Almanara Magazine

شهداء دمشق (سنة 1860)

المطران غي نجيم

        ذكر الموسينيور جان- مشال دي فالكو، في مقدمّته للنتاج المشترك: “الكتاب الأسود لحالة االمسيحييّن في العالم”[1]، هذا ‏التأكيد للبابا فرنسيس: “إنّني مقتنع أنّ اضطهاد المسيحيّين أقوى اليوم ممّا كان عليه في القرون الأولى للكنيسة. وليس هذا ‏من باب التَّخَيُّل: فالأرقام هنا”[2]. تنقل الدراسات والشهادات المدوّنة في هذا “الكتاب الأسود”، واقعنا الحاضر. مقالتنا تهتمّ بالماضي. إنّها تزيد على مآسي ‏التاريخ، لكنّها، في الوقت نفسه، ومن داخل الفظائع التي توردها باقتضاب، تحمل رجاءً لعالمنا ولكنيستنا اليوم. وفي هذا قيمتها كما سيتسنّى للقارئ أن‎‏ ‎يدرك ذلك سريعًا. ‏

        إنّها، بالفعل، تنقل إلينا أحداثًا غنيّة لحقيقتها، أوّلاً على مستوى التفاعل بين الشعوب: يطارد مسلمون المسيحيّين لإبادتهم، ويعرّض مسلمون حياتهم للخطر من أجل المسيحيّين. وفي هذا دعوة إلى جميع العِطاش إلى البرّ كي يُفتّشوا على أمثالهم ويسيروا معًا على دروب الدنيا الشائكة، نحو الأُخوّة  الشاملة، حتّى حيث “صراعات”[3] الأنانيّة وعدم التفاهم حوّلت الأفراد ‏والجماعات إلى ذئابٍ تتآكل. ويتلاقى هذا النداء الذي تُطلقه أحداث 1860 في دمشق إلى كلّ ذي إرادة صالحة، ونداءً آخرَ يوازيه إلحاحًا وأهميّةً لكنّه ‏موجّه إلى تلاميذ المسيح وحدهم. إنّ هذا النداء الأخير مزيجٌ من العزاء والملامة: عزاء لأنّ فيه، أظهر أولاد مختلف الجماعات الأُرثودّكسيّة ‏والكاثوليكيّة والبروتستانطيّة وحدتهم وقد ضحّى جميعهم بحياتهم أمانةً لإيمانهم بالمسيح؛‏ وملامة لأنّه يبدو أنّ هذه الجماعات لم تُدرك حتّى الآن، كفايةً، مدى هذا التلاقي.‏‏

        ‏‎ ففي الواقع، تكرّم الكنيسة الأنطاكيّة الأُرثوذكسيّة، كلّ سنة، في العاشر من تمّوز، أحد كهنتها كقدّيس، والكنيسة الكاثوليكيّة ‏الغربيّة تعيّد ثمانية من رهبانها كطوباويّين، وكنيسة شرقيّة كاثوليكيّة، الكنيسة المارونيّة، تحتفل بذكرى ثلاثة من رعاياها ‏العلمانيّين، كطوباويّين أيضًا. وقد استُشهد هؤلاء جميعًا، القدّيس والطوباويّون، في النهار نفسِه: 10 تمّوز 1860، وفي ‏المدينة عينِها: دمشق، ويُحتفل بهم كلّ سنة، في كلّ الكنائس المذكورة، في يوم ذكرى استشهادهم هذا. وبالرغم من وحدة تاريخ الشهادة ومكانها والاحتفال السنوي بها، ‏تُحيي كلّ كنيسةٍ شهداءها على حدة، لا بل، بين الأُرثوذكسيّين والكاثوليك، في جهلٍ متبادل وشبه كامل لفرحتهم ‏الروحيّة المشتركة. 

        ليست قصّة شهداء دمشق الأولى من نوعها. ولا الأخيرة كما يتبيّن من فصول ‏”الكتاب الأسود لحالة االمسيحييّن في العالم”‏ ‏المتتابعة. لكن، محطّة 10 تمّوز تعود بنا  كلّ عام، نحن كاثوليكيّي الشرق، إلى‎ ‎‏الأُوَل الذين، مِن بين أجدادنا، أُعلنوا طوباويّين بحسب ‏القوانين الخاصّة بالكرسي الرسولي. كنّا، قبل ذلك، نكرّم قدّيسينا بحقّ تقاليدنا. فقد أدخل البابا بيّوس السادس عشر، رسميًّا وللمرّة الأولى، أسماءَ مؤمنين من ‏كنيسةٍ شرقيّة كاثوليكيّة في تقويم قدّيسي الكنيسة الجامعة، عندما أعلن العاشر من تمّوز عيد الطوباويّين المسّابكيّين الثلاثة. أليس في هذا عبرة، أن يكون أوّلُ مَن مِن عندنا اعترفت بهم الكنيسة الجامعة، وبحسب قوانينها، شهداء! إنّهم يرمزون هكذا، خصوصًا في خضمّ ‏الأحداث التي يتخبّط فيها حاليًّا الشرق الأوسط، إلى قافلة الذين عاشوا على مدى العصور، ويعيشون ‏بصدقٍ، بنوعٍ خاص في مناطقنا، ما كان يردّده “روفائيل”، أحد ‏‎”‎المسّابكييّن”: “الاستشهاد هو أسمى شرف لمن يؤمن بالمسيح ‏يسوع”. وهل في هذا صدفةٌ وحسب، ألاّ يكون الطوباويّون المسّابكيّون  إكليريكيّين، أساقفة أو كهنة أو ‏نسّاكًا أو رهبانًا، بل علمانيّين بسطاء، اثنان منهم رَبّا عيلة، أحدُهم، فرنسيس، تاجر والثاني، عبدالمعطي، أستاذ مدرسة. أمّا الثالث، روفائيل، فقليل المواهب، ‏كان يخدم عائلتي شقيقيه والرهبان الفرنسيسكان الذين كان يزورهم يوميًّا. وفي العاشر من تشرين الأوّل 1926، ولأوّل مرّةٍ في تاريخ كنائسنا الشرقيّة، مُثلت سمات وجوههم المألوفة في شعبنا على القماش ‏الذي يُسدل على واجهة كاتدرائيّة مار بطرس في الفاتيكان كلّما احتُفل بتطويب أحد.

