية، والانطلاق. ولهذا السبب قد أضاف التقليد إلى صفةِ الأب التي مُنِحَت ليوسف صفةَ “العفيف”. وهذا ليس مجرّد مؤشّر عاطفي، إنما مُلَخّص تصرّف يعبّر عن عدم الامتلاك. العفّة هي التحرّر من التملّك في جميع مجالات الحياة. وحده الحبّ العفيف هو الحبّ الحقيقي. (بقلب أبوي،عدد 7)

إنّ الأبوّة التي لا تقع في تجربة “عيش” حياة الأبناء بدلًا منهم ، تفتح ، دائمًا ، مجالات غير مسبوقة. فإنّ كلّ ابن يأتي بسرّه الخاص الفريد  الّذي لا يمكن أن يظهر إلّا بمساعدة أب يحترم حرّيته، أب يدرك أنه يكمل عمله التربوي، وأنّه يعيش الأبوّة بشكل كامل.في كلّ مرّة نمارس الأبوّة، يجب أن نتذكّر أنها ليست استملاكًا، بل “علامة” تشير إلى أبوّة أسمى. بمعنى آخر، نحن جميعًا ودائمًا في مقام يوسف، إننا ظلّ الآب السماوي الأوحد، الذي “يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار” (متى 5، 45) ، وظلّ يتبع الابن. (بقلب أبوي،عدد 7)

 وكما مريم، آمن يوسف بوحي الملاك وبدعوة الله له “ففعل كما أمره ملاك الربّ”. إنّها “طاعة الإيمان” التي تتميّز بها مريم خطيبته. ليس الإيمان مجرّد عاطفة أو مشاعر، بل هو إتمام ما يريده الله لتحقيق تصميمه الخلاصيّ. بمسؤولية الزوج والأب أخذ يوسف مريم امرأته والجنين يسوع. واحترامًا لقدسيّة العذراء والدعوة الإلهيّة وتجسّد ابن الله في بيته بفعل الروح القدس، كرّس يوسف أيضًا بتوليّته لله من أجل خدمة الكنزَين: مريم ويسوع.

  “لا تخفْ، يا يوسف، أن تأخذ مريم امرأتك” (متى 1: 20). بهذا الكلام أكّدَ الملاك ليوسف أنّه زوج مريم الدائم والشّرعي. وهذه هي دعوته الخاصّة إلى أن يكون رفيق دربها في مسيرة الإيمان، وشاهدًا لبتوليّتها، وحارسًا لشرفها، وشريكًا في كرامتها السّامية. وانسجامًا مع التّأكيد الصريح أنّ يسوع تكوّن فيها بفعل الرّوح القدس، وأنّ بتوليّة مريم ويوسف في هذا الزواج ظلّت مصانة، فالإنجيليّون يُسمّون يوسف زوج مريم، ومريم زوجة يوسف. ويُسمّون يسوع ابن مريم وابن يوسف، بداعي العلاقة الزوجيّة التي تربطهما. وبسبب هذا الزّواج الأمين، استحقّا كلاهما أن يُدعيا والدَي المسيح.

          تجلّت أبوّة يوسف ليسوع، واقعيًّا، في أنّه “جعلَ من حياته خدمة وتضحية في سبيل سرّ التجسّد ورسالة الفداء المرتبطة به، ووهب كلّ ذاته وعمله ليسوع وأمّه؛ وحوّلَ مشروع زواجه إلى تقدمة ذاته وقلبه وجميع طاقاته لخدمة “المسيح” المولود في بيته. يوسف بقرار إلهيّ أُقيم حارسًا لابن الله، وأبا له في نظر الناس، وتولّى مع أمّه مهمّة تربيته، فكان يسوع خاضعًا لهما، يطيعهما ويؤدّي لهما كلّ الواجبات التي ينبغي على الأبناء أن يؤدّوها لوالديهم. في هذا الجوّ العائليّ السليم كان الصبي يسوع “ينمو بالقامة والحكمة والنعمة أمام الله والناس” (لو2/52). في هذا الضوء، ينجلي سرّ الأبوّة والأمومة في كلّ زواج.

