حول تصرُّفاتٍ مشبوهة وتقويّاتٍ شعبيّة خلال فترة الوباء
الدّكتور انطوان افرام سلامه
فتقدّمَ تلاميذُه وأَيقظوهُ قائلين: “يا سيِّد، نَجِّنا فإنّنا نَهلِك”[1]
شكّلت فترة الحَجْر للوقاية من وباء الكورونا، فترةً زمنيّةً للبحثِ والكتابة، خصوصًا عن قضايا دينيّة بسيطة استجدّت في كنيستنا المارونيّة، وتمثّلت بتصرّفات بعض الكهنة والمؤمنين، حول رفضهم قرارَ المناولة باليد أو تسابقهم لتزنير الكنائس أو تهافتهم على الطواف في الطرقات والشّوارع وغير ذلك من العبادات. فكانت ثلاث مقالات “التديُّن الزّائف”، “عودة الطّقوس الغريبة”، “موتُ أدونيس وقيامة يسوع”. وقد سبقَ ونشرتها على صفحتي الفيسبوكيّة، قبلَ أن تطلبَ إعادة نشرها إدارة تحرير مجلّة “المنارة” الغرّاء.
1- التديُّن الزّائف (مسألة المناولة باليد – 9 آذار 2020)
لا يُقاسُ التديُّن في الدّيانات كافّة وفي المسيحيّة تحديدًا بوفرة الطّقوس ورونقها وأبّهتها برغم الحاجة إلى ذلك كتعبيرٍ لاحترام الألوهة، ولأنَّ الرّمز يحوّل اللامنظور إلى منظورٍ ومحسوس. لكنّ التديّن السّليم يُقاس بالحالة التي أمسى عليها كياننا من تبدُّلٍ في الطِّباع وضبطٍ للشّهوات ونموٍّ مستمرٍّ في عيش القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة والإيمانيّة.
أظهرت الجدالات المبكية المضحكة بخصوص طريقة المناولة مدى تخبّطنا في “الجهل المقدّس” في “زمن دينٍ بلا ثقافة”[2]، حيث الشّريعة تسمو القلوب وحيث الحركات الطقسيّة ورموزها تحجب المعنى والهدف. لا شكّ في أنّ تبديل طرق العبادة يتطلّب وقتًا لأنَّ العادة “طبيعة خامسة” بحسب المثل الشعبي أو “عادة في البدن لا يغيّرها إلاّ الكفن” و”من غيّر عادته بتقلّ سعادته”[3]. وبالتالي لا فرق بين تناول القربان في الفم مباشرةً أم باليد، لأنّ الهدف الأساس يكمن في عيش هذه المناولة لكي أُضحي هيكلاً حيًّا ومائدةً مقدّسة، أي حتى أصير مسيحًا آخر أعكس تعاليمه في يوميّاتي من محبّة الله والقريب.
وازدادت الأمور تعقيدًا بإضفاء البعض، الصّبغة السحريّة على القربان، وجزمهم بتطهيره للأوبئة والأمراض، فطافوا به جوًّا وبرًّا وبحرًا ناسينَ أنَّ القربان مرتفعٌ في رعايانا وأديارنا كعلامةٍ ثابتة لتجسُّد الله وحضوره بيننا، وغافلين مقولة “الوطن للجميع والدّين لله”. لا أنفي ضرورة الصّلاة وقت الشدّة والضّيق، والتّسليم المطلق لله الّذي ميّزنا بالعقل إلى جانب فطرة الإيمان، ليكونا في تماس وترابط؛ فالمؤمن الصّادق والمتديِّن الحقيقي هو المتحلّي بالعاطفة وبالعقلانيّة بعيدًا عن الشّعوذات.