        ولكي يتسنّى للقارئ التأكّد من صحّة هذه الأفكار التي أوحتها لنا أحداث 10 تمّوز1860 في دمشق، نعرض في ما يلي نظرةً ‏مقتضبة وقريبةً أيضًا، قدر الإمكان، من الواقع البشريّ المُعاش آنذاك. ‏

‏  ‏  ‏ ‏      ‏ مجزرة 1860 في دمشق

        كان المسيحيّون في القرن التاسع عشر يشكّلون حوالي 20% من سكّان مدينة دمشق. وكان العثمانيّون، أسيادُ المنطقة آنذاك، ‏في تراجع أمام صعود الدّول الأوروبّيّة. وكانت مصر سبب قلقهم الأكبر. كانوا قد أقاموا حاكمًا عليها “محمّد باشا” الذي استقلّ عنهم واحتلّ سوريا.‏‎ ‎ساعده اليهود ‏والمسيحيّون في ذلك لأنّه أصدر قوانين تساوي بين جميع الأديان.‏ وفي سوريا، أعطاهم الأفضليّة.

        لم ير الأوروبّيّون بعين الرضى احتلال محمّد باشا لسوريا. فدعموا العثمانيّين لطرده، واستفادوا ‏لزيادة تدخّلاتهم في شؤون السلطنة بحجّة علاقاتهم المميّزة مع الأقلّيّات الدينيّة: فرنسا مع الكاثوليك (خصوصًا الموارنة)، إنكلترا ‏مع اليهود والبروتستانت والدروز، وروسيا مع الأُرثوذكس.‏‎ وصادف أيضًا أنّ إعجاب العثمانيّين الجدد بعلم الأوروبيّين ومهارتهم في الحرب، كان بتزايد، وتبنّى عددٌ كبير من بينهم بعض ‏قيمهم ك”حقوق الإنسان”. فاضطّرت السلطنة، بضغطٍ منهم، أوّلاً في 1839ثمّ في 1856، إلى أن تُصدر قوانين تعترف ‏بالتساوي – في الحقوق والواجبات- بين كلّ مواطنيها، مهما كان معتقدهم أو عرقهم: أَلغت مثلاً مفهوم “الذمّة”، والضريبة المفروضة على غير المسلمين، وثبّتت الحرّيّة الدينيّة ومنعت التعذيب والعقوبات الجسديّة ‏كقطع الأيدي للسارقين. ‎‏ سُرّ اليهود والمسيحيّون بهذه القرارات. أمّا المسلمون المتشدّدون، فقد اعتبروها معاكسة للشريعة.‏‎ ‎

        ومن ناحيةٍ أُخرى، سهُل كثيرًا على المسيحيّين واليهود استيراد مُنتَجات صناعيّة أوروبّيّة، ودخلوا هكذا في منافسةٍ مع ‏الصناعيّين المحلّيّين. فاغتنوا بينما اضطرّ بعض التجّار المسلمين إلى الاستدانة منهم.‏ زد على هذا، أنّ المساعدات القيّمة التي كانت تتمتّع بها المدارس المسيحيّة من قبل القنصليّات والشعوب الأوروبّيّة، كانت تولّد ‏شرخًا مؤلماً بين نُخبةٍ مسيحيّة مثقّفة، وأكثريّة إسلاميّة أقلّ حظًّا.

        ولا يمنع كلّ ذلك السلطات العثمانيّة، من اتّباع سياسة تمييزيّة محاوِلةً إبعاد المسيحيّين عن خدمة العلم وفارضةً‎ ‎عليهم، عوضًا ‏عنها، “ضريبةَ‏‎ ‎‏ إعفاء”. رفض المسيحيّون لسنواتٍ عديدة أن يمتثلوا لهذا الإجراء.‏ وفي سنة 1860، أراد أحمد باشا، حاكم دمشق، أن يجبرهم على قبوله، ليس فقط للسنة الجارية ولكن أيضًا مع فعلٍ رجعي ‏للسنين الغابرة. وكان هذا القرار غيرَ قابلٍ للتطبيق وضربًا من التحدّي خصوصًا أنّه صدر حين كانت الحرب الطائفيّة في جبل ‏لبنان على أوجّها. ولم يخضع المسيحيّون. ‏ فردّ عليهم بعض “علماء الدين الإسلامي” بفتاوى تُؤكّد أن لا مساواة بين المسلمين والمسيحيّين في الشريعة، وبالتالي، أنّ قتل ‏مسيحيٍّ حلال إذا ما رفض دفع ضريبةِ الإعفاء.

        لم تكن النزاعات الطائفيّة أمرًا جديدًا في سوريا. ففي سنة 1840، تمّ توقيف 13 يهوديًّا بتهمة قتل كاهنٍ كاثوليكي. مات ‏أربعة منهم تحت وطأةِ التعذيب.‏‏‎ وفي 1850، في حلب، اغتالت جماعةٌ من المسلمين عشرات المسيحيّين الميسورين. ولكن، جرت أقسى النزاعات سنة‎ 1860‎، ‏في جبل لبنان، عندما ثار الفلاّحون الموارنة على الإقطاعيّين الدروز.‏ استشفّ العثمانيّون في ذلك محاولةً من قبل الموارنة لإعادة الأمير بشير، حليف سابق لمحمّد علي باشا، إلى الحكم. فشجّعوا ‏الدروز، تارةً كمتفرّجين، وطورًا كمشاركين في المجزرة التي امتدّت في ما بين 200 و380 بلدةٍ وقرية، من بينها دير القمر ‏وجزّين وراشيّا وحاصبيّا وزحلة. حصيلة هذه الأحداث: قُتل كلّ رهبان الجبل وكهنته وأكثر من 22,000 مسيحي (مصادر لا تزال بحاجة إلى تدقيق)، ودمّرت حوالي 570 كنيسة ونُهبت المنازل. لم ينج من المجزرة سوى الذين استطاعوا ترك المنطقة أو إيجاد ملجإٍ لدى صديقٍ لهم درزي لم توقظ بساطة وضعه شكّ المعتدين، ‏أو كان بوسعه مجابهتهم؛ وإلاّ قُضي على الحامي والمحمي. ‏ وفي 18 حزيران 1860، سقطت مدينة زحلة، آخر معاقل المقاومة المارونيّة بين أيدي الدروز المسانَدين علنًا من العثمانيّين. ‏وتحالف السنّة والشيعة مع الدروز.  ‏