وضع يوسف ثقته الكاملة في الله. فترك نفسه تُقاد بأحلامه من دون تردّد. لماذا؟ لأنّ قلبه كان موجَّهًا نحو الله، وكان مستعدًّا لقبول كلّ شيء منه . وهذا يطبّق أيضًا على دعوتنا: لا يحبّ الله أن يكشف عن نفسه لنا بطريقة فائقة العادة، تفرض نفسها على حريتنا. فهو ينقل خططه إلينا بوداعة. إنّه لا يرهبنا برؤى صاعقة، بل يتوجّه بلطف إلى حياتنا الداخلية، ويجعل نفسه قريبًا منا، ويكلّمنا من خلال أفكارنا ومشاعرنا. وهكذا، وكما فعل مع القديس يوسف، يُقَدِّمُ لنا أهدافًا عالية ومدهشة.

بإمكان القديس يوسف أن يكون اليوم منارة للعائلة. لقد كانت حياته بأسرها مرتبطة بمريم ويسوع. قَبِل مريم كزوجة وقَبِل يسوع كابن ، وأجاب عن رسالة خاصّة،  وهي رسالة العائلة التي تشكّل أيضا الأساس الجوهريّ لحياة يسوع. لقد ترعرع يسوع ضمن إطار زواج عاديّ، بالرغم من أنّه قد حُبل به بنعمة الروح القدس؛ وبالتالي،  في هذه السنة المخصصة للقديس يوسف ، وكذلك في سنة العائلة وفي الذكرى الخامسة على صدور الرسالة العامة للبابا فرنسيس “فرح الحب” تتناسب شخصية الأب في التبنّي بشكل كامل، لأننا نجد في عائلة الناصرة انعكاس الثالوث الأقدس السماويّ. إنَّ القديس يوسف، في تعامله مع مريم، كما مع يسوع ووقوفه إلى جانبه فيما هو ينمو، واستعداده لأن يضحّي بنفسه لأجلهما، هو ربّ البيت ومثال للحماية والوصاية، وهو يعلّمنا الكثير… من هنا، تنشأ ضرورة الانتباه للعائلة، وتحديدًا، للمرأة والتّعامل معها برقّة،  خصوصًا، أنّنا في الواقع، لا نزال نرى الكثير من النساء اللواتي يعانين المآسي في حياتهنّ العائلية. إذًا، إنّ هذه العناية الّتي ميّزت معاملة يوسف لعائلته يجب أن تميّز معاملة كلّ أب لعائلته. وبالتّالي، يجب أن نعاينها في كل عائلة وتحديدًا في الكنيسة، عائلة أبناء الله.

2 – القديس يوسف الحارس الصامت

انتُدب يوسف للسهر على الفادي،(حارس الفادي، عدد 1). وقد جاء في الإنجيل الكلام التّالي: يا يوسف، لا تخفْ أن تأخذ مريم امرأتك، فالمولود فيها هو من الرّوح القدس”(متى 1: 20). أمّا يوسف  ” ففعل كما أمره ملاك الربّ، فأتى بامرأته إلى بيته” (متى 1/24). يوسف هو حارس مريم ويسوع، هو حارس العائلة. (مت 1، 24). 

لقد اختار الله يوسف البار لخدمة تدبيره الخلاصيّ، فأبان له سرّ تجسّد الابن الحبيب.  هو أب لابنه المتأنسن،بالشريعة لا بالطبيعة . وقد أشركه اللّه في سرّ ابنه وفي العهد الأبدي الذي قطعه مع داود، والّذي وعده فيه بأن يعطيه وريثاً من صلبه لا يكون لملكه انقضاء (نبوءة ارميا 33/14-22).

كيف مارس يوسف هذه الحراسة؟ لقد مارسها برصانة وتواضع وصمت، لكن بحضور دائم وأمانة تامة، حتّى حينما كان يتعذّر عليه الفهم. فمنذ لحظة خطوبته العذراء وحتى دخول يسوع الطفل إلى هيكل أورشليم، عندما كان عمره اثني عشر عاماً، ويوسف يرافق العذراء باهتمام ومحبّة في كل لحظة. كان دائما إلى جانبها في صعوبات الحياة وأفراحها ، (ميلاد يسوع، الهروب إلى مصر، السفر إلى بيت لحم للاكتتاب، البحث اللاهث عن الابن في الهيكل، الحياة اليومية في بيت الناصرة وفي المشغل حيث كان يعلّم يسوع الحِرفة….) وهكذا في النّظر الدائم إلى لله، والانفتاح على إشاراته، والاستعداد لتنفيذ مخطّطه ، وليس مخططه الشخصي؛ إنّ الله لا يرغب في بيت مصنوع من يد إنسان، بل في الأمانة لكلمته ولمخططه: فالله نفسه هو الذي سيبني البيت، بحجارة حيِّة وموسومة من الروح القدس. ويوسف هو “الحارس”، لأنه يتقن الإصغاء إلى لله، ويترك نفسه منقادًا لمشيئته. ولهذا السبب، تحديدًا، هو يشعر بحساسية أكبر نحو الأشخاص الذين أؤتمن عليهم، ويعرف قراءة الأحداث بواقعية، واتخاذ القرارات الأكثر حكمة والانتباه لما يحيط به. في شخص مار يوسف، نرى كيفية الاستجابة إلى دعوة الله بترحاب وبحكمة، كما ماهية جوهرالدعوة المسيحية: أي المسيح الّذي ينبغي أن نحرسه في حياتنا، ونقدّمه للآخرين، كي نصون الخليقة!.