أمّا الخطير في هذه المشهديّة فيكمن في غياب الطّاعة التي هي فضيلةٌ إيمانيّة وتحديدًا “الطّاعة للكنيسة”. أَن تَدّعي سيِّدة بين الجموع بـ “أنّنا نحن الكنيسة”، كلامٌ فيه من الصحّة لأنَّ الكنيسة تُفَسَّرُ بـ “جماعة المؤمنين بيسوع المسيح الذي هو رأسها”[4]، لكنَّ لهذه الجماعة أحبارًا يسهرون عليها في التّعليم والتّدبير والتّقديس وإلاّ باتت الرعيّة من دون راعٍ. فالقدّيس سمعان العمودي الأنطاكي الكبير تلميذ مار مارون[5]، عندما قرّر الأساقفة يومًا أن يمتحنوا طاعته، أمروه بالنّزول عن عموده المرتفع الّذي إتّخذه وسيلةً للزُّهد والنّسك، فما كان منه إلاّ أن أطاعَ السلطة الكنسيّة وامتثل للأمر، فازدادوا احترامًا له وإعجابًا بقداسته.
الغيرة على المقدّسات فعلُ إيمانٍ عميق وعلامة تديُّنٍ مستقيم كما يقول الكتاب “غَيرةُ بيتِك أكلتني” (مزمور ٦٩)، لكنّ هذا التديُّن يبقى زائفًا وسطحيًّا إذا لم يعقبه غوصٌ إلى العمق؛ وما ولوج العمق إلاّ معرفةٌ أكثر لذاتنا وعيشٌ لإنسانيتنا وإدراكٌ لتلك المقولة التي عبَّر عنها غوته (Gothe) وقالها أوغوسطينوس: “قلوبنا خلقت لكَ يا ربّ، وهي لن تطمئنّ إلى أن تستقرّ فيك”[6]… ألا وفّقنا الله في حجِّنا لبلوغ “ملء قامّة المسيح” (أفسس 4/13)، فننمو “بالحكمة والقامّة والنّعمة أمام الله والنّاس” (لوقا2/52)، ونرتقي صوب ما هو حقّ، خير وجمال.
2- عودةُ الطّقوس الغريبة (عادة تزنير الكنائس – 14 آذار 2020)
أَدّت الأحداث المستجدّة في البلاد إلى ظهور بعض العادات التقويّة التي اعتقدنا بزوالها، وذلك بسبب أصولها الغامضة ومعانيها الفارغة من الإيمان المسيحي، ومن بينها عادة “تزنير الكنائس” التي بطلت تدريجيًّا في الرّبع الأخير من القرن العشرين.
أشار إلى هذه العادة الأب جوزف غودار الرّاهب اليسوعي (Joseph Goudard) الّذي أقام في لبنان بين سنة ١٨٩٢ و١٩٠٣. فلاحظ في كتابه “العذراء القديسة في لبنان” (La Sainte Vierge au Liban)، أنَّ بعض الموارنة في القرى النائية والجبال العالية، “يزنِّرون الكنيسة” في حالات الكوارث العامّة كانتشار المجاعة والحروب والأوبئة. فكانوا، بحسب غودار، يجتمعون بالقرب من معبد السيِّدة العذراء وفي يد كل منهم قطعة نسيج حريريّة أو قطنيّة ليصنعوا منها قَصَّة كبيرة تُلَفُّ كحزامٍ حول الكنيسة، معتقدين أنّهم يُبعدون بذلك الخطر والمرض، ويُضيف الأب غودار أنَّ هذه العادة هي قديمة حتمًا ومن المستحيل تحديد أصلها ورمزها[7]. تلتقي هذه العادة مع تصرّفاتٍ مشابهة عرفتها الشّعوب الكنعانيّة أو الفينيقيّة المؤلِّهة لقوى الطّبيعة والنّمو، فأحاطت الشّجرة المرتفعة قرب الهياكل بمزيدٍ من العبادة باعتبارها رمز النّبات الدّائم الخضرة الذي تسكنه آلهة الخصب، وربطت قطع من الثّياب أو خِرَق على أغصان هذه الشّجرة[8].