        بدأت تظهر، ساعتذاك، في ضاحية دمشق، على جدران الكنائس، نداءات تدعو إلى إنهاء أمر المسيحييّن. فلجأ 60,000 ‏منهم بدافع الخوف، إلى داخل المدينة، إلى حيّ المسيحيّين. اضطرّ أغلبيّتهم إلى البقاء فيه، وفي العراء، ليلهم ونهارهم، لكثرة ‏عددهم. اعتنى بهم أهالي الحيّ، مسلمون ومسيحيّون، محاولين حمايتهم من المتطرّفين الذين كانوا يصرعون بلا تردّد كلّ مسيحي ‏يصادفونه.  ‏‎

        أمّا حاكم المدينة، فقد أخذ يؤجّج الحقد بين المسيحيّين والمسلمين، متجاهلاً الضغط الذي كان قناصل الدول الأوروبيّة يمارسونه ‏عليه، وموهمًا كلّ فريق أنّ الآخر يضمر له أشدّ عداء.‏ ولم تتّضح حتّى الآن أسباب تصرّفه هذا.‏ وبينما كان مناصروه يعيّدون للأخبار الآتية من لبنان، كان المسيحيّون ينزَوون في بيوتهم أو يبحثون عن ملجإٍ، غالبًا لدى ‏أصحابٍ لهم مسلمين، وانشلّت الأشغال في المدينة.‏ وكان الأمير عبد القادر الجزائريّ، أيضًا، في المدينة حيث اختار إنهاء أيّامه بعدما نفاه الفرنسيّون ثمّ حرّروه وكرّموه. توقّع حصول ‏ما كان يجري ونظّم اجتماعاتٍ استشاريّة بين السلطات المدنيّة وشيوخ المدينة وعلمائها لإقناعهم بأنّ ما كان ليحصل كان مسيئًا ‏للإسلام ومناقضًا لقيمه. وتحسّبًا للأسوأ، وبغية حماية المسيحيّين، جنّد ما يقارب الألف مقاتل، جميعهم متطوّعون وبأغلبيّتهم ‏جزائريّون. وقد دعمه، مادّيًّا، قنصل فرنسا. ‏

         ‎ ساد في أيّام تمّوز الأولى هدوءٌ اطمأنّ إليه المسيحيّون. فعادوا إلى أشغالهم، ولكن بحذر، بينما كان أجانب عديدون يُغادرون  دمشق، ‏وبحمايتهم بعض أصحابٍ لهم سوريّين. وفي الواقع، كان المقاتلون، من دروزٍ وغيرهم، يتجمّعون حول المدينة. وفي صباح 2 تمّوز، استفاق المسيحيّون ليروا صلبانًا مرسومةً على أبواب بيوتهم وعلى أرضيّة أزقّتهم. كان هذا من عمل أولادٍ ‏أرادوا أن يطأ  المسيحيّون الصلبان بأرجلهم. فاستدعى الحاكم هؤلاء المذنبين الصغار وأمر بأن يُكبّلوا بسلاسل، ويحملوا مكانس ‏ويُجَرّوا لتنظيف شوارع حيّ المسيحيّين.

        اعتبر المسلمون أنّ المسيحيّين هم سبب هذا المشهد المذلّ وإن لم يريدوه مباشرةً، ويجب أن يدفعوا ثمنه. وعندما اقترب الموكب ‏من الجامع الأُموي، هاجم رجالٌ الحرّاس وفكّوا سلاسل الأولاد. انضمّ إليهم أشخاصٌ أتوا للصلاة وبعض التجّار. وأصبحوا ‏بلمحة بصر، حوالي …,.5 بين مسلمٍ ودرزيّ وكرديّ وقاطع طرق. وبينهم نساءٌ وأطفال. كلّهم مسلّحون بالعصي والفؤوس ‏والخناجر والسكاكين وبعضهم بالبنادق. اندفعوا نحو حيّ المسيحيّين. ويبدو أنّهم تلقّوا الأمر ألاّ يقتلوا سوى الرجال والكهنة. أمّا في الواقع، فلم يُشفِقوا على أحد وقتلوا ‏أطفالاً لم يبلغوا بعد العاشرة من عمرهم. خَتنوا منهم من كان دون هذه السنّ وتوفّي بعضهم من جرّاء نزاف عنيف. أخذوا ‏الفتيات واغتصبوا عددًا كبيرًا منهنّ، وأفرغوا بيوتًا وكنائس وأديرة من كلّ محتوياتها قبل إضرام النار فيها.‏ ‏‎  

‎            وقد كانوا يُعطون، أحيانًا، مجالاً للمسيحيّين كي يعترفوا بالدين الإسلامي، ومَن رفض، كان يُستعبد أو تُبتر أطرافه قبل أن ‏يُقطع رأسه وتُحرق جثّته. وبعد ساعات قليلة، انضمّ الجند الموكلون بحراسة الحيّ، وكتائب عسكريّة أُخرى، إلى ‏المشاغبين. واختفى الضبّاط والسّياسيّون وعلماء الجماعة وأعضاء المجالس الحكوميّة، عن الساحة، ولم يحاول أحدٌ منهم ‏أن يضع حدًّا للمذبحة. وحوالي الثامنة مساءً من النّهار ذاته، احتُلّت بالقوّة، مكاتب البطريركيّتين الأُرثوذكسيّة والملكيّة، والكنيسة الأرمنيّة ومراكز ‏الجمعيّات الخيريّة المسيحيّة. واندلع حريقٌ في الكنيسة “المريميّة” الأرثوذكسيّة وامتدّ إلى كلّ الحيّ.‏

 ‏    ‏  ‏  ‏ ‏‎ ‎‏ ‏‎ ‎‏ ‏‎  ‎‏    ‏‏ ‎‏  ‏  استشهاد الأب يوسف الحدّاد، قدّيس دمشق