في صمت يوسف دعوة ورسالة، عاشهما برصانة وتواضع، بحضور دائم وأمانة تامة، حتّى حينما كان يتعذر عليه الفهم. عاشهما في انتباه دائم لله، منفتحا على علاماته، ومستعدا لتنفيذ مخطط الله، وليس مخططه الشخصي. أدّى القديس يوسف واجبه بحرية داخلية، كخادم صالح وأمين يتطلّع فقط إلى خير الأشخاص الموكلين إليه.

إنّ الحراسة، بالنسبة إلى القديس يوسف، كما إلى كل أب وربّ عائلة يستلهم منه الأبوة، تعني محبّة عائلته والتفكير أوّلًا في خيرهم وسعادتهم، بحنان ورصانة وسخاء. إنّ الحراسة هي تصرّف داخليّ يقود إلى عدم إبعاد النظر عن الآخرين ، وتحديد متى علينا الابتعاد عنهم أو الاقتراب منهم، محتفظين بقلب يقظ ومتنبّه ومُصلٍّ. هذا هو تصرّف الأب الذي لا يترك أولاده أبدا  واضعاً في  المركز الأوّل، لا ذاته أو أفكاره، بل خير مَن هو مدعوّ إلى حراستهم، متفاديا نزعات الهيمنة أوالإهمال.

إن القديس يوسف فضَّل أن يؤمن بالله لا بشكوكه، وقدّم نفسه كأداة لتنفيذ مخطط أكبر في خدمة تميزت بالسخاء والخفاء.

 في صمت العمل اليومي، كان همّ القدّيس ” يوسف ” والعذراء مريم الوحيد هو يسوع. فكانا يصطحبان ويحرسان، بالتزام وعطف وصمت، نموّ ابن الله الذي صار إنسانا لأجلنا، متأمّلين في كل ما كان يحدث. في الأناجيل، يوضح القديس لوقا لمرتين تصرف مريم، والذي هو تصرف القديس يوسف ذاته: ” وكانَت مَريمُ تَحفَظُ جَميعَ هذهِ الأُمور، وتَتَأَمَّلُها في قَلبِها… ثُمَّ نَزلَ مَعَهما، وعادَ إِلى النَّاصِرَة، وكانَ طائِعاً لَهُما، وكانَت أُمُّه تَحفُظُ تِلكَ الأُمورَ كُلَّها في قَلبِها” (2/ 19؛ 51). لكي نسمع الرب، يجب أن نتعلم تأمله، استشعار حضوره الدائم في حياتنا… يجب التوقف للحوار معه وإعطائه مكانا من خلال الصلاة، وبخاصة في العائلة. نسأل ، أي مكان نعطي للرب في حياتنا؟ هل نتوقف للحوار معه؟ لقد عوّدنا والدونا، منذ نعومة أظافرنا، على أن نبدأ وننهي يومنا بالصلاة، ليعلمونا الشعور بصداقة الله الذي يرافقنا ولا يتركنا أبداً وبمحبّته.

يمكن للقديس يوسف أن يقول لنا أمورًا كثيرة ولكنّه لا يتكلّم؛ هو الرجل الخفي، هو رجل الصمت الذي كان يملك أكبر سلطة في ذلك الوقت، لكنه لم يُظهرها لأحد.  فهناك ولادة الطفل يسوع والهرب إلى مصر ومواقف ضعف أخرى… وقد حمل يوسف في قلبه كلّ هذه الضّعفات وسار بها قدمًا، بحنان من يحمل طفلاً بين ذراعيه. هو مثال لكل أب يحمل هموم عائلته مع شريكة حياته.