وكما توارث أهل لبنان وسوريّا وفلسطين من مسيحيين ومسلمين ودروز هذه العادة إلى يومنا، مكرِّمين باحترامٍ فائق السّنديانة أو الصّنوبرة المظلِّلَة الكنيسة والدّير والمقام، فلعلّ الموارنة قد ورثوا عن هذه الدّيانات القديمة القائمة على عبادة الخصوبة، عادة تزنير المعبد. فيحمل بالتّالي “الزنّار” عند الكنعانيين معنى “حبل الخلاص” الّذي يربط الطِّفل بالأمّ في الرّحم، فيما حركة التزنير ترتبط بالإلتجاء الوثيق إلى الآلهة “الأمّ” (عشتروت…) رمز الإنجاب والحياة والحنان والدّفء. وهذا ما يُفَسِّر قول الأب غودار بأنَّ الموارنة عند انتشار المجاعة والحروب والأوبئة يعمدون إلى تزنير معبد السيِّدة العذراء؛ أي يلجأون إلى حمايتها من خلال ربط المناديل ببعضها البعض بشكل زنّارٍ كرمزٍ لحبل الخلاص ولمجاورتها.
ولأنَّ القماش في الفكر الإنساني وفي التّقوى الشعبيّة يُعتَبرُ ناقِلاً للبَرَكة إذا لامَسَ المكان المقدّس، فإنَّ هذه المناديل كانت تُستَعمَل لاحقًا كوسيلةٍ تُبعِدُ الأذى والضّرر عن حامِلِها. ودليل ذلك ما أشار إليه الأب غودار بأنَّ المناديل المربوطة ببعضها لتزنير الكنيسة، كانت تُباع فيما بعد ويعود ريعها للكنيسة[9]، كما شهادة إمرأة معمِّرة من شمال لبنان قالت مؤخّرًا بأنَّ عادة تزنير الكنائس قديمة جدًّا وليست من تعاليم الكنيسة بل هي تقليد شعبي، إذ يأخذ النّاس قطعة قماش من البيت إلى الكنيسة ويعيدونها إليه لتبارك ثيابهم كلّها، وتطرد عنهم الضربات والأوبئة[10].
تدلّ هذه الاستناجات أنّ الإنسان عبر العصور احتاج إلى ما يُهدِّىء قلقه الوجودي ويُزيل عنه فعل الموت المريع، فابتكرَ طرقًا متعدِّدة وقَدَّمَ القرابينَ والنّذور والصّلوات ليتقرّب من الألوهة وينالَ الأمان. وفي ملءِ الزَّمَن تَجَسَّدَ يسوع المسيح ليُعَلِّمنا أنَ الدّين هوَ نموٌّ مستمرّ في الجسدِ والفكر والرّوح لبلوغِ ملءِ نضوجنا الإنسانيّ، وأنّ حياتنا هيَ عبورٌ نحوَ النّور فهوَ “القيامة والحقّ والحياة” (يوحنّا 11/25).
نعم! المحافظةُ على التّقاليد عادةٌ حسنة خصوصًا تلك المتأتية من ترسُّباتٍ حضاريّة وثقافيّة عتيقة. لكن المؤسف أن ترجع إلى ربوع مسيحيّتنا عدّة أعمالٍ تقويّة طواها الزّمن لبطلان معناها المسيحيّ الرّصين ولعدم تكيُّفها المجتمعي، ولاسيّما “تزنير الكنائس”. ومحزنٌ أكثر أن تترافق عودتها بمباركة بعض رجال الدّين بحجّة المحافظة على التّقليد. فإذا كان أجدادنا الموارنة في القرون الغابرة على صواب في كلِّ تصرّفاتهم، فلماذا بذلَ جمعٌ من الأحبار والكهنة والرّهبان حياتهم في التّعليم والتّدبير والتّقديس لينقلوا إلينا مبتغى الرّب في الكتاب المقدّس: “إنّي أُريدُ رحمةً لا ذبيحةً” (هوشع ٦/٦)؟ أو لماذا عُقِدَت مجامع كنسيّة متعدِّدة بين القرنين السّادس عشر والتّاسع عشر لتجعلَ من الموارنة شعبًا منظّمًا يؤمن بيسوع المسيح إيمانًا عقلانيًّا بعيدًا عن الشّعوذات والعبادات الشّعبيّة؟
كتَبَ أحدهم على صفحته الفيسبوكيّة بالقرب من أيقونة المصلوب: “يا خَوفي نْكون ضيّعناك بالتفاصيل”. نعم! فالأوضاع المتأزِّمة في البلاد بيّنت أنّنا نلتهي بالوسيلة بدل التركيز على الهدف والمعنى، وأنَّ السِّحر يطغى على ممارساتنا الدينيّة، وأنّ إيماننا بيسوع قائم على المصلحة البحتة… فلنرجع إلى دنيانا، إلى عمق إنسانيّتنا لنكتشف الإله الصّالح المقيم في داخلِ كلِّ واحدٍ منا.