        وفي اليوم التالي، 10 تمّوز، خرج الخوري يوسف مهنّا الحدّاد، كاهن الكنيسة “المريميّة” المذكورة، يخفي وجهه تحت عباءته. كان ‏يحمل القربان الأقدس إلى المرضى، وبشجّع المؤمنين كي لا يخافوا من يستطيع أن يقتل الجسد ولا يقدر أن يقتل النفس (متّى ‏‏10/26)، ويقبلوا الاستشهاد إن اقتضى الأمر. ‏ وكانت ترافقه كنّته. ولدى وصولهما إلى جنب الكنيسة، عرفه أحد المهاجمين فصرخ: “هذا هو إمام المسيحيّين”. عَرف الخوري ‏يوسف للتوّ أنّ ساعته أتت، فأخرج القربان المقدّس من عبّه وابتلعه كي لا يُدنَّس. فأمسكوه وطلبوا منه أن يعترف بالإسلام. رفض. فبدأ التعذيب: قطعوا له أصابعه الواحدة تلو الأخرى، سائلينه كلّ مرّة أن يُنكر ‏إيمانه المسيحي. وكان يرفض دائمًا. فقطعوا أنفه وشوّهوه جدًّا قبل أن ينصبّوا عليه ضربًا بالفؤوس والرصاص. ثمّ جرّوا جثّته عبر ‏شوارع دمشق.‏‏ وما أمانة الخوري يوسف هذه لربّه إلاّ تتويجًا لحياةٍ مبنيّة أصلاً على صخرة الإيمان بالمسيح. وكان وُلد في أيّار من سنة 1793. لم ‏يتلقّ في صغره سوى نُتَف ثقافة، ولكن تعطّشه للعلم حمله على بذل جهودٍ شخصيّة غير عاديّة لاكتسابه. عمل نهارًا أعمالًا يَدويّة، ‏ودرس ليلاً حتّى بلغ درجات علمٍ عالية خصوصًا في مجالي اللغّات والدين. ‏ أتقن اللغتين اليونانيّة والعربيّة وترجم نصوصًا عديدة من إحداهما إلى الأُخرى. شارك في مراجعة الطبعة العربيّة “لندن” للكتاب ‏المقدّس، بإدارة “فارس الشدياق” الذي طلب منه أن يقارن بين الترجمة والأصل العبري واليوناني. قال فيه الأُستاذ “حبيب ‏أفندي الزيّات”، ابن الطائفة الملكيّة إنّه كان “الأشهر بين أبناء الأُرثوذكسيّة العربيّة، من حيث العلم والوعظ”. يُحسب من روّاد ‏النهضة العربيّة. ونظرًا لتقواه ومؤانسته وذكائه وتبصّره، التمس أهالي دمشق من البطريرك سارافيم أن يُعيّنه كاهنًا لرعيّتهم. فسيم شمّاسًا ثمّ كاهنًا ‏في أسبوعٍ واحد وعُيّن لخدمة الكاتدرائيّة “المريميّة” سنة 1817. واستحقّت له مثابرته في مساعدة البؤساء وتعزية المرضى، تقدير الجميع. عنى هكذا عن كثب بالمصابين في أثناء وباء الحمّى الصفراء، غير مبالٍ بخطر العدوى المباشرة والمميتة التي قضت بالفعل على حياة أحد أبنائه. عاش فقيرًا، ما زاد في شعبيّته وتأثيره قوّةً… ومات فقيرًا. ومن إنجازاته الثابتة التي يجب تسجيلها، الدفع الذي عرف أن يُعطيه ‏للمدرسة البطريركيّة. فقد ازدهرت هذه المدرسة بشكلٍ ملحوظ حين كان مسؤولاً عنها. كما أنّه كان قادرًا على متابعة ‏منافسات فكريّة مع العلماء، يعرض فيها حججه بحكمة واتزان، ما كان يفخر به رعاياه. ‏‎ 

        ‎‏ أعلنه مجمع الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة، في الثامن من تشرين الأوّل 1993، “قدّيسًا”، وعُيّن نهار عيده في العاشر من ‏تمّوز، نهار ذكرى استشهاده. ‏

  ‏ ‎‏ ‏      ‎ استشهاد الإخوة المسّابكيّين (علمانيّين) والإخوة الفرنسيسكان (رهبان)‏

        وكانت الكنيسة الكاثوليكيّة سبقت وأعلنت “طوباويّين” ثمانية رهبانًا فرنسيسكان (سبعة إسبان ونمساويًّا واحدًا) هم: الآباء ‏عمّانويل رْويِز، كارمِلو فُولْتا، إنغِلبيِرتو كُولْلانْد، أَسكانيو نيكانوره، بْيِترو سُوليِر، نيقولا ألبيِرتا، والإخوة فرانشسكو بيِنازو ‏ودجانْجاكومو فرنانديز؛ وثلاثة أشقّاء سوريّين علمانيّين موارنة هم فرنسيس، وعبدالمعطي، وروفائيل مسّابكي.

وكان فرنسيس وعبدالمعطي، وعائلتهما، وأخوهما روفائيل، يبدأون نهارهم دائمًا بالصلاة وبالمشاركة في القدّاس الإلهي ويتناولون ‏جسد الربّ في دير الآباء الفرنسيسكان القريب من منزلهم. ومن ثمّ ينصرفون إلى أشغالهم. وكانوا يجتمعون عند المساء للصلاة ‏على غرار أغلبيّة العائلات المسيحية في بيئتهم وأيّامهم متأمّلين في شهر آذار بحياة القدّيس يوسف، وفي شهر أيّار بحياة ‏العذراء مريم.وكانت تقواهم قائمة على التزامهم بروحانيّة الرهبانة الفرنسيسكانيّة الثالثة العلمانيّة وممارسة دائمة للفضائل:

        فرنسيس، الأكبر، كان أبًا لثمانية أولاد، نشيطًا ومبادرًا، جمع ثروةً بفضل إدارته الحسنة ودقّته واستقامته في تجارة الحرير. وكانت ‏البطريركيّة المارونيّة وعائلات لبنانيّة كثيرة توكّله بأعمالها في سوريا، لأنّه كان شخصًا موثوقًا به. من الطبيعي بالتالي أن يقصده ‏المسلم والمسيحيّ، معوزين كانوا أو أصحاب مشاريع بناء دور عبادة. وكان يتجاوب بسخاء مع طلباتهم. مضياف، كان بيته ‏مفتوحًا لكل دانٍ وقاصٍ.  ‏

        عبدالمعطي، الثاني كان أبًا لخمسة أولاد، منجذبًا بكلّيّته بالأمور الدينيّة. كان يصوم، علاوةً على الأيّام المفروضة، كلّ نهار ‏سبت، ويُكثر من مناسبات القطاعة. كان يُعلّم في مدرسة الفرنسيسكان، ولمّا تقدّمت به السنّ، فتح له أخوه فرنسيس حانوتًا. لم ‏ينجح بإدارته له كما يجب لأنّ همّه الأكبر كان الأمانة للربّ ومساعدة الناس، لا ربح المال. وهو الذي كان يقول ‏لتلاميذه: “‏أسمى شرف لمن يؤمن بالمسيح، الاستشهاد”. 

        روفائيل، الأصغر ظلّ عازبًا وكرّس ذاته لعائلتي شقيقيه وللفرنسيسكان الذين اعتادوا رؤيته ساجدًا أوقاتًا طويلة في ‏كنيستهم. شغله الشاغل، تكريم العذراء مريم.

‏ ‏  ‏     وفي اليوم المأساوي، 10 تمّوز، حين اندلع الحريق في حيّ الأُرثوذكس، كان فرنسيس وعبدالمعطي وعائلتاهما وشقيقهما روفائيل ‏مجتمعين يراقبون تطوّر الأحداث. وأمام تدهورها، ذهبوا إلى دير الفرنسيسكان مصطحبين  معهم كبار أولادهم. أمضوا ‏الساعات الأولى من هذا النهار في الكنيسة  في مناجاة الله والعذراء مريم وجميع القدّيسين. أجروا فحص ضمائرهم، اقتربوا من ‏سرّ التوبة، احتفلوا بزيّاح القربان وتناولوا جسد الربّ. ثمّ صعدوا إلى سطح الدير، ما عدا فرنسيس الذي بقي في الكنيسة ‏ساجدًا أمام أيقونة مريم، الأم الحزينة. وصل المعتدون من بابٍ سرّي كشف لهم عنه حسن، قيّم الدير.   ‏

        التقوا أوّلاً بالأب الرئيس، عمّانوئيل رويز فقال لهم: “تعالوا لأُريكم كنزًا مُخبأً في الكنيسة”. ولدى وصوله إلى المذبح، أشعل ‏شمعتين، فتح بيت القربان وتناول القربان المقدّس الموضوع فيه ثمّ قال: “ليس لي كنزٌ آخر”. فقتلوه على الفور.‏

        لاحظوا حينها فرنسيس. عرفه اثنان منهم كان قد أرسلهم عبدالله الحلبي، شيخ العلماء الذي كان فرنسيس، منذ شهرين أقرضه ‏‏8000 قرشًا. عرضوا عليه من قِبَل معلّمهم أن يصير مسلمًا. أجابهم بهدوء:  ‏‏”يستطيع الشيخ عبدالله أن يحتفظ بمالي. وتستطيعون أنتم أن تأخذوا حياتي. أمّا إيماني، فلا يقدر أحدٌ أن يسلبه منّي. لا ‏أستطيع أن أنكر إلهي الذي قال: ’لا تخافوا ممّن يقتل الجسد. خافوا ممّن يستطيع أن يُلقي الجسد والنفس في جهنّم. أنا ‏مسيحي”. وعاد إلى صلاته. فانهالوا عليه بالضرب بقبضة الأيدي والخناجر والسيوف والفؤوس، فتبعثر لحمه في كلّ الكنيسة. ‏

        رفض أخواه أيضًا نكران المسيح وقُتلا بطريقة أكثر وحشيّة، عبدالمعطي في باحة الكنيسة، وروفائيل، داخل الدير. لم يحظ ‏الفرنسيسكان بنصيبٍ أفضل.‏‎ ‎وبحسب التقليد، وكما تؤكّد مجمل الشهادات، دُفنت كلّ هذه الضحايا وغيرها، في‎ ‎‏ الدير. ‏وهكذا، “اختلط، دم أبناء مار مارون، من الشرق، ودم أبناء مار فرنسيس الروحيّين الآتين من الغرب، في بوتقةٍ واحدة: وهذه ‏الشهادة الواحدة والعظمى للأمانة ليسوع المسيح مسجّلةٌ على الدوام وعلى ارتفاع حسنٍ ومجيد في ذاكرة الدهور “[4]. ‏

وفي هذه الأثناء

        كانت التصرّفات الإجراميّة تتفاقم‎‏ داخل المدينة وخارجها: أُحرق دير الفرنسيّين، ولكن نجا رهبانه بفضل عبدالقادر ورجاله؛ ‏خُرّبت وأُحرقت القنصليّات الروسيّة والهولّنديّة والبلجيكيّة والأمريكية واليونانيّة وكلّ البعثات الإنجيليّة الأُوروبّيّة والأميركيّة. وجد ‏موظّفوها ملجأً، هم أيضًا، في منزل عبدالقادر؛ نجا جميع القناصل ما عدا الأمريكي والهولّندي.

        لم تُصب بأذى قنصليّة إنكلترا، الحليفة الأولى للسلطنة، وقنصليّة بروسيا والذين لجأوا إليهما. نجا أيضًا من المجزرة من كان ‏ساعتئذ في الأحياء المحفوظة للمسلمين، أو خبّأه مسلمٌ في داره، أو استطاع أن يصل إلى قلعة دمشق التي كانت بحماية عسكر ‏هاشم آغا الذي عارض ما كان يجري.