    3 –  القديس يوسف رجل الثبات والأمانة

يا يوسف، لا تخفْ أن تأخذ مريم امرأتك، فالمولود فيها هو من الرّوح القدس”(متى 1/ 20)                  

بعدما عاد القديس يوسف مع مريم ويسوع من مصر الى الناصرة، عاشوا حياة ملؤها الإيمان والثّبات والحبّ والتّضحية والتّربية الّتي لا تعرف التعب. فكان يوسف لمريم، رجل الثبات والاستقرار والمثابرة(مت 2/ 19- 23)، وهذا ما جعل العائلة في حالة فرح وازدهار ونموّ (لو2/51- 52).  يسوع هو فرح مريم ويوسف، وفرح كل عائلة، إنه الكنز الذي يغني فقر يوسف وفقر كل زوج. لم يملّ القديس يوسف من مسؤوليته تجاه مسيرة التجسد، بل كان المناضل الأول في إنجاح مخطط الله الذي أعدّه نوراً للأمم (لو2/29- 33) والذي كشف ليوسف، عظمة أبوّته وحبّه وحنانه تجاه الطفل الإلهي ومريم. فكان، أمامهما، مثال الرجل البار والثابت في قراراته ووعوده، ولاسيّما في إيمانه.

          يبدو يوسف  دائما مستعدًّا، كمن يعيش ليخدم. بهذه الرّوح تقبَّل يوسف الرحلات العديدة والمفاجئة غالبًا، في حياته: من الناصرة إلى بيت لحم لإجراء الإحصاء، ومن ثّم إلى مصر ومرَّة أخرى إلى الناصرة، ومرَّة في كلّ سنة إلى القدس. كان دائمًا مستعدًّا لمواجهة الظروف الجديدة، من دون أن يشتكي ممّا يحدث. كان دائمًا مستعدًا لأن يمدّ يد العون لإصلاح المواقف. يمكن القول إنّه كان بمثابة يد الآب السماوي الممدودة إلى ابنه على الأرض. لذلك، لا يمكنه إلّا أن يكون المثال لكلّ الدعوات التي يُطلَبُ منها ذلك، أي أن تكون يد الأب المهتمة بأبنائه وبناته.

لننظر إلى القديس يوسف كنموذج للمربي، الذي يحرس ويرافق يسوع في مسيرة نموّه “في الحكمة، والقامة، والنعمة”، كما يخبرنا إنجيل القديس لوقا (لوقا 2/ 52). إن القديس يوسف لم يكن أب يسوع، لأن أب يسوع هو الله. لكنّ القديس يوسف قام بدور الأب ليسوع مرافقا لمسيرة نموّه ومساعدا فيها، وذلك بالحكمة والقامة والنّعمة.

ننطلق من فكرة النمو في “القامة”، والتي تتعلق بالبعد الطبيعيّ، أي بالنمو الجسدي والنفسي. فقد اعتنى القديس يوسف مع مريم العذراء، بيسوع، في المقام الأول، حريصين على أن يوفرا له كل ما هو ضروري لنموّ صحي. ويجب ألا ننسى أنّ التّفاني في حماية حياة الطّفل دفعهما إلى الهروب إلى مصر، حيث اختبرا تجربة حياة اللاجئين القاسية. لقد كان يوسف ومريم ويسوع لاجئين في مصر بعد أن هربا من تهديدات الملك هيرودس. ثم، عند عودتهم إلى الوطن واستقرارهم في مدينة الناصرة، حيث أمضى يسوع الفترة الأطول من حياته في حضن عائلته، وحيث عَلَّمه القديس يوسف حرفته، حرفة النجارة، فيسوع قد تعلم حرفة النجارة من أبيه يوسف (متى 13، 55). وهكذا رافق يوسف نمو يسوع.

في مجال التربية المتعلق “بالحكمة”، فقد كان يوسف، بالنسبة إلى يسوع، مثالا ومعلّما لهذه الحكمة، التي تتغذى من كلمة الله. وهنا يمكننا أن نتخيّل كيف علَّم يوسفُ يسوعَ الصغير الإصغاء إلى الكتب المقدسة، ولا سيما من خلال مرافقته له كل يوم سبت إلى مجمع الناصرة.  فقد كان يوسف يرافقه ليتمكن من سماع كلمة الله في المجمع.