3- موتُ أدونيس وقيامة يسوع (من وحي أسبوع الآلام وعيد القيامة – 8 نيسان 2020)
بينَ موت أدونيس وقيامة يسوع تقارُبٌ وتناقض. فأدونيس، “تمّوز”، “أَدون” أو “بَعْل” هو إلهٌ عرفته الشّعوب الكنعانيّة-الفينيقيّة في عبادتها لقوى النّمو والخصوبة أُسوَةً بسائر الدّيانات السّامية[11]. وتدور حادثة مقتله وانبعاثه في “أفقا” عند نبع “نهر ابراهيم” حيث هاجمه بشراسةٍ خنزيرٌ برّي، فحملوهُ وهوَ يموت إلى حبيبته المتألِّمة “عشتروت” التي نزلت إلى العالم السُّفلي، مثوى الأموات، وأعادته حيًّا[12].
أمّا يسوع، بحسب المعتقد المسيحي، فهوَ ابن الله الّذي تجسَّدَ ليُخَلِّصَ “شعبه من خطاياهم” (متّى1/21)، وقد صُلِبَ وماتَ فداءً عن الشّعب ودُفِنَ وانحدرَ بنفسِهِ إلى الجحيم، مقرّ الرّاقدين، وفتح للأبرار الّذين سبقوا مجيئه أبواب السّماء، ثمَّ قامَ من بين الأموات وصعد إلى أبيه[13].
وبالرُّغم من تشابه الروايتين، فإنَّ الفارق شاسعٌ في الواقع. الرّواية الأولى هي نِتاجُ أسطورةٍ، والأسطورة “شكلٌ من أشكال الأدب الرّفيع” المعبِّرة عن “تأمّلات الجماعة وحكمتها وخلاصة ثقافتها”[14]. أمّا الرّواية الثّانية، فهيَ تاريخيّة بامتياز وتحديدًا في مسألة صلب يسوع وموته وقد ذكرتها بعض المصادر المعاصرة نسبيًّا للحدث، بالإضافة إلى الكتب المقدّسة[15].
غير أنَّ تقاربًا طقوسيًّا وفكريًّا ما زالَ يربُطُنا بأدونيس الّذي “ورث طقوسه مسيح المسيحيين” لأنَّ الحضارة الكنعانيّة وإن وثنيّة “كانت مُمَثَّلَة للمسيح” بحسب كمال الحاج. فالإنسان الكنعاني-الفينيقي لاحظَ أثر الطّبيعة وفصولها على كيانه الجسدي والنفسي، وأحسَّ باكرًا بمعنى العدالة والخير والشر لكلّ الشّعوب ومعنى مسؤولية المرء في ذلك، وشعرَ أنّ لا شيء يخفِّف قلقه الوجودي من الأمراض والكوارث والفناء، إلاّ موتُ إلهٍ-إنسان بطل، يضحّي ويناضل، فيتغلَّب وينتصر، ليرضي نفسه ويرضي أنصاره من قومه؛ فكما كان الإنسان ينفجر بكاءً على البعل الذي يموت ويحيا كل سنة، “غدا ينفجر بالمِثْل على المسيح الذي يموت ويحيا من أجل الآخرين كل سنة أيضًا”[16].