        بذل عبدالقادر وعددٌ لا بأس به من عقلاء المنطقة، كصالح وسليم آغا المهَيْني، محمود افندي حمزي، عمر آغا العبد، سعيد ‏النوري، فارس آغا شُومّر، أبو عثمان جيري، محمّد آغا سوَيدان، درويش آغا، نجل أحمد آغا اليوسف، حجّو أفندي الرفاعي، ‏السباعي، أحمد الترك وغيرهم، جهودًا كبيرة كي يضعوا حدًّا للمذبحة ولكن بدون جدوى. ‏

        مُنعوا من التصدّي للمشاغبين واضطرّوا إلى الاكتفاء بالمحاولة لإنقاذ من يستطيعون تخليصه. واجه الشرفاء المسلمون في “حيّ ‏الميدان”، خارج أسوار المدينة، سويًّا وباتفاقٍ مشترك، المشاغبين الذين أُرغموا على التراجع. وقد ذهب بعض هؤلاء الشرفاء إلى النزول، هم ورجالهم إلى داخل المدينة لسحب المسيحيّين الموجودين فيها إلى أماكن آمنة. ‏امتلأت بيوتهم سريعًا منهم. ونجا هكذا مئاتٌ من الأشخاص‏. وفي “صيدنايا”، في جوار دمشق، تحصّن مطران السريان الكاثوليك في دير جهّزه على شكل قلعة. ‏ استطاع بهذا أن يتصدّى لهجومات المتشدّدين المتكرّرة بالرغم من أنّ فرقة خيّالة كانت تساندهم. ‏

        هدأت الأحداث إلى حدٍّ ما، في الغد، 11 تمّوز، لتشتدّ من جديد في 12 منه عندما جازف بعض المختبئين في غُرفٍ سرّيّة، ‏أو في داخل البيوت، أو في آبار، أو حتّى في المجارير، في الخروج منها. حدث جرّاء ذلك قتالٌ نتج عنه مصرعُ  المسيحيّين الذين حاولوا الفرار جميعًا. وأُمر المسلمون الذين كانوا لا يزالون يحمون ‏المسيحيّين، بأن يسلّموهم، وإلاّ أُحْرقت بيوتهم بكلّ محتوياتها. رضخ الضعفاء وسلّموا من لجأ إليهم، وفقد من جديد المئات ‏حياتهم. ولكنّ كثيرين تحدّوا المتمرّدين، كما فعل عبدالقادر الذي هدّد بالقتال حتّى الموت إن تجرّأ أحدّ على مهاجمة مسيحي ‏واحد في منزله. 

        انخفض القتل تدريجيًّا واستتبّ الهدوء بعد أسبوع. وكانت الحصيلة أن قُتل حوالي 20,000، من بينهم حوالي 30 كاهنًا و10 ‏رعاة بروتستانت، واغتُصبت أكثر من 400 امرأة، ونُهبت سائر المنازل والحوانيت، والكنائس والأديرة والمدارس ومراكز ‏الإرسالية، ودُمّرت 11كنيسة و 4 أديرة، وتحوّل بين  1500 و 3000 بيت ومخزن إلى ركام حجارة وترابٍ قذر.‏‎ نُصبت خيم في قلعة المدينة للذين أُنقذوا، وكانوا بأغلبيّتهم نساءً وأطفالاً مجرّدين من كلّ شيء. واضطرّت أكثريّتهم إلى البقاء في الهواء ‏الطلق، والسّماء كوّنت سقفًا لهم ليلاً ونهارًا.‏

‎‏  ‏‎ ‎‏ ‏ ‏‏   ‏ عبدالقادر الجزائري

        نظنّ أنّه من المناسب أن نكرّس الآن صفحة للأمير عبدالقادر الذي قام بدورٍ إيجابي لافت في هذه الأحداث. وُلد في ‏الجزائر ‏سنة 1808 وربّاه والداه على التقوى ومخافة الله بحسب المدرسة الصوفيّة “القادريّة”[5]. انكبّ باكرًا على دراسة ‏الفلسفة ‏والقرآن. لم يقدر عنفوانه على القبول بالاستعمار.  ‎‏وإذ كان بعد في الرابعة والعشرين من عمره، أطلق ضدّ الفرنسيّين حرب عصابات كان قد جنّد لها حوالي 40,000 رجلٍ. احترم ‏الخصومان أصول القتال الأخلاقيّة: معاملة حسنة للمساجين، احترام الاتفاقيات المعقودة، والسعي الصادق لإيجاد حلول ‏عادلة للصراع. ولكن، ابتداءً من سنة 1941، لجأ بعض المسؤولين الفرنسيّين إلى أساليب أُخرى: إضرام النار في القرى، ‏إتلاف محاصيل، قتل أولاد دون الخامسة عشرة من العمر، نقل نساء وأطفال إلى جزر في المحيط الهادئ، بركانيّة ومقفرة، إلخ. ‏انتُقدت هذه الإجراءات غير الإنسانيّة بشدّة، حتّى في فرنسا. اختار عبدالقادر أخيرًا أن يسلّم نفسه كي لا يُكبّد شعبه بؤسًا ‏أكثر. وعدته سلطات الاستعمار بتسهيل رحيله إلى مصر، لكنّهم سريعًا ما تراجعوا عن قرارهم وأخذوه بالقوّة إلى فرنسا، هو ‏وعائلته وأشخاصٌ أُخر من حاشيته. وطيلة 5 سنوات، نقلوه من سجن غير صحّي إلى سجن أسوأ.‏

        وسنة 1852 أصبح، فجأةً، شخصيّةً بارزة في المجتمع الأوروبّي بفضل الإمبراطور نابوليون الثالث الذي أمر ‏بتخليته، متأثّرًا بالعرائض الكثيرة التي كانت ترده من فرنسيّين وإنكليز استاؤوا من ظلم المعاملة التي أُخضع لها الأمير. وسيساهم هذا بعدم حنق عبدالقادر على فرنسا. بل بالعكس، قويت ‏قناعته بأنّه يوجد دائمًا وأينما كان أناسٌ ذوو أخلاقٍ رفيعة، وسيبني لنفسه صداقاتٍ متينة وحقيقيّة في كلّ أنحاء أوروبّا. وحطّ ‏أخيرًا رحاله في دمشق بموجب اتفاقٍ فرنسي- عثماني. وسيُعتَبر بمثابة رمزٍ لمن يقف بوجه الطغاة ويدافع بحزمٍ عن حقوق الناس، ‏نظرًا لمواقفه الجريئة طيلة حياته، بما فيها أثناء مأساة 1860 في دمشق.  ‏ ‏‎ ‎‏    ‏