أمّا في ما يتعلّق بالبُعد الخاص “بالنعمة”، فيخبر القديس لوقا، متحدّثا عن يسوع: “كانت نِعمةُ اللهِ علَيه” (2/ 40). إنّ للأب والأم الدّور الأول في تربية  أبنائهم للنمو في نعمة الله.

تميّز القديس يوسف بحسّ التمييز الروحيّ، إنه أب، عهد إليه الاعتناء بالإبن الإلهي، فخدمه كما يخدم الإله. وكان يفرح به فرحه بالصالح، ويحترز منه احترازه من العادل، عين على الله وعين على الأحداث، فعرف بمعونة الرب، قراءة علامات الواقع، بكل دقة وتمييز وفطنة وتطبيق محترف. لهذا تراه يأخذ الطفل وأمه كما أوصاه الملاك ويهرب بهما إلى مصر، خوفاً من سيف هيرودوس (مت2/ 13 – 15)، متّخذًا قرارات مصيرية صحيحة تحمي العائلة، لا من سيف هيرودوس وحسب، بل من سيوف الخيارات القاتلة.

يوسف هو الرجل الذي لا يتكلّم، لكنه يطيع. هو رجل الحنان والرجل القادر على أن يحمل الوعود لكي تصبح ثابتة وأكيدة؛ إنه الرجل الذي يضمن ثبات ملكوت الله وأبوّة الله وبنوّتنا كأبناء لله. هو قادر على استخراج العديد من الأمور الجميلة من ضعفنا وخطايانا. يوسف هو حارس الضعف لكي يصبح ثابتًا في الإيمان، وهذه المهمّة قد نالها في الحلم: إنه رجل قادر على الحلم، وبالتالي هو أيضًا حارس حلم الله. وحلمه هو أن يخلصنا جميعًا، إنه حلم الفداء، والله يكشفه له؛ عظيم هذا النجار! صامت، يعمل، يحلم، ويحرس يحمل الضعف ويسير به قدمًا؛ وبالتالي هو شخصيّة تحمل رسالة للجميع.

يمكننا أن نلخّص ثقتنا بالقدّيس يوسف في عبارة “اِذْهَبوا إِلى يوسف” التي تشير إلى زمن المجاعة في مصر عندما كان الناس يطلبون الخبز من فرعون فيجيب: “اِذْهَبوا إلى يوسف؛ فما يَقُلْه لَكُم فاَصنَعوه” (تك 41، 55). (بقلب أبوي، عدد 1)

يستطيع كل أب ربّ عائلة أن يأخذ القدّيس يوسف كداعم في اللحظات الصعبة ودليل له فيها. لقد كانت مهمّته هي بالتأكيد مهمة فريدة ونادرة، لكون يسوع هو فريد للغاية. لكنَّ يوسف – في حراسته ليسوع، وفي تعليمه له في أثناء نموه في “القامة، والحكمة والنعمة” – يبقى نموذجا ومثالا لجميع المربين، وخصوصا لكل أب. فالقديس يوسف هو نموذج المربي والأب.وعلى الأزاوج، وبخاصة الآباء الاقتداء بهذا القديس العظيم، وذلك من خلال تجسيد قيمه في مسيرتهم الزوجيّة بشكل حقيقيّ: كالثبات والأمانة والإخلاص والديمومة والشركة والحب والغفران والمسامحة والحياة والشهادة والتربية والقداسة، وأن يقبلوا على مثاله عيش ثقافة الاستسلام لله، وألاّ يتراجعوا أو يستسلموا لأية مشكلة تعترض مسيرتهم الزوجية أو العائليّة،موكلين ذواتهم إلى شفيع العائلة القديس يوسف البتول.

4 – يوسف الصّدّيق مثال الأب لعصرنا اليوم

تبدو شخصيّة يوسف أنموذجًا يقتدي به كلّ أب محب، لأنه رمز العطاء ومثال الأب الذي يؤدي دوره بكل طواعية  وبقلب منفتح على الله وسره وكيان يُقَدَّم هبة الى الأب مجبولاً بعمل صامت على الأرض.

على مثال يوسف نحن بحاجة الى ربّ عائلة يتحلّى بميزة الصمت والحب والتّواضع… رجل النزاهة والعفة، رجل الشّدائد والصعوبات، رجل الإيمان والعطاء… يتّكل على محبة الرب ويسير وراءها حتى النهاية،  ويكون مستعدًّا ليتمّ المستحيل المطلوب من قبل الرب.