وبالتّالي فإنّ أسبوع الآلام وعيد القيامة هوَ صدىً لعيد قتل أدونيس وانبعاثه الموافق في بداية الرّبيع الّذي يستمرّ سبعة أو ثمانيّة أيّامٍ، حيث يبدأ بصراخ الحزن: “قد مات أدونيس الجميل البهي، حقًّا مات”، وينتهي بهتاف الفرح: “قد قام أدونيس، حقًّا قام”[17]. خلال هذه الأيّام كانت تُعرَض أشكال أدونيس من الشّمع أو الفخّار، وتُسَجّى أمام مداخل البيوت أو على السّطوح أو تُرفَع على مرتباتٍ خاصّة مزيّنة، ثمّ في الموعد المحدَّد يُطافُ بها في الطّرقات، تمامًا مثلما نجول أحيانًا بمسيرة “درب الصّليب”، عارضين أمام المنازل “صمدة” عليها صليب أو أيقونة المسيح[18].
وكما نحتفل برتبة “سجدة الصّليب” (دفن المسيح) يوم الجمعة العظيمة، ممدِّدين صليبًا أو مصلوبًا على بساطٍ أو في نعشٍ بينَ الأزهار لِنَدفُنَهُ بعد “الزيّاح”؛ كذلك كانت تقتضي رسوم طقس “الأدونيّات” عندَ الفينيقيين. فيضعون في ناووسٍ مجسّمًا لأدونيس أصفر والدّم يخرج منه، وبعدَ إتمام الاحتفال يدفنون الجثّة في القبر حتّى اليوم الثّامن، يوم البعث[19]. أمّا الأزهار المفروشة عليه، فدُعيَت بـ”الجنائن” وقد اشتهرَ بها الجبيليون، إذ كانوا يزرعون في آنيةٍ أو سلالٍ بذورًا سريعة الإنبات وسريعة اليباس لقلّة عمق جذورها كالقمح والحمص، رمزًا للمَضجع المخضوضب الّذي سُجّي عليه أدونيس المحتضر، وصورةً للإله الشّاب الّذي مات في ريعان صباه[20].
نعم! هي المشهديّة نفسها… فطقوس الموت والخصوبة تتكرّر وتتواصل، لكنَّ معناها يتغيّر ومدلولاتها تتحوّل من إلهٍ إلى إله ومن حالةٍ إلى حالة. موت أدونيس هوَ عملٌ طقسيّ وقائي لتجنُّب الضّرر والقحط والجفاف والمرض والزّوال، وموت يسوع يحمل غايةً فدائيّة خلاصيّة؛ والفرق كبير بين الوقائيّة والخلاص[21]. وخلاص المسيح لا يرتكز فقط على عملٍ فدائي أنجزه غافرًا الذّنوب ومانحًا الحياة بعد الموت، بل هوَ عبارة عن تحوّلٍ أخلاقيّ وروحيّ وسياسيّ، يُغيِّر مسار الحياة الإنسانيّة نحوَ واقعٍ تسوده قيم العدل والتّسامح والمحبّة[22]، وقد علَّمَ مرارًا بأنّه أتى لتكون لنا الحياة “وتكون أفضل” (يوحنّا10/10).
ماتَ أدونيس وقامَ يسوع لأنَّهُ جعلَ المحبَّة لغّةً، والصِّدق منهاجًا، والرّحمة شريعةً، والإنسانيّة دينًا. والاحتفال بالأسبوع العظيم المقدّس وبالعيد الكبير يكمن في موتِ إنساننا العتيق وولادة الجديد، فبقيامة يسوع زَالَ القَدِيم “وصَارَ كُلُّ شَيءٍ جَدِيدًا” (2 قور5/17). الطّقوسُ تُساعِدُنا لبلوغِ هذه الغاية بكونِها مُفعمة بالرّموز والمعاني المرشدة إلى المسيح أو إلى الثّالوث، والمحافظةُ عليها وعلى العادات والتّقاليد هوَ عملٌ فيهِ من الحكمة والمعرفة، لأنَّ الطّقوس المسيحيّة هي نتيجةَ ترسُّباتٍ حضاريّة وثقافيّة متوارَثة من الشّعوب البدائيّة والدّيانات القديمة، وقد سكبت عليها الكنيسة معنىً قياميًّا رصينًا منذ انطلاقة البشارة بيسوع.