بعد المجزرة

        لما وصل خبر المجزرة إلى الباب العالي، غضِب السلطان عبد الحميد غضبًا شديدًا. ما كان يرغب إطلاقًا في الدخول بحربٍ مع ‏الأوروبيّين، خصوصًا أنّ ما حدث في دمشق تخطّى المعقول، وبحقّ أُناسٍ عزّل لم يرتكبوا جُرمًا سوى رفض دفع ضريبة الإعفاء من ‏الخدمة العسكريّة. فـأرسل على عجلٍ فؤاد باشا، أحد أقوى قوّاد جيشه. منحه كامل السلطة لاستعادة النظام وفَرْض العدالة. أقام فؤاد باشا فور ‏وصوله برفقة قضاة من اسطنبول، محاكم استثنائيّة أصدرت بسرعة أحكامًا نُفّذت من دون تأخّر. ‏

أهمّ هذه الأحكام:  ‏

        ‏-‏ عقوبات: الإعدام شنقًا في الساحة العامّة (247)؛ رميًا بالرصاص نظرًا لمرتبة المحكومين الرسميّة، ومن بينهم حاكم ‏دمشق والمسؤول عن الفرقة المكلّفة بحماية الحيّ المسيحي (110)؛ غيابيّا (83)؛ الأشغال الشاقّة (438)؛ النفي مدى الحياة ‏‏(291)؛ الأشغال الشاقّة لإمام الجامع ومفتي دمشق لأنّهما أصدرا فتاوى‎ ‎تحرّض على القتل؛ الخدمة العسكريّة بعيدًا من  ‏سوريا لألفي شاب من الذين كانوا يُثيرون الشغب.‏‎ ‎‏  ‏

‏        -‏ تعويضات: يعود المسيحي الذي أَسلَم تحت الضغط إلى إيمانه (حوالي 500)؛ تُعاد الممتلكات المسروقة إلى أصحابها؛ ‏يتسلّم المسيحيّون كلّ ما هم بحاجة إليه من أمتعة؛ تُمنح 4 منازل خاصّة بمسلمين إلى المسيحيّين ويسكن هؤلاء فيها ‏بانتظار إعادة بناء بيوتهم؛ يكون منزلٌ من هذه الأربعة بمثابة كنيسة لكلّ الطوائف؛ تُفرض ضريبة على مسلمي الولاية ‏بكاملها وعلى دروزها لتأمين التعويضات المستحقّة للمسيحيّين المتضرّرين؛ تُطلق أشغال إعادة بناء حيّ المسيحيّين فورًا، من ‏صندوق الدولة. ‏

‏        -‏ تقدير: يُعفى من ضريبة التعويضات المسلمون الذين حموا المسيحيّين. ويُقدّر عددهم بألفين. تلقّى هؤلاء رسائل ‏شكر وأوسمة من غير بلد. وكان من بين الذين هنّأوا شخصيًّا عبدالقادر: أبراهام لنكولن، رئيس الولايات المتّحدة ‏الأميريكيّة، والملكة فيكتوريا، ملكة إنكلترا. ومنحته فرنسا أعلى وسام تقدير لديها، مداليّة “صليب الشرف الكبير”. فقد أنقذ، بحسب قنصل فرنسا وقتذاك، 11000 شخصٍ. ‏

وفي النهاية

        إنّنا نؤمن نحن المسيحيّين بالتاريخ كمساحة عملٍ للروح القدس في البشريّة إعدادًا لمجيء ملكوت الله فيها. نعلم أنّ هذا المجيء ‏يتمّ من درب صليبٍ إلى درب صليب ظافرٍ في الشهداء والقدّيسين، “جسر” متين نحو المجد. ولمن يؤمن بكلمة الله المتجسّد، أعظم المواهب التي تسمح له أن يساهم في تحقيق قصد الله ‏الخلاصي هي القدرة على تمييز تجلّيات الروح في ضوضاء الأحداث. ويُظهر تاريخ شهداء دمشق، غيرَ حقلِ عملٍ للروح القدس. ألمّحنا إلى هذا في مقدّمة المقالة. ونعود إليه في هذه الخاتمة لأنّ العنف نفسه يتجدّد في عالم اليوم، خصوصًا في البلدان العربيّة وفي أفريقيا وآسيا، ‏وبالأخص في منطقة دمشق.‏

        يتعلّق الموضوع أوّلاً بأمانة الإخوة المسّابكيّين. إنّها ترمز إلى أمانة شعبٍ بكامله. قُتل معهم، في الوقت ذاته، حوالي 20,000 ‏ مسيحيّ كما قلنا آنفًا. وكان بوسع العديد من بينهم نكران إيمانهم المسيحي للنجاة بحياتهم ولكنّهم رفضوا. وكانوا، بأغلبيّتهم، على غرار شهداء أيّامنا، ‏أناسًا عاديّين من تلك التربة الشعبيّة الجيّدة التي فيها يُزهر القدّيسون: ‏”‏قداسة أهلي: والدي ووالدتي وجدّتي روزا…”  كما يقول البابا فرنسيس‏‎[6].‎ وقد أثار إخوتنا المصريّون والحبشيّون والعراقيّون والسوريّون والسودانيّون وغيرهم إعجابنا، لسنتين خلتا، حين آثروا الألم والموت على ‏‏نكران المسيح. كانوا يشهدون بذلك لإيمان أهلهم وبيئتهم. وقد سنحت لنا‎ ‎قنوات التلفاز بأن نسمع أحدهم يلفظُ الروح ‏مناجيًا: “يا يسوع ساعدني”، على الأرجح بالصيغة التي تعلّمها من أمّه. ‏