يوسف كان باراً ولم يرد أن يشهر العذراء. ونحن، عندما نعرف ضعفاً أو نقصاً عند أحد إخوتنا أو في عائلاتنا، هل نأخذ موقف يوسف البار، أو نطلق العنان لأفكارنا وألسنتنا، لنجرح سمعة الآخر، وكأننا نحن وحدنا أطهار وأبرار؟.

أسرة الناصرة تظل أنموذجاً لكل العائلات، وتكشف أبوة يوسف وأمومة مريم وطواعية يسوع. وهي أول موقع لوجود المسيح ابن الله على الارض.

فصمت يوسف يتكلم بالعمل والأمانة لنداء الله حتى النهاية.  قضيته كانت قضية تقديس الحياة اليومية التي يجب على كل منا أن يسعى إليها من منطلق وضعه وحياته.

دعوة إلى كل عائلة أن ترجع يومياً مع يوسف ومريم الى الله لتسمع صوته،  فعنده الكثير ليقوله لنا.  هل نريد ان نسمع صوته أو الأصوات الأخرى المفروضة علينا في العالم، بينما صوت الرب ناعم وهادئ يترك لنا حرية الاختيار؟.

الى يوسف الصديق نلتجئ في الصعوبات من أجل تأمين استقرار العائلة ووحدتها، واحترام الحياة البشرية، واعتبار فضيلة الطهارة وممارستها، وإبراز دور الأب في تربية الأولاد، والجمع بين الصلاة والعمل، ومن أجل استلهام المحبة والرحمة قبل الحكم على ظواهر الأمور وقبل اتّخاذ المواقف الحاسمة.

خاتمة

إنّ يسوع المسيح الإله، بميلاده في عائلة، قدّس العائلة ورفعها إلى رتبة سرّ، بحيث يكون الله الواحد والثالوث حاضرًا في كلّ زواج شرعيّ، فيقدّس الزوجين بنعمته ويعضدهما ويختمهما برباط دائم؛ ويجعل من العائلة كنيسة بيتيّة تنقل الإيمان، وتعلّم الصلاة، وتربّي على الفضائل الروحيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة، فتصبح على المستوى الاجتماعيّ الخليّة الأساسيّة للمجتمع، والمدرسة الطبيعيّة للقيم.

من مثال القديس يوسف تنطلق الدعوة إلى كلّ أب في عائلة، حيث يستطيع جميع الآباء أن يجدوا في القدّيس يوسف، الرجلّ الذي يمرّ من دون أن يلاحظه أحد، رجلَ الحضور اليوميّ، المتحفّظ والخفيّ، والشفيع، والعضُد والمرشد في أوقات الشدّة. يذكّرنا القدّيس يوسف بأنّ الأشخاص المَخفيّين ظاهريًّا أو الذين هم في “الخطّ الثاني”، لديهم دور أساسيّ لا مثيل له في تاريخ الخلاص. لكلّ منهم تعود كلمةُ تقدير وامتنان. (بقلب أبوي، المقدمة)

معكم أيّها الآباء ومع عائلاتكم نطلب شفاعة هذا القديس  لكي تكونوا  دائما قريبين من أبنائكم، تاركين لهم مساحة للنمو، بقربكم منهم! إنهم بحاجة إليكم، وإلى حضوركم، ومحبتكم. فكونوا لهم مثل القديس يوسف: حُراسا لنموهم في القامة، والحكمة والنعمة، حُراسا لمسيرتهم، ومربين يرافقونهم في الطريق. فباقترابكم منهم ستكونون مربيين حقيقيين.

كم نحن اليوم بحاجة الى مثال يوسف الصدّيق ليكون قدوة كلّ أب يكافح ويجاهد في سبيل عائلته!.

———————————————————–

المراجع

الكتاب المقدس الترجمة اليسوعيّة، دار المشرق، بيروت 2000

البابا القديس يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي “حارس الفادي” ، الفاتيكان 1989

البابا فرنسيس، “بقلب أبويّ” رسالة رسوليّة بمناسبة الذكرى المئة والخمسين لإعلان القديس يوسف البتول شفيعاً للكنيسة جمعاء، الفاتيكان 2020.

البابا فرنسيس، تعاليم الأربعاء حول شخصيّة القديس يوسف، 2021

إعداد الأباتي سمعان أبو عبدو

Scroll to Top