لكن حذارِ السّعي إلى استنباطِ طقوسٍ أخرى أو إحياء بعضها كما حصلَ مؤخّرًا لمواجهة الوباء من إنارةِ تماثيل، ومزج الماء بالملح ورشه، وتزنير معابد، وتَجَوُّلٌ بالمقدّسات على العربات… ففي هذه كلّها إشارةٌ إلى أنَّ أدونيس ما زالَ جثَّةً هامدةً في العقول… فلنُحرقه قبلَ تبدُّد الرعيّة نتيجةَ الجهل والضياع وسوءِ التّعليم، وقبلَ سماعِ صوت السيِّد معلِّمًا: “مرتا، مرتا، تهتمينَ بأمورٍ كثيرة وتضطربين! وإنّما المطلوب واحد” (لوقا10/41-42).
ويبقى الرّجاء…
هذه هي المقالات الثّلاث التي دوّنتها قاصدًا منها التوسُّع المعرفيّ والثّقافي والتّاريخي. لم أقصد بها تعرية الإنسان من معطوبيّته البشريّة المحتاجة إلى ملامسة “المقدّس” ومجاورته بتصرُّفاتٍ شتّى، ولا ثنيهِ عن ممارسة الطقوس والحركات التقويّة بواسطةِ الرّموز، فهو كائنٌ طقوسيّ بحسب شيستيرتون (Chesterton) حتّى قبل قدرته على النّطق والكلام[23]، وهو رجل الرّموز بتوضيح إلياد[24] (Mircea Eliade). أردتُ فقط الدّلالة على المعنى والتصويبَ على الهدف في زمن العاصفة كما يقول القدّيس أوغوسطينوس: “كيف يتسنّى لرجُلٍ يواجه تحديات الحياة وعواصفها أن يبلغنا عن كلِّ شيءٍ كيف سيكون، وكيف ستؤول به الأحوال”[25].
نعم! لقد كشفت أزمة الوباء، “المستور”، وتمظهر ذلك في تصرُّفات بعض الإكليروس والعلمانيين الّذينَ ذهبوا بعيدًا في التّقوى متخطّين العبادة الرّصينة، راجعينَ قرونًا إلى الوراء، غافلين أنَّ الدّين يتكيَّف مع تطوّرات المكان والزّمان لخدمة الإنسان، متناسينَ أنَّ يسوع تخطّى السِّحر وكسر التّقاليد والشّرائع الجامدة، ورفع الدّين من ملجأٍ للأمن والأمان إلى مسيرةِ نموٍّ روحيّ ونضجٍ إنسانيّ متوَّجٍ بالمحبّة.
يبقى صوتُ السيِّد عندَ اضطراب البحر وتغطيةِ الأمواجِ للسّفينة: “ما بالُكُم خائفين يا قليلي الإيمان؟”(متى8/26)، هوَ الرّجاء الوحيد والمعنى المسكِّن والأُفُق اللامتناهي.
المصادر والمراجع
– البستاني، حارث فؤاد، الكنعانيّون الفينيقيّون–إشكاليّة الديانة التوحيديّة، منشورات سائر المشرق للنشر والتّوزيع، جديدة المتن، 2018.
– التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، عرّبه عن الطبعة اللاتينيّة الأصليّة المتروبوليت حبيب باشا والمطران كيرلس سليم بسترس والمطران يوحنّا منصور والأب حنّا الفاخوري، المطبعة البولسيّة، جونيه، 1999.
– جبر، أميرة، الرحّالة الفرنسيّون في موطن الأرز–دراسات وانطباعات عبر القرن التاسع عشر (1798 – 1918)، مؤسّسة خليفة للطباعة، البوشرية، 1993.