        يُستشفّ تجلَّ آخرُ لعمل روح الله في العالم، في شجاعة مسلمين عديدين عارضوا الظلم الذي كان يرتكبه أُخوةٌ لهم في الدين ‏تُجاه المسيحيّين. ونقلنا آنفًا استنتاجًا أنّه يوجد في كلّ مكان أشخاصٌ ذوو إرادةٍ صالحة في حالة إصغاءٍ إلى الروح يُناديهم. ‏تضافُرُ تفكيرهم وقواهم ضمانةُ خلاصٍ وسلام. ويؤكّد صحّة هذا الرأي بالرغم من كلّ الظواهر التي تعاكسه، تأكيدٌ يأتينا ‏من حيث ‏لم يُنتظر، من بلدٍ كثيرًا ما يُتهم بالتواطؤ مع ‏الإرهاب، من الباكستان، وطن حوالي ..3 مليون نسمة، 96% منهم مسلمون. فقد توصّل أحد مسيحيّي هذا البلد، بفضل الصداقات التي عَرف أن يبينها في كلّ الأوساط، إلى أن يُنتخب نائبًا، وأن يُصبح من ‏ثمّ وزيرًا للأقلّيات، منصب لم يوجد قبله.‏‎ ‎هُدّد مرارًا لأنّه لم يُخفِ مسيحيّته واغتاله أخيرًا جماعة “طالبان” في 2 آذار  2011. حلّ محلّه على الفور، أخوه بولس الذي ‏صرّح في إحدى شهاداته سنة 2014: “يجب إيجاد معاهدة، تضعها لجنة مؤلّفة من شخصيّات مرموقة، من كلّ الطوائف، مستعدّة للتدخّل ‏لوضع حدّ للعنف فور ظهوره. إنّني مقتنع بأنّ المعركة من أجل السلام ستنجح، لخير الجميع ولخلاص باكستان”.‏

   أخيرًا وخصوصًا، تتجانس مأساة شهدائنا في دمشق، بشكل ملحوظ، مع ردّة فعل البابا فرنسيس في 16 شباط 2015 على اغتيال 21 قبطيًّا مصريًّا ‏في ليبيا. فقد قال بالمناسبة عبر محطّة راديو الفاتيكان وبعدما اتصل هاتفيًّا ببطريرك الأقباط الأُرثوذكس، البابا ‏تاودروس الثاني: ‏”اغتيلوا لأنّهم مسيحيّون وحسب. إنّ دم إخوتنا المسيحيّين هو شهادة صارخة. لا يهمّ إن كانوا كاثوليكًا، أو أُرثوذكسًا، أو أقباطًا أو ‏لوثريّين: إنّهم مسيحيّون! والدمّ هو نفسه. لا فرق في وهب الدمّ. وهب الدمّ يعني الشهادة للمسيح”, ثمّ يطلب “أن نشجّع بعضُنا بعضًا على السير قدمًا ‏في هذا العمل المسكوني، مسكونيّة  الدمّ التي تُشجّعنا”. ‏

وقد شكّلت مأساة تمّوز 1960 في دمشق “مسكونيّة الدمّ” بامتياز لأنّ، في أثنائها، ولأوّل مرّةٍ في التاريخ، استُشهد كاثوليك وأُرثوذكس ‏وبروتستانت، من الشرق والغرب، سويًّا للمسيح، كجسدٍ واحد، ببذل حياتهم. والعاشر من تمّوز، على علمي، هو النهار الوحيد الذي يجمع الكنائس الكاثوليكيّة والأُرثوذكسيّة، للاحتفال بذكرى أبطال حدث ‏واحد ‏مقدِّس ومشترك[7].‏

        ولتتحقّق وحدة الذين يُؤمنون بالربّ يسوع، وليلتقِ ويتعاضد كلّ الأشخاص الصادقين المحبّين للبشر، وليستفِق عقل الذين ‏يقبّلهم ضلال الحقد والعطش إلى التسلّط، وليستتبّ التفاهم والأمان في كلّ أرضٍ موجعة، باستحقاقات المسيح والعذراء أمّه، ‏وشفاعة شهداء دمشق وجميع الشّهداء والقديّسين. ‏


« Le livre noir de la condition des chrétiens dans le monde »   (Paris 2014) [1]

[2]‏‏ ‎ ‎نفس المرجع صح 13  ‎

3 راجع كتاب صاموئيل هانتنغتن “صراع الحضارات”.

[4]  المطران بشارة الشمالي أمام البابا بيّوس العاشر في تقديمه مسألة المسّابكيّين سنة 1926

                  Mgr Béchara Chemali devant le Pape lors de sa présentation du cas des Massabkis en ‎‏1926‏‎.‎

[5]  “القادريّة” هي مدرسة أو “صراط”  لاهوتّة – روحية الأكثر انتشارًا في العالم الإسلامي. مبادئها الأساسيّة  عائدة إلى الإيراني  عبدالقادر الجيلاني (1077 – 1166)، أحد الصوفيّين الأُول في الإسلام. من هذه المبادئ: ممارسة “الذكر”، فضائل التواضع والتسامح والمحبّتة والفقر.

 [6]  ‎  عن مقابله أجراها له الأب “سبادارو” ونشرت  بالفرنسيّة في كتاب “الكنيسة التي أتمنّى”

 «  L’Église que j’espère », entretien avec le Père Spadaro, Flammarion/Études 2013, p. 65‎

[7]  تختلف تواريخ أعياد القدّيسين المشتركين بين هاتين الكنيستين: يعيِّد الغرب مار باسيليوس الكبير في 1ك2، والشرق في 2ك2؛ يعيِّد ‏الغرب مار يوحنّا فم الذهب في 13 أيلول، والشرق في 30 ك2 ؛ يعيِّد ‏الغرب مارغريغوريوس النيصي في 9 آذار، والشرق في 10 ك2؛ يعيِّد ‏الغرب مار أفرام السرياني في 9 حزيران، والشرق في 28 ك2؛ يعيِّد ‏الغرب مار غريغوريوس النزينزي  في 2 ك2، والشرق في 25 ك2؛ يعيِّد الغرب مار كبريانوس القرطاجي في 14 أو 16 أيلول، والشرق في 31 آب؛ يعيِّد الغرب مار أوغوسطينوس في 28 آب، والشرق في 15 حزيران؛ يعيِّد ‏الغرب مار أنطونيوس الكبير، في 17 ك2، والشرق في 30 ك2؛… أمّا لشهداء دمشق في 1860،  فالشرق والغرب يعيّدانهم في نفس النهار. 

 ‎

Scroll to Top