– حتّي، فيليب،
- تاريخ سوريّة ولبنان وفلسطين، ترجمة جورج حدّاد وعبد الكريم رافق، الجزء الأوّل، دار الثّقافة، بيروت، د.ت.
- تاريخ لبنان منذ أقدم العصور التاريخيّة إلى عصرنا الحاضر، ترجمة أنيس فريحة، دار الثّقافة، بيروت، د.ت.
– الحلو، يوحنّا، إعترافات القدّيس أوغوسطينوس، طبعة رابعة، دار المشرق، بيروت، 1991.
– الحوراني، يوسف، لبنان في قيم تاريخه–العهد الفينيقي – بحث في فلسفة تاريخ لبنان، دار المشرق، بيروت، 1972.
– خاطر، لحد، العادات والتقاليد اللبنانيّة، الجزء الأوّل، منشورات دار لحد خاطر، بيروت، 1985.
– روا، أوليفييه، الجَهل المقدّس–زمن دين بلا ثقافة، ترجمة صالح الأشمر، طبعة ثانية، دار السّاقي، بيروت، 2013.
– زين الدين، أحمد، الديني والدنيوي–قراءة في فكر ميرسيا إلياد، بيسان للنّشر والتّوزيع، بيروت، 2018.
– زيدنر، موشي وجيرالد ماثيوس، القلق، ترجمة معتز سيّد عبدالله والحسين محمد عبد المنعم، سلسلة عالم المعرفة (437)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يونيو 2016.
– السّنكسار بحسب طقس الكنيسة الإنطاكيّة المارونيّة، إعداد وتنسيق بولس ضاهر، منشورات معهد الليتورجيّا في جامعة الرّوح القدس (23)، طبعة سادسة مزيد عليها، جامعة الرّوح القدس، الكسليك، 2010.
– السوّاح، فراس، دين الإنسان–بحث في ماهية الدين ومنشأ الدّافع الدّيني، منشورات دار علاء الدّين للنّشر والتّوزيع والتّرجمة، دمشق، د.ت.
– شلوسر، جاك، “موت يسوع وأسبابه“، في: مجموعة محاضرين، يسوع التّاريخي، محاضرات ومقالات نسّقها وقدّم لها الأب أيّوب شهوان، دراسات بيبليّة (29)، منشورات الرابطة الكتابيّة، د.م، ص ص. 439 – 454.
– فرنجيّة، طوني، “عودة الى عادات الحرب العالمية الأولى: تزنير جدران الكنائس بالثياب“، جريدة النهار، 12 آذار 2020، موجود على: https://www.annahar.com/article/1142219، تمّت معاينته في: 13/3/2020.
– قانصو، وجيه، التعدديّة الدينيّة في فلسفة جون هيك–المرتكزات المعرفيّة واللاهوتيّة، الدار العربيّة للعلوم – ناشرون والمركز الثّقافي العربي، بيروت، 1428هـ – 2007م.
– مونِّس، يوسف، “العبادات الشعبيّة في الأنتربولوجيا والليتورجيا”، في: مجموعة محاضرين، العبادات والتقاليد الشعبيّة والليتورجيّا (سلسلة محاضرات 2006)، منشورات معهد الليتورجيّا (39)، جامعة الرّوح القدس، الكسليك، 2007، ص ص. 15 – 43.
– Kirchgassner, Alfons, La Puissance des Signes, Mame, France,1962.
[1] متّى 8/25.
[2] عنوان كتاب أوليفييه روا (Olivier Roy): روا، أوليفييه، الجَهل المقدّس–زمن دين بلا ثقافة، ترجمة صالح الأشمر، طبعة ثانية، دار السّاقي، بيروت، 2013.
[3] خاطر، لحد، العادات والتقاليد اللبنانيّة، الجزء الأوّل، منشورات دار لحد خاطر، بيروت، 1985، ص 11.
[4] التّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، 748 – 757.
[5] أُنظُر سيرة حياته في: السّنكسار بحسب طقس الكنيسة الإنطاكيّة المارونيّة، إعداد وتنسيق بولس ضاهر، منشورات معهد الليتورجيّا في جامعة الرّوح القدس (23)، طبعة سادسة مزيد عليها، جامعة الرّوح القدس، الكسليك، 2010، ص 132.
[6] الحلو، يوحنّا، إعترافات القدّيس أوغوسطينوس، طبعة رابعة، دار المشرق، بيروت، 1991، ص 7.
[7] جبر، أميرة، الرحّالة الفرنسيّون في موطن الأرز–دراسات وانطباعات عبر القرن التاسع عشر (1798 – 1918)، مؤسّسة خليفة للطباعة، البوشرية، 1993، ص 149.
[8] حتّي، فيليب، تاريخ سوريّة ولبنان وفلسطين، ترجمة جورج حدّاد وعبد الكريم رافق، الجزء الأوّل، دار الثّقافة، بيروت، د.ت، ص 130؛ حتّي، فيليب، تاريخ لبنان منذ أقدم العصور التاريخيّة إلى عصرنا الحاضر، ترجمة أنيس فريحة، دار الثّقافة، بيروت، د.ت، ص 166.
[9] جبر، المرجع السّابق، ص 149.
[10] فرنجيّة، طوني، “عودة الى عادات الحرب العالمية الأولى: تزنير جدران الكنائس بالثياب”، جريدة النهار، 12 آذار 2020، موجود على: https://www.annahar.com/article/1142219، تمّت معاينته في: 13/3/2020.
[11] حتّي، تاريخ سورية، ص 125.
[12] حتّي، المرجع نفسه، ص 126.
[13] التّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، 571 – 667.
[14] السوّاح، فراس، دين الإنسان–بحث في ماهية الدين ومنشأ الدّافع الدّيني، منشورات دار علاء الدّين للنّشر والتّوزيع والتّرجمة، دمشق، د.ت، ص 53، 54.
[15] شلوسر، جاك، “موت يسوع وأسبابه“، في: مجموعة محاضرين، يسوع التّاريخي، محاضرات ومقالات نسّقها وقدّم لها الأب أيّوب شهوان، دراسات بيبليّة (29)، منشورات الرابطة الكتابيّة، د.م، ص ص. 439 – 454.
[16] الحوراني، يوسف، لبنان في قيم تاريخه–العهد الفينيقي – بحث في فلسفة تاريخ لبنان، دار المشرق، بيروت، 1972، ص 84، 86، 97، 223.
[17] البستاني، حارث فؤاد، الكنعانيّون الفينيقيّون–إشكاليّة الديانة التوحيديّة، منشورات سائر المشرق للنشر والتّوزيع، جديدة المتن، 2018، ص 99، 103، 105.
[18] البستاني، المرجع نفسه، ص 103.
[19] البستاني، المرجع نفسه، ص 99، 100، 101.
[20] البستاني، المرجع نفسه، ص 101، 102.
[21] مونِّس، يوسف، “العبادات الشعبيّة في الأنتربولوجيا والليتورجيا”، في: مجموعة محاضرين، العبادات والتقاليد الشعبيّة والليتورجيّا (سلسلة محاضرات 2006)، منشورات معهد الليتورجيّا (39)، جامعة الرّوح القدس، الكسليك، 2007، ص 20.
[22] قانصو، وجيه، التعدديّة الدينيّة في فلسفة جون هيك (John Hick)–المرتكزات المعرفيّة واللاهوتيّة، الدار العربيّة للعلوم – ناشرون والمركز الثّقافي العربي، بيروت، 1428هـ – 2007م، ص 129.
[23] Kirchgassner, Alfons, La Puissance des Signes, Mame, France,1962, p.369.
[24] زين الدين، أحمد، الديني والدنيوي–قراءة في فكر ميرسيا إلياد، بيسان للنّشر والتّوزيع، بيروت، 2018، ص 61.
[25] عن: زيدنر، موشي (Moshe Zeidner)وجيرالد ماثيوس (Matthews Gerald)، القلق، ترجمة معتز سيّد عبدالله والحسين محمد عبد المنعم، سلسلة عالم المعرفة (437)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يونيو 2016، ص 